عند دراسة الرّؤية السّرديّة لا بدَّ من الالتفات إلى الرّاوي وموقعه، فموقع الرّاوي بالنسبة للأحداث عامل رئيس من عوامل تجسيد الرّؤيا التي يراد إيصالها للمتلقّي،فبذلك يعدّ الرّاوي العنصر الرئيس في الفنّ القصصيّ، فلا تكون القصّة إلّا به: سواء روى مباشرة بلسانه في نصّ القصّة، أم من خلال شخوص قصّته، وهو في الحالتين تقنيّة إلزاميّة في الهندسة القصصيّة. فالكاتب يختفي خلف الرّاوي الذي يشكّل أداة وظيفيّة لها دلالتها، فقد يفضّل الاختفاء التّام، أو المشارك، أو الحيادي، ويُبنى على كلّ نوع من هذه الأنواع بين الظهور والتّخفي، موقع من الأحداث والشّخصيّات في القصّة وموقف منها.
ويُذكر في هذا السّياق أنّ من يحدد شروط اختيار هذه التّقنيّة (الرّؤية السّرديّة) دون غيرها، هي الغاية التي يهدف إليها المؤلّف عبر الرّاوي، وهذه الغاية لا بدّ أن تكون طموحة، أي تعبّر عن تجاوز معيّن لما هو كائن، أو تعبر عمّا هو في إمكان الكاتب، فموقع الرّاوي ورؤيته بشكل أو بآخر يعود للمؤلّف؛ لأنّنا من بداية النّص إلى نهايته نصغي إلى صوت وهميّ ينقل لنا ما يراه، وما يقوله وما يسمعه، كما ينقل لنا ما يريده وما يخشاه وما يذكره، "فالمؤلّف المجرّد يخلق، والرّاوي يبلّغ".فالرّؤية السّرديّة تعدّ أحد مداخل قراءة القصّة، وسبر أغوارها، وتنم عن فلسفة الكاتب، وزاوية رؤيته لمكونات نصّه.
ويمكن الإشارة هنا إلى أنّ الرّؤية السّرديّة تأتي أكثر وضوحاً في القصّة القصيرة وبطريقة أكثر تحديداً منها في القصّةوالرّواية؛ لأن القصّة القصيرة تستمدّ جزءاً من جوهرها عبر التقاط الموقف المأزوم ونقله بطريقة سريعة وفنّيّة، فـــ" القصّة القصيرة المحكمة هي سلسلة من المشاهد الموصوفة، التي تنشأ خلالها حالة مسبّبة تتطلّب شخصيّة حاسمة ذات صفة مسيطرة، تحاول أن تحلّ نوعاً من المشكلة من خلال بعض الأحداث، التي ترى أنّها الأفضل لتحقيق الغرض".
ومن الجدير بالذّكر أنّ الرّاوي يدخل في صلب الحديث عن الرؤية السّرديّة، ولا سيّما أنّ "الرّواة يختلفون في أشكال الحضور وكيفيّاته. فمنهم من يجهد النّفس ليكون حضوره في ملفوظه علنياً صريحاً؛ فيتدخّل باستمرار مفسراً ومقوماً ومتأمّلاً، ومنهم من يُؤثر التّخفّي والتّنكّر".
ويمكن التّعرف على رؤية المؤلف من خلال الرّاوي في قصص شعلان من جانبين:
الأوّل: هو موقع الرّاوي الذي يقبع فيه؛ أي زاوية الرؤية التي يرى أشخاصه انطلاقاً منها.
الثّاني:علاقة الرّاوي بالقصّة؛ من حيث صلته المعرفيّة بالأحداث والشّخصيّات التي تدور في القصّة.
وقد تبلورت معرفة الرّواة في قصص شعلان، قياساً لمعرفة الشّخصيّات، عبر رؤيات متنوعة، محققة بذلك تنوعاً ولّد في المتلقّي أسئلة عدّة حول الغاية من ذلك، وآثارها على مجموعاتها القصصيّة.
وسوف نحاول في هذا الفصل التّعرف على زاوية الرؤية لدى الكاتبة، وأنواع الرّؤى (الرّاوي)، من خلال الاستشهاد ببعض قصص الكاتبة. ونختار قصّة (صانع الأحلام) داخل مجموعة الكاتبة القصصيّة(مذكرات رضيعة)، حيث يقول الرّاوي:
"على الرّغم من أنّه صانع الأحلام، وأعظم حالمي القرن العشرين إلا أنّه يكره هذا الحلم، الذي يشلّ لحظاته، ويتداعى أمامه ألماً يضاف إلى الألم الذي يشعر به، ولا يدرك معناه أو يفهم سببه. حبيبته ريم هي الشيء الجميل في هذا الحلم، يفتح ذراعيه لها، يدعوها بابتسامته العريضة الغارقة في ملامحه الشّاميّة الهادئة إلى أن تودّع لحظات الفراق في حضن حنانه، تكاد تفعل، لكنّها تبتعد، وتبتعد، ويبقى صوته معلّقاً في الفراغ، وهو يصرخ بصوت مكتوم: (ريم...لا تبتعدي ريم، احذري...ريم أين أنتِ؟).
لم يكن قد رآها منذ زمن طويل، هي وحيدته الجميلة بين ثلاثة ذكور، كانت زهرة بيته قبل أن تتزوّج زياد الملّا، وترحل معه إلى لبنان، وتستقر معه هناك، وتهبه طفلين رائعين، احترق شوقاً لهذا اللقاء، فهو لقاء بعد فراق طويل، هو جاء من أمريكا مع زوجته، وهي جاءت من لبنان على وعد الأفراح، أطلّت من البعيد بابتسامتها الطفوليّة السّاحرة، رأى فيها طفلته الصّغيرة التي كانت تركض نحوه، فتح ذراعيه لها، كانت على بعد خطوتين منه عندما جاء الموت على شكل انفجار مرعب، هزّ المكان، وأطاح بزجاج قاعة الاستقبال في فندق (جراند حياة) عمّان حيث ينزل".
إنّ المسافة التي تفصل هذا الرّاوي عن الشّخصيّات، هي التي أتاحت له فرصة رؤية العالم القصصي كلّه في القصّة التي يقدمها؛ نظراً لأنّ موقعه يكون في زاوية خارجيّة تبعد عن الشخصيّات القصصيّة، وهذا الموقع جعله على معرفة بكل ما يدور في القصة، سواء أكان موضوع هذه المعرفة داخل الشخصيات أم خارجها،لكونه يتحدّث باسم الشخصيات وتُعرف آراؤها من خلاله، كما إنّه يعلم مصائر الشخصيّات وحقيقة أفعالها. فيلاحظ أنّ الرّاوي في القصّة عليم بكلّ شيء عن شخصيّاته (الرّاوي العليم)، فيعرف شخصيّة مصطفى العقّاد – وهي الشخصيّة المحوريّة – وعلاقته بابنته الوحيدة (ريم) التي أحبّها بجنون، حيث عزمت على السّفر مع زوجها (زياد الملّا)، لتستقر معه هناك، لكن القدر فاجأهما بهذه النتيجة المأساويّة.
تتّسع رؤية الرّاوي وعلمه التّام بكلّ مجريات الأحداث التي دارت بين شخصيّات القصّة، فهي رؤية شاملة ذات بُعد واسع، استطاع من خلالها الرّاوي الإشارة إلى المكانة المرموقة التي كان يحظى بها (العقّاد) كقوله: (وأعظم حالمي القرن العشرين). فالرّاوي قدّم سرده بموضوعيّة كلّيّة، عارفاً بما يجول في نفوس شخصيّاته، وكيفيّة تفكيرها، عن طريق راوٍ خارجي عليم مسيطر على السّرد. ففي هذا الضّرب من السّرد يكون الرّاوي عالماً بكلّ شيء فيما يخصّ شخصيّاته حتى أفكارها السّردية فيقوم بعرضها للقارئ بعلميّة تامّة.
ويكشف الرّاوي عن الحالة النّفسيّة للشّخصيّة (العقّاد)، كقوله: (أنّه يكره هذا الحلم)، وأيضاً عندما ودّع ابنته عند السّفر وهو يصرخ بصوت مكتوم: (ريم لا تبتعدي، احذري، ريم أين أنتِ؟)، فالرّاوي قدّم لنا هذه الأوصاف الدّاخلية للشخصيّة، واسمعنا صوتها الباطني، حيث كان من المستحيل معرفة ما يدور داخل الشّخصيّة من غير هذا الموقع والزاوية للرّاوي، فثمّة سمات نفسيّة لا يمكن أن يوحي بها النّص، إلّا من خلال الرّاوي العليم.
ومن الملاحظ أيضاً أنّ الرّاوي يختصر الزّمن في قوله: (كانت زهرة بيته قبل أن تتزوّج زياد، وترحل معه إلى لبنان، وتستقر معه هناك، وتهبه طفلين رائعين)، ولا يفصّل بالتّعريف بالمكان، فاكتفى هنا فقط بذكر البلد (لبنان)، ويستعجل أيضاً في الكشف عن الحدث الرئيس للمتلقّي، قبل أن تعرفه الشخصيّة نفسها، كما في حادثة التّفجيرات التي حدثت في عمّان، التي حالت دون اللقاء بين الأب وابنته.
نلاحظ في المقطع السّرديّ التالي، أنّ هيمنة الرّاوي العليم وسيطرته على السّرد تتراجع، فيقوم بوصف الأحداث بواسطة (عين الكاميرا)، وهنا الرّاوي ينقل ما أمامه بأمانة دون تعليق على ما يحدث، بل يترك للقارئ بأن يستنتج ما يشاء ويقتصر دوره على النّقل، والسّرد هنا يقدّم سمات الشّخصيّة الخارجيّة فقط، من غير الالتفات إلى صفات الشّخصيّة من الدّاخل، حيث يقول الرّاوي:
"عندما جاء الموت على شكل انفجار مرعب، هزّ المكان، وأطاح بزجاج قاعة الاستقبال في فندق (جراند حياة) عمّان حيث ينزل. في لحظة غدا المكان جزءاً من الجحيم، الجثث في كلّ مكان، والحبيبة ريم غدت جثّة هامدة لا روح فيها، ومع صوت الجلبة أسلم نفسه لغيبوبة قد تنقذه من آلامه الرّهيبة، ونسي كلّ شيء، لكنّ الجلبة ازدادت، والصوت تعالى، كانت أصواتاً تطلب الأكسجين، وتصدر تعليمات سريعة لإنقاذه، أفواه كثيرة لفظت اسمه، فتذكّر أنّه مصطفى العقّاد، صانع الأحلام، صانع أجمل حلمين حلم (الرّسالة) وحلم (عمر المختار أسد الصّحراء)".
يختلف حضور الرّاوي عين الكاميرا، في المثال السابق،فنجد الرّاوي (الكاميرا) في القصة، يتداخل في الصّوت مع الرّاوي شموليّ المعرفة، من حيث كشفه للعواطف والأفكار، ولكن مهمّة الرّاوي عين الكاميرا كانت مقتصرة على تقديم الأحداث، فمن خلال المقطع السّردي السّابق يسلّط الرّاوي (الكاميرا) الضوء على شخصيّات معيّنة، وكأنّه في مكان ما داخل القصّة، حيث يقوم الرّاوي بتسليط عدسته على الشّخصيّات الرئيسيّة في القصّة من الخارج، ووصف ما يشاهده أمامه فقط، "والواقع إنّ الرؤية الخارجيّة المحض (الكاميرا)، أي التي تكتفي بوصف أفعال، لنا أن ندركها دون أن يصاحب ذلك أيّ تأويل وأي تدخّل من فكر البطل (الفاعل)".
وقد ابتعد الرّاوي عين الكاميرا، تاركاً بذلك المجال للرّاوي شمولي المعرفة ليكشف سمة معيّنة، حيث يكون تدخّله بحذر شديد وواعٍ، ولعلّ تدخّل الرّاوي العليم في هذه المقاطع السّرديّة، ومنها: (نسي كلّ شيء)، وأيضاً جملة (تذكّر أنّه مصطفى العقّاد، صانع الأحلام)؛ لوصف الحالة النّفسيّة للشّخصيّة من الدّاخل، وما تعاني منه، فضلاً عن وصف الجو الذي توجد فيه الشّخصيّات؛ وأيضاً لربط الحبكة؛ لكي لا تفقد القصّة جاذبيتها بالوصف الخارجي المفرط، وكأن الرّاوي يريد أن يشاركه (المروي له) المعرفة التي لا تدركها الشّخصيّات فيكشف جانبًا من الشخصيّة له، ليُــثــير فيه شفقة وتعاطفًا، دون أن يتدخّل أو يبوح بمشاعره الخاصة، فالرّاوي العليم يمنح الرؤية السّرديّة وظائف جديدة تتعلّق بالمعرفة الكلّيّة، التي تجعله عالماً بأفكار الشّخصيّات، وما يدور في أذهانها من توجّسات وأفكار، متعدّياً على ما يمكن أن يعلمه الرّاوي الشاهد (الكاميرا)؛ ليدخل في دائرة عالم الأسرار.
على الرّغم من هيمنة سلطة الرّاوي في أحداث القصّة، إلّا أنّه سمح لبعض الشّخصيّات بأداء وجهة نظرها ولكن بنسبة ضئيلة، ومثال ذلك عندما أُدخل إلى المستشفى، وبدأ الكادر الطّبيّ بمعاينته، إذ تتولى الشّخصيّات التّصريح بالمعلومات، وما مرّت به من أحداث، على لسان الشّخصيّات:
"(هو في حالة خطيرة) يقول أحد الأطبّاء.
(أتظنّه سينجو) يسأل ممرض بقلق بادٍ.
(مسكين لقد ماتت ابنته على الفور) تقول ممرضة بأسىً."
اختفى صوت الرّاوي هنا؛ ليفسح المجال للشّخصيّات أن تعبّر عن رؤاها، لعرض أمر يخصّها أو الكشف عنه، فالرّاوي هنا قليل العلم بما يدور في نفوس شخصيّاته، مع ملاحظة تقدّم الشّخصيّة وتوليها زمام الحكي، من دون أنْ نلمح قدرة الرّاوي على الكشف عن بواطن شخصيّاته أو التّوغل في أعماقها النفسيّة، فمن خلال هذه الشّخصيّات استطعنا التّعرف على حالة (العقّاد) الصّحيّة، بوساطة الإخبار الذي جرى على لسان الشّخصيّات.
في المقطع السرّدي اللاحق لا نجد الرّاوي العليم يحافظ على حياديّته، وإنّما يعود إلى هيمنته وسيطرته على السّرد، وقد اتّضحت معاودة الهيمنة عندما بدأ الرّاوي بسرد المونولوج الدّاخلي لشخصيّة (العقّاد)، يقول الرّاوي:
"يسود صمت رهيب، فيقدّر أنّه لن ينجو من الموت، يكاد يبتسم هازئاً من الجبن والجبناء، بل ومن الموت، لكن إصابته البالغة تمنعه من ذلك، يشعر ببرد يحاصر جسده شبه العاري المستسلم لمبضع الأطباء، ولعشرات الأجهزة الطّبيّة، ذلك الأكسجين الذي يعطى له يهبه شعوراً رائعاً، شعوراً بالحياة مثلاً، ليته يستطيع أن يتحرّك من مكانه، ليته يمتلك قوّة عظيمة تجعله قادراً على اصطياد أولئك المجرمين الذين حوّلوا أرضه إلى جهنّم، وقتلوا الأبرياء".
يمسك الرّاوي العليم من جديد مهمّة سرد الأحداث سرداً تفصيلياً، ويسبر لنا أغوار الشّخصيّات أحياناً، ويبحث في المسببات؛ليرسم لنا الحالة الصّحيّة والنّفسيّة التي يعاني منها (العقّاد) في مرضه، وفقده لعائلته. ويمكننا أن نلحظ أيضاً سلطة الرّاوي على مجريات السّرد؛ حيث لم يسند المعلومات إلى أي شخص، وإنّما أسندها إلى ذاته ولم يخبرنا من أين حصل على كلّ هذه التفصيلات، لذا فهو يحافظ على الرّاوي العليم الشّمولي في القصّة، الذي ينظر إلى الأحداث من مكان خارج القصّة نفسها. "وحقيقة أنّ هذا الرّاوي يمتلك موضعاً خارج عالم القصّة، مما يجعل من السّهل علينا أن نتقبّل ما لا يمكننا تقبله في الحياة الواقعيّة".
ومن الجدير بالذّكر أنّصياغةالقصّة جاءتمنخلالالراوي،فثمةسرد (تقديمالراويالتّصويري) وثمّةعرض (حوارالشخصيات المشهدي)،مع ملاحظة أنّالسّرد والعرض يَردان بنسب متفاوتة فيالنّصوص السّابقة، في قصّة (صانعالأحلام)،ثمّة كلام للشخصيات يوجّهه الرّاوي،ولايترك للشخصيات فرصة لتبادلالحوار،فقدطغى السّردعلى العرض،وذلك بسبب هيمنةالرّاوي الخارجيا لذييُسيطرعلى الرّواةالآخرين الذيني قدمون القصّة. وقام الرّاوي بالتّركيز على الحدث بالدّرجة الأولى، بلغة بسيطة، معبّرة، مشوّقة في الوقت ذاته؛ لأنّه يروي أحداث قصّة واقعيّة حدثت في إحدى فنادق عمّان.
ولمّا كان حضور الرّاوي العليم (الخارجي) طاغياً في القص، فقد واصل وظيفته في كونه المعرّف الأول بالشخصيّة، بذكر بعض سماتها الظاهريّة والخارجية كشخصيّة (العقّاد) وبعض الشّخصيّات الهامشيّة، وظلَّ مشاركاً مع المؤلّف في ذلك، مع التّنويه أنّ صوت المؤلّف يختلف عن صوت الرّاوي؛ فالمؤلّف يقطع السّرد ليصف الشّخصيّة، أمّا الرّاوي فيقوم بوصف الشّخصيّة من خلال السّرد. أيضاً من مهامّه، كشف العلاقة التي تربط الشّخصيات التي يجهلها القارئ نفسه، كعلاقة العقّاد بابنته والشخصيّات الأخرى، ومثال ذلك قول الرّاوي:
(هي وحيدته الجميلة بين ثلاثة ذكور). وقام كذلك بالكشف عن أفكار الشّخصيّات وعواطفها المضمرة، ففي القصّة يكشف الرّاوي عمّا يدور في ذهن (العقّاد) اتجاه زوجته: (فيحمل حزنها الموزّع بين البكاء والخشوع)، وهي فكرة مضمرة لم يعرفها الآخرون، سوى الرّاوي الذي كشفها وربطها بسلوك الشخصيّة فيما بعد. وقام أيضاً بدور المحلّل النفسي في سلوك الشّخصيّة (العقّاد)، وربطها بأسباب معيّنة دفعت الشّخصيّة لتصرّف معيّن، ودليل ذلك عندما كشف لنا الرّاوي عن أمنية (العقّاد) الباطنيّة التي لم نسمعها نحن،وهي أن يشفى من جراحه وأن يصحو من غيبوبته؛ ليقوم بإخراج مجموعة من الأفلام إضافة إلى أفلامه السّابقة، مثل:(وا معتصماه، ومحمّد الفاتح، والإمام الحسين)، فاختيار هذه الأمثلة من العناوين لأفلامه حسب ما أخبر به الرّاوي؛ جاء للتأكيد على أنّ الحروب الصليبيّة كانت نوعاً من الإرهاب الدّيني، فذلك يكشف عن سمة نفسية استأصلها الرّاوي من باطن شخصيّته.
ومما يذكر أيضاً للرّاوي (الكاميرا)، كونه يعدّ معرّفاً بالشّخصيّة وسماتها التي لا تُربط بدور معيّن، وأيضاً يعمل على استحضار الرّاوي الشمولي المعرفة عندما تقتضي الحاجة حضوره، بحيث يتداخل الرّاويان، للكشف عن صفات لا يستطيع الرّاوي (الكاميرا) كشفها. إضافة إلى ذلك دوره الأساسيّ في ترتيب الأحداث وفقاً لزمنها المنطقيّ. وأخيراً يقع على عاتقه نقل الحوار بين الشّخصيّات من خلال استخدام الفعل (قال).
ومن الأمثلة أيضاً على الرؤية السّرديّة عند الكاتبة في قصّتها (صوت الصّمت)، في مجموعتها القصصيّة الموسومة بــ(مقامات الاحتراق)، حيث يقول الرّاوي:
"من الميزات المفترضة التي يعدّها ساكنو أسطح المنازل من الفقراء للأعشاش التي يعيشون فيها، وتسمى بيوتاً، أنّها تشرف على الأحياء، فتراها من علٍ، حيث تُرى الأشياء من هناك على حقيقتها، فمن يرى من علٍ يرى الأمور كما هي، لا كما يعتقد، أو كما يفترض، وهذه مقولة تحتاج إلى نقاش، ولكن ما يعنيني من هذه المقولة أنّ من يرون من علٍ قد يعجزون كذلك عن رؤية جيرانهم من سكان الأسطح على حقيقتهم".
في بداية المقطع السّردي يُعرض الإيضاح من قبل شخص فوق وأعلى من كلّ الناس والأشياء في القصّة، إذ من الواضح أنّ الرّاوي يعرف كلّ الحقائق، وله القدرة على اختراق الجدران، والتّنقل بين سطوح المنازل، من غير أن يسأله أحد من أين جاء بمعلوماته، ومن الملاحظ أيضاً أنّ الشّخصيّات مغيّبة من قبل الرّاوي حتى الآن، فيشرع الرّاوي بوصف المكان وصفاً تفصيلياً، فيصف المنازل التي شبّهها بالأعشاش، والأحياء الفقيرة التي أرهقها الفقر.
يربكنا الرّاوي فيما بعد بهذه الكلمات (ولكن ما يعنيني من هذه المقولة)، فيتسلّم مهمّة السّرد الرّاوي الدّاخلي، ونلاحظ حضوره من خلال إسناد الرّاوي شموليّ المعرفة الدورَ له بوساطة (الشّخصيّة الرئيسيّة)، ويتابع سرده بضمير المتكلّم، ويقول:
"أنا شخصيّاً اكتشفت في تلك الليلة أنني على الرّغم من فضولي الإنساني العجيب لم أرَ فتحيّة جارتي منذ عامين على الرغم من أنني احترفت مراقبة الجيران، سكان البيوت المتزاحمة حدّ التدافع في الحي، وحفظت عن ظهر قلب محتويات أسطحها من الخردة والقمامة والأحذية البالية والملابس القديمة وحبال نشر الملابس".
عندمايتقمّص الرّاوي الدّاخلي زمام الحكي في السّرد يروي الأحداث من وجهة نظره بضمير المتكلّم غالباً، فيكون شخصيّة رئيسة في القصّة؛ بحيث تظهر الأحداث والشّخصيّات وكأنّها ظلال في العقل الباطن للرّاوي (الشّخصيّة). فالعالم القصصي يظهر بواسطة الرّاوي الدّاخلي، ويصبح جزءاً من تجربة ذاتيّة تقدّم إلينا من خلاله، ومن هنا فإنّ الأشياء تبدو ممتزجة بالأحاسيس والمشاعر والانفعالات، ولهذا فالرّاوي يمزج نقل الأحداث بعواطفه الخاصّة وأفكاره.
ومن الملاحظ أنّ الرّاوي قام بتقديم الشّخصيّة (فتحيّة)، التي لم يرها منذ زمن،تقديماً مبدئياً، مع أنّ الرّاوي يصرّح بأنّه يجيد فنّ المراقبة مراقبة الجيران، الذين يسكنون البيوت المتزاحمة، وما تحتويه من خردة وقمامة وملابس بالية، فالرّاوي ينظر إلى تلك البيوت نظرة متشائمة ودونيّة.
الرّاوي في القصّة محدود المعرفة، قليل العلم بما يدور في نفوس شخصيّاته، مع ملاحظة تقدّم الشخصيّة (الرّاوي) وتولّيها زمام الحكي، إذ جاء السرد بضمير المتكلم (أنا) العائد على (الشخصيّة الرئيسيّة)، يقوم عادة برواية قصّته، الذي لم يصرّح باسمه، ليقصّ علينا ما جرى معه وجارته (فتحيّة)، من دون أنْ نلمح قدرة الراوي على الكشف عن بواطن شخصياته أو التوغل في أعماقها النّفسيّة، وإنّما بوصفها من الخارج، كشكلها، وهندامها، وفقرها، ودليل ذلك ما تخبر به الشّخصيّة الرئيسيّة (الرّاوي الدّاخلي):
"اعتدتُ على رؤيتها بسحنتها السّوداء القديمة، وقسماتها البارزة، وهيكلها العظمي المتدثّر بثوب أسود قديم، تذرع المكان ذهاباً وإياباً دون أن تنبس ببنت شفّة، حتى خلت أنها لا تراني، وقد راقني ذلك، فأنا باغي هدوء وخلوة، وهي ليست المرأة التي قد يطمح الرّجل إلى الحديث معها، فهي أقرب إلى طلل امرأة يخلو من رقّة أو أنوثة".
فنحن في هذا المقطع السّردي لا نعلم مِنَ المرأةِ إلّا اسمها؛ لأن الرّاوي لا يصف إلّا المظهر الخارجي لها، وكأننا أمام (كاميرا) تعرض لنا صورة لهذه المرأة، حيث لا يمكن لهذه (الكاميرا) الولوج إلى داخل الشّخصيّة، وما تفكّر به.ومن الملاحظ أيضاً أنّ الرّاوي الدّاخلي كان مشاركًا في أحداث القصّة، فهو يقصّ ما شاهده بنفسه، ويتدخّل أحياناً في بعض مجريات القصّة.ويبرز لدينا أيضاً استطراد الرّاوي في ذكر مميزات ذاته ومنها (أنّه فضولي، ويحب الهدوء).
وفي النّهاية فإنّ الرّاوي يقدّم شخصيّاته، سواء أكانت رئيسيّة أم ثانويّة، في ظلّ دائرة ما يدركه من حيث ثقتنا بما يرويه؛ فنحن نثق بسرده أخباره؛ لأنّه شخصيّة داخل الحدث، وينقل لنا ما يراه وما يسمعه، بعكس الرّاوي العليم، الذي يدخل إلى بواطن الشّخصيّات ويغوص بأفكارها وعواطفها من غير إذن، فهو شخصيّة خارج عالم القصّة، يبتدعه المؤلّف لينقل إلينا الخبر، ولعلّ الرّاوي الدّاخلي أقرب إلينا. ويلاحظ أيضاً أنه ليس في (صوت الصمت) من يُقدِّم القصّة كاملة بهذه الرؤية الداخلية، ولكنّ الرّاوي الدّاخلي يظهر بعد أنْ يُقدّم القصّة راوٍ آخر(الرّاوي الخارجي العليم)، على اعتبار أنّ ما يرويه –الرّاوي الدّاخلي– متولّدٌ عن الحدث الرئيس أو مُولِّدٌ له، فالرّاوي الدّاخلي يعد من أحد المواقع التي استعملت في تقديم القصّة.
ومن أهم سمات الرّاوي الدّاخلي بناء على ما سبق:
1ـ المساعدة على كشف سمات الشخصية الدّاخليّة، من خلال استحضار الأحداث من الذاكرة، أو من خلال الأحلام التي تفكر فيها الشخصية، في توقعاتها واستنتاجاتها لأشياء ممكنة الوقوع.
2ـيعطي انطباعاً واقعياً للقصّة، من خلال سماع صوت الشخصيّات المشاركة في الحدث مباشرة.
3ـإنشاء حبكة من خلال ما يقدمه الرّاوي، فالرّاوي له حضور أساسي في عالم القصّ، علاوة على كونه طريقة في السّرد.
ومن الأمثلة أيضاً على الرؤى السرديّة التي استعملتها الكاتبة في مجموعاتها القصصيّة، قصّة (ابن زُريق لم يمتْ)، في مجموعتها القصصيّة (تراتيل الماء)، حيث يقول الرّاوي:
"جلس بفخر متعال لا يناسب إخفاقاته المتكرّرة التي كبّدته خسائر جسميّة بالتّرقيات وساعات عمل إضافيّة مجّانيّة حدّ تسلّخ إبطيه، وتعفّن أصابع قدميه في حذائه الرّسميّ العتيد، ولكن هذه هي لحظة الانتصار المنتظرة، رقّص رجلاً فوق رجل".
الرّاوي هنا صاحب شخصيّة مهيمنة ومستقلّة عمّا يحكي بضمير الغائب. فالكتابة بضمير الغائب أكثر الأشكال السّرديّة تجذّراً في فنّ السّرد، فضمير الغائب أكثر الضمائر شيوعاً، بل وأيسرها تلقياً من قبل المتلقّي، وباستعمال الرّاوي لهذا الضمير، يمكّنه من الاختفاء وراء النّص؛ ليقوم بمهمّة السّرد دون المشاركة في الأحداث.
قام الرّاوي في المقطع السّردي السّابق بوصف شخصيّة مبهمة إلى الآن، فالقارئ المتمعّن يستشف أنّه رجل مخلص للعمل ومحب له، ومقبل عليه حتى إنّه خسر صحّته ومثال ذلك ما ورد في السّرد (تسلّخ إبطيه، وتعفّن أصابع قدميه). فالرّاوي هنا عليم، قام بتقديم أوّلي للأحداث ووصف الشّخصيّة من الدّاخل والخارج، ونلاحظ بجلاء كيف أنّ الرّاوي في هذا السّرد لا يشكّل جزءاً من مادته الحكائيّة، بل مثل شخصيّة غريبة عن النّص، فظلّ خارج القصّة، مستتراً بضمير الغائب، سارداً لأحداث قد وقعت لشخصية داخل العمل القصّصي معتمداً في ذلك على رؤية سارد عليم.
في المقطع التالي يتلاشى حضور الرّاوي المهيمن في القصّة، ويبدأ بالذّوبان داخل الشّخصيّات، وتتسلّم هي مهمّة الحكي والسّرد، ويستعمل الرّاوي في ذلك الفعل (قال):"قال بثقة فضفاضة تناسب ابتسامة شدقيّة: (هذا هو الدّليل) رفع المدير حاجبيه ثمّ قطّبهما دون مبالاة، وقال: (الدليل على ماذا؟)
قال باعتزاز من حلّق فوق سوامق الجبال ووطئ الغيوم بقدميه: (الدّليل عل أنّ ابن زريق لم يمت).
هزّ المدير رأسه، وطوّح كتفيه كناية عن أمر لم يفهمه الموظّف، وقال: (من هو ابن زريق هذا؟)
- (صاحب القصيدة العينيّة الشّهيرة).
- (أيّ عينيّة؟). سأل المدير بصبر فارغ وتقزّز."
عمد الرّاويهنا إلى ترتيب الأحداث وبثّها للقارئ بشكل مرتب الأجزاء والمقاطع، مصوراً أفعال الشخصيّات وحركاتها تصويراً دقيقاً، حين عرض لنا ردّة فعل (المدير)، إثر سماعه نبأ (ابن زريق) الذي لم يفهم أمره للآن، فنقل الرّاوي صورة مرئية لشخصيّة (الموظّف، والمدير)، وهو يطرق برأسه وقد بان على ملامحه فقدان الصّبر، فكان فعلاً بمثابة العين والأذن، اللتين سجلتا كلّ ما حدث من دون التّدخل في ذلك؛ كون الرّاوي مجرد (شاهد)، وليس عنصراً أساسياً في السّرد.
ومن الجدير بالذّكر أنّ الرّاوي هنا ليس (داخلياً)، أي شخصيّة مركزيّة في السّرد، والذي يشكّل جزءاً من المادة المحكيّة، ويقوم بعرض وقائعها، وإنّما يتحدّث الرّاوي هنا بلسان الشّخصيّات؛ ليسرد للمروي له ما جرى من الأحداث، ولكن مع وجود راوٍ آخر وكأنّه جالس مع شّخصيّات القصّة، ينقل لنا الحوار الدائر بينها في زاوية معيّنة داخل عالم القصّة، فيقوم بوصف الشّخصيّات وهي تتبادل الحوار مثل (حلّق فوق سوامق الجبال، طوّح كتفيه كناية عن أمر لم يفهمه الموظّف، سأل المدير بصبر فارغ وتقزز)، وهذه الأوصاف لا نستطيع أن نتعرّف عليها إلا من خلال تدخّل الرّاوي (الأنا الشاهد) الذي ينقل لنا الصورة المباشر والصّادقة عن الشّخصيّات، فهي "نوع من الوعي الكلّي الجماعي، أو هي الخالقة التي تبدع كلّ شيء، وهي (المؤلّف)، لذلك تحيط بالشخصيّات علماً من الدّاخل والخارج معاً، ولا تمتزج بأيّة واحدة منها، إنّها المؤلّف نفسه".
ومما يبرز لدينا أيضاً أنّ هذا الرّاوي بخلاف الرّاوي البطل الذي احتل المركزيّة في السرد (الموظّف)، فالرّاوي (المشاهد) يحفل بدور هامشي وشخصيّة ثانويّة ترافق البّطل، وتنقل ما يقع أمام ناظريها من وقائع وأحداث في زمان ومكان يحدّده الرّاوي، من دون أنْ تشارك فيها، فالراوي الشاهد إذن "هو راوٍ حاضر لكنه لا يتدخل، لا يحلل، إنّه يروي من الخارج، عن مسافة بينه وبين ما أوجز، يروي عنه"، فكلام الشّخصيّات وتوزيع الحوار يقع على كاهل الرّاوي (الشاهد)، مما يعطي للشخصيّات فرصة لتبادل الحوار.
ويرد أيضاً على لسان الشّخصيّات (الموظّف)، بعض من أبيات شعر ابن زريق البغدادي، الذي قال:
"لا تعذليـــــه فإنَّ العَـــــــــذْلَ يُــولِعُـــــهُقد قُلْـــتِ حقـــاً ولكـــن ليـس يَسْمَــــعُهُ
جاوزتِ في لَـــــومــه حــــــــدَّاً أضـــــــرَّ به من حـيث قدّرتِ أنَّ اللومَ يَنفعُـــهُ
فاستعملي الرِّفق في تَأنيبه بــــــــدلاً من لَومه فَهُوَ مُضنى القلبِ مُوجعُهُ
وقال المدير باستهزاء بادٍ: وماذا قال أيضاً؟
قال:
وإن تَنَـــــلْ أحـــداً منّـــا منيّتُـــهُ فمــا الــذي بقضــاء الله نصنعــه".
ترد الأشعار هنا على لسان الشّخصيّات في النّص، بحيث تكون جزءاً من الحوار بين (الموظّف، والمدير)، اللذين صرّح بجنسيتهما الرّاوي وهما من جنسيّة أمريكيّة يعملان في شركة تأمين، حيث تأتي هذه الأشعار تعليقاً على حدث ما، ولعلّها إضافة من المؤلّف لتتضمن المغزى في التّوضيح لشخصيّة (ابن زريق)، صاحب هذه الأبيات، وكيف أصبح حال المواطن العراقي بعد الاحتلال الأمريكي، فقد سُلبت جميع ممتلكاته، حتى كلمات شعره ادْعَوا أنّها مسروقة وملفّقة من شاعر أمريكي، فيصفه الموظّف بأنّه (مخادع ولص، وتاجر لعوب)، ودليل ذلك ما يقوله الموظّف:
"قهقه الموظّف قهقهة مصنوعة بدقّة، وقال بل هو لص كبير، أراد أن يخدعنا، بل ويخدع كلّ الناس والتّاريخ والشعر الجميل وآلاف العصافير، وجعل من القصيدة التي أسمعتكَ مطلعها طريقة إلى ذلك، لقد أثبتت تحريّاتي السّريّة أنّه كان شاعراً مغموراً وعاشقاً لعوباً وتاجراً فاشلاً في بغداد، وقرر أن يخدع الجميع، ويستغلنا نحن الأمريكيين الطيبين".
يتّضحممّاسبقأنّالراوييُقدّمالشخصيّاتويتركالأحداثتتحرّكأمامه بحياديّة،ولايتدخّـل في مجريات الأحداثإلّاعندالضّرورة؛وذلك بغية الكشفعنغموضٍفيعلاقةالشخصيّات وحوارها؛بغرضربــطالحبكةوإثــارةالمتلقي.
فالرّاوي (الشّاهد) في القصّة نراه يحضر ويغيب حسب ما تقتضيه أحداثها، دون ملاحظة أيّ مشاركة من الرّاوي في الأحداث، بل كان بمثابة عدسة (الكاميرا) التي نقلت ما وقع، وسجلت ما حدث، كما هو من دون أي مداخلة من تحليل أو شرح من قبله، وكأنّ الأحداث قد وقعت للتوِّأمام المتلقّي.
أرسل تعليقك