جَلَسَ بسيم رازو، في وقتٍ متأخرٍ من مساء يوم 20 سبتمبر/أيلول 2015، للدراسة في منزله في الجانب الشرقي من مدينة الموصل العراقية، وكان وجهه منيرًا من أثر إضاءة جهاز الكومبيوتر أمامه، وكانت زوجته، ميادة، في فراشها في الطابق العلوي، لكنَّ بسيم كان يقضي الساعات في تصفح مراجعات السيارات على موقع "يوتيوب"، بداية من سيارة بي إم دبليو من طراز البينا بي 7، وأودي كيو 7.
وتمرّ في الغالب جميع لياليه على هذا الحال، لطالما كان بسيم يهوى القيادة السريعة، وكانت صالات العرض مُغلقة وكانت سيارة العائلة في مرأب البيت، من نوع بي إم دبليو 1991، بالكاد استخدمت منذ عام، بسبب أن الموصل كانت تحت قبضة تنظيم "داعش"، فببساطة، لم يكون هناك مكان للذهاب إليه في المدينة بالسيارة، حسبما جاء في تقريرٍ لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية.
تعيش عائلة ريزو في منطقة ريفية، رعوية بالقرب من ضفاف نهر دجلة، حيث تنتشر فيلات الرخام والجص بين غابات أشجار الكافور، والجنار والصنوبر، وتصطف المقاهي والمطاعم على ضفتي النهر، ولكن منذ أن سقطت المدينة في قبضة داعش، فضلا الزوجين الاستمتاع والترفيه في المنزل، فهما يقومان عادة بوضع الكراسي حول حمام السباحة والكباب على الشواية، وتُعد ميادة البيتزا والأر المقلي الصيني، كل ذلك في محاولة للحفاظ على الحياة كما اعتادوا دائمًا عليها.
وترك ابنهما، يحيى، دراسته في جامعة الموصل، وذهب إلى مدينة أربيل، ولم يتمكنا من رؤيتها من حينيها، فهؤلاء الذين تركوا المدينة عندما سيطر عليها التنظيم قد يعودون إليها ولكن إذا حدث ذلك، لن يتمكنوا من المغادرة مجددًا، وهو مأزق يقع فيها العالقون أيا كانوا. جاءت العديد من مناسبات أعياد الميلاد والأفراح والتخرج وذهبت، ولكن الاحتفالات مكتومة لقدوم لحظة التحرير التي لم تعد مستحيلة.
وبجوار منزل بسيم، يوجد منزل مشابه تقريبًا، لأخيه، محمد وزوجته، عزة. قد يكونان بالتأكيد نائمين في هذا التوقيت لكنَّ بسيم يُخمن أنَّ ابنهما، نجيب، البالغ من العمر 18 عامًا، لا يزال مستيقظًا. فقبل عدة أشهر، ألقي عليه القبض من قِبل شرطة الأخلاق في تنظيم داعش لارتدائه ملابس الجينز وتيشيرت بكتابات إنجليزية، وجلدوه 10 جلدات وكإجراءٍ لمزيد من الإذلال حلقوا شعره كله. والآن، يمضى نجيب أغلب أوقاته في المنزل في الغالب على "فيسبوك".
كان نجيب نشر على موقع "فيسبوك" قبل عدة أيام يقول: "يومًا ما كل ذلك سينتهي. وحتى ذلك اليوم، سأتجمع قواي".
في حوالي منتصف الليل، سمع بسيم صوتا من الطابق الثاني، فخرج من مكتبه ورأى شظية من الضوء تحت باب غرفة نوم ابنته، تقى. كان قد طلب منها الذهاب إلى الفراش. وكانت تقى البالغة من العمر 21 عامًا، غالبا ما تبقى لوقتٍ متأخر، وعلى الرغم من أن بسيم عرف أنه لم يكن مثالا جيدًا بنفسه، وأن الظروف الحالية لم توفر سببا كافيا لنوم في وقتٍ مبكر، فهو كان يؤمن بالقوة الكامنة في النوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا. انتظر كي يرى ما إذا كان هناك أحد عند الدرج، ونادى مرة أخرى، لكن الضوء كان قد خفت. وكانت الساعة 1 صباحا عندما أغلق بسيم أخيرا الكمبيوتر وتوجه إلى الطابق العلوي للنوم. قد استقر بجانب ميادة، التي كانت تنام سريعًا.
في وقت لاحق من اليوم نفسه، قام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الذي يقاتل تنظيم داعش بتحميل مقطع فيديو على قناته على موقع "يوتيوب"، ويعرض المقطع المُعنون بـ"غارة التحالف تُدمر منشأة داعش قرب الموصل، العراق 20 سبتمبر 2015".
يظهر الفيديو مشاهد ليلية بالأبيض والأسود لمجمعات سكنية تم تصويرهما بواسطة طائرة تدور ببطء فوقها. ولا يوجد صوت. وفي غضون ثوان، تختفي هياكل المباني في رشقات نارية من الدخان الأسود. وكان الهدف، وفقًا لوصف الفيديو، هو مصنع للسيارات المفخخة، ومركزا لشبكة من "منشآت متعددة منتشرة في جميع أنحاء الموصل تستخدم لإنتاج نشاطات داعش الإرهابية" مما يشكل "تهديدا مباشرا لكل من المدنيين وقوات الأمن العراقية".
وفي وقت لاحق، عندما وجد بسيم الفيديو، لم يشاهد أولا إلَّا القليل من الإطارات. حينها عَرِفَ على الفور أن المباني كانت لمنزله ومنزل شقيقه.
كان مقطع الفيديو واحدًا مئات المقاطع التي أصدرها التحالف منذ بدء الحرب التي قادتها الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش في آب / أغسطس 2014. كما تم نشرها أيضا على مواقع وزارة الدفاع، وهي تُقدم كدليل على حملة عسكرية دقيقة وشفافة وغير كارثية على خلاف أي دولة أخرى. وفي محاولة طرد داعش من العراق وسورية، قام التحالف بأكثر من 27.500 ضربة حتى الآن، ونشر كل شيء من قاذفات بي-52 التي تعود لأيام حرب فيتنام إلى الطائرات المسيَّرة حديثة. وقد مكنت القوة الجوية الساحقة القوات البرية المحلية من التغلب على المقاومة الثقيلة واستعادة المدن في جميع أنحاء المنطقة.
وكما قال المتحدث باسم القيادة المركزية، شين هاف: "تعمل القوات الأميركية وقوات التحالف بجد من أجل الدقة في الضربات الجوية. ونتيجة لذلك تُجري واحدة من أكثر الحملات الجوية دقة في التاريخ العسكري".
ويعمل المخططون العسكريون الأميركيون إلى حد كبير للقيام بالضربات الدقيقة اليوم من بخلاف الغارات الجوية للحروب السابقة، والتي تم تنفيذها دون أي اعتبار يذكر للضحايا المدنيين، فهم يصفون عملية اختيار الهدف على أساس الاستخبارات المجمعة بدقة، والمعالجات التكنولوجية، والعقبات البيروقراطية المصممة بعناية والضبط النفسي غير العادي. ويمر محللون الاستخبارات على طول الأهداف المقترحة إلى "المستهدفين"، الذين يدرسون نماذج الكمبيوتر ثلاثية الأبعاد عند معايرة زاوية الهجوم. ويقوم فريق من المحامين بتقييم الخطة، وإذا ما سارت الأمور على ما يرام -تنتهي العملية بقصف دقيق بحيث يمكنها في بعض الحالات تدمير غرفة مليئة بالمقاتلين المعادين وترك بقية المنزل سليم.
وعادة ما يُعلن التحالف عن غارة جوية في غضون أيام قليلة من اكتمالها. وينشر أيضًا تقريرًا شهريًا يقيم فيه الادعاءات المتعلقة بضحايا المدنيين. وعادة ما تفسر تلك التي تعتبرها ذات مصداقية بأنها حوادث لا يمكن تجنبها. ويذكر التحالف أنه منذ آب / أغسطس 2014، قتل عشرات الآلاف من مقاتلي داعش، ووفقا لما ورد في ملخصاته الشهرية، قُتِلَ نحو 466 مدنيا في العراق.
ولكن حتى إبراز قضيته، لم تكن أسرة باسم من بين أولئك الذين تم اعتبارهم من المدنيين، فقد كانت ميادة وتقى ومهند ونجيب أربعة من الأعداد غير المعروفة من المدنيين العراقيين الذين وضعهم التحالف في تعداد قتلى "داعش".
وتشير التقديرات الواردة من "إيروارس" والمنظمات غير الحكومية الأخرى إلى أن عدد القتلى المدنيين أعلى بكثير، لكن التحالف يُعارض مثل هذه الأرقام، بحجة أنها لا تستند إلى معلومات استخباراتية محددة، لكنها مبنية على تقارير إخبارية محلية وشهادات. وعندما يلاحظ التحالف عدم انتظام البعثة أو يتلقى ادعاء، فإنه يجري تحقيقا خاصا به وينشر تحليلا طويلا لنتائجه. ولكن لا أحد يعرف كم عدد العراقيين الذين يزالون ضمن الذين دون حصر.
وتظهر تقاريرنا الخاصة، التي أجريت على مدى 18 شهرًا، أن الحرب الجوية كانت أقل دقة بكثير من ادعاءات التحالف. وفي الفترة ما بين نيسان / أبريل 2016 وحزيران / يونيو 2017، قمنا بزيارة مواقع ما يقرب من 150 غارة جوية في شمالي العراق، لم يمض وقت طويل على إخلاء داعش منها. وقمنا بجولات بين الحطام والركام. وأجرينا مقابلات مع مئات الشهود والناجين وأفراد الأسر والمخبرين الاستخباراتيين والمسؤولين المحليين؛ وقمنا بتصوير شظايا القنابل، ومصادر الأخبار المحلية، وتحديد أهداف داعش في المنطقة المجاورة، ورسم خرائط للتدمير من خلال صور الأقمار الصناعية. وزرنا أيضا القاعدة الجوية الأميركية في قطر حيث يوجه التحالف الحملة الجوية. وتمكنا من الوصول إلى الطابق الرئيسي للعمليات وأجرينا مقابلات مع كبار القادة ومسؤولي الاستخبارات والمستشارين القانونيين وخبراء تقييم الخسائر في صفوف المدنيين. وقدمنا للمحللين لدينا الإحداثيات والنطاقات الزمنية لكل غارة جوية - 103 في الغالب - في ثلاث مناطق خاضعة لسيطرة داعش وفحصوا ردودهم. والنتيجة هي أول عينة منهجية من أرض الغارات الجوية في العراق منذ بدء هذا العمل العسكري الأخير في عام 2014.
ووجدنا أن واحدا من كل خمس من ضربات التحالف التي حددناها أسفر عن مقتل مدني، وهو ما يزيد على 31 مرة عما اعترف بها التحالف. وعلى مسافة بعيدة من الادعاءات الرسمية، من حيث وفيات المدنيين، وقد تكون هذه الحرب الأقل شفافية في التاريخ الأميركي الحديث.
وعلاوة على ذلك، كشفت تقاريرنا عن فشل ثابت من جانب الائتلاف للتحقيق في المطالبات على الوجه الصحيح أو الاحتفاظ بسجلات تمكن من التحقيق في المطالبات على الإطلاق. وفي حين أن بعض الوفيات المدنية التي وثقناها كانت نتيجة لقربها من هدف شرعي لتنظيم داعش، يبدو أن العديد من الأشخاص الآخرين كانوا تم الخلط بينهم وبين المقاتلين نتيجة لأخطاء.
أرسل تعليقك