لندن - مصر اليوم
عندما ألقت رئيسة الوزراء البريطانية الجديدة ليز تراس خطاباً أمام مكتبها في داونينغ ستريت يوم الخميس الماضي، بعد إعلان وفاة الملكة إليزابيث الثانية، قالت إن الملكة إليزابيث الثانية «كانت الصخرة التي بنيت عليها بريطانيا الحديثة... لقد كانت مصدر إلهام شخصي بالنسبة لي وللعديد من البريطانيين». جُملتها الأخيرة ذكرتنا بأنها أيضاً الشجرة التي وُلدت منها أسس الموضة البريطانية المعاصرة وألهمت العديد من المصممين. فتأثير الملكة، سواء كان بقصد أو بدون قصد، كان كبيراً منذ تربعها على عرش بريطانيا، وأقل ما يمكن أن يقال عنها إنها أكثر من جسَد الجُرأة الممزوجة بالكلاسيكية المحافظة وتلك الغرابة التي تعتبر جُزءاً لا يتجزأ من طبيعة الموضة، أو بالأحرى الثقافة البريطانية ككل. الصور التي تتداولها الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام تشهد على أن وراء رزانتها واحترامها للتقاليد، كانت هناك جُرأة، إن لم نقل شقاوة، تعكسها الألوان الفاتحة والقبعات التي لا يمكن تصور البعض بها خارج مهرجان أسكوت لسباق الخيول. لكنها كانت دائماً تلبسها بثقة ولسان حالها يقول إن الوفاء للأسلوب الواحد والاستمرارية لا يتجزآن. هاردي أيميز، مصممها المفضل الثاني بعد نورمان هارتنل، لخص أسلوبها في مذكراته قائلاً: «الأسلوب الخاص له قلب ويحترم الماضي بينما الموضة وحش يعيش في الحاضر فقط».
الملكة في كامل أناقتها عام 2010 (غيتي)
لم تُقدم نفسها في يوم من الأيام على أنها مؤثرة موضة أو متابعة لها بشغف مثل شقيقتها مارغريت أو جاكلين كينيدي وغيرهما، إلا أنها كانت تُدرك جيدا أنها تحت المجهر وأن الصورة بالنسبة لملكة لا تستطيع الإفصاح عن ميولها السياسية وما يعتمل بداخلها بحرية، أبلغ من الكلام. مع الوقت نجحت في خلق مكانة خاصة بها، تتعدى صورة الأنثى الجميلة إلى صورة ملكة تجلس في صومعة، قريبة وبعيدة في الوقت ذاته، من دون أن تتنازل عن بريقها. فبعد اعتلائها العرش بفترة قصيرة، حضرت حفل افتتاح فيلم في لندن بفستان بالأبيض والأسود من تصميم مصمم القصر نورمان هارتنل نسقته مع قفازات يد بالأبيض وتاج ناعم جعلها نجمة متألقة سرقت به الأضواء من باقي النجمات حتى من دون أن تقصد. في اليوم التالي، أصبح فستانها مطلب كل نساء بريطانيا، تماماً مثلما أصبحت جاكيتات ومعاطف «باربر» الريفية وأوشحة الرأس وتنورات التارتان التي ظهرت بها خارج المناسبات الرسمية أسلوب النخبة والطبقات الأرستقراطية ومصدر إلهام المصممين إلى حد الآن. فهي تتحدى الزمن.
عشية عرضه الذي أقيم في وستمنستر آبي بلندن في عام 2016، وصفها مصمم دار «غوتشي» أليساندرو ميشيل بأنها «واحدة من أكثر الأشخاص غرابة في العالم». كانت الغرابة التي أشار إليها إيجابية. فقد ألهمته مثلما ألهمت غيره من المصممين بدءاً من المتمردة على المؤسسة البريطانية، فيفيان ويستوود إلى ميوتشا برادا والراحل كارل لاغرفيلد الذي قال في عام 2014 إنها رغم هذه الغرابة والإغراق في الكلاسيكية «لا تعطي أي انطباع بالسخافة أو البهرجة... إنها مثالية».
الملكة في زي يراعي التقاليد الإسلامية أثناء زيارتها مسجد الشيخ زايد في أبوظبي (د.ب.أ)
بالنسبة لمصمم «بيربري» ريكاردو تيشي، فإن تجاهل أسلوبها مستحيل لأنه جزء من الأسلوب البريطاني الذي تتبناه الدار وهو ما عبر عنه قائلاً: «إنها واحدة من أكثر نساء العالم أناقة ولياقة وهذا ما يجعل بريطانيا مكانا رائعا بالنسبة لي من ناحية أنها تجمع الكلاسيكية والعراقة بتلك الرغبة في التعبير عن الذات إلى حد التمرد أحياناً». هذا الإعجاب بأسلوبها الذي لا يتغير ولا يتبع إملاءات الموضة الموسمية لا يروق عادة للمصممين. فهم يعتمدون على التغيير والصراعات لشد الانتباه من جهة وتحقيق الربح من جهة ثانية، لهذا ذهب بعضهم إلى إدخال تغييرات على أسلوبها لمواكبة العصر، مثل كريستوفر كاين الذي قدم في عام 2011 تشكيلة موجهة للربيع والصيف مزج فيها تصاميم مستوحاة من أعمال نورمان هارتنل بألوان النيون البراقة، وفي عام 2018 استلهم إيرديم موراغليو تشكيلته للربيع والصيف أيضاً من صورة التقطت لها مع دوق إلينغتون في عام 1958.
لكن سيبقى المصمم البريطاني ريتشارد كوين أكثر من يدين لها بشُهرته ويربطها بعالم الموضة بشكل مباشر. فقد حضرت عرضه شخصيا في عام 2018 لتُسلمه جائزة الملكة إليزابيث. كان هذا أول عرض أزياء تحضره شخصياً منذ توليها المُلك، وكان حضورها رسالة دعم للمصممين الشباب ولأسبوع الموضة الذي تُجسِد روحه وثقافته بجُرأتها وصلابتها. مثله، كانت تُقدر الإبداع والجمال أيا كان منبعه وجنسيته. فستان زفافها مثلاً كان من بروكار دمشقي استخدم فيه الحرفي قاسم أيوبي خيوطاً من الذهب ليبتكر نقشة «إليزابيث» التي أصبحت تعرف لاحقاً باسم «العاشق والمعشوق». قدرت قيمته وسحرها جماله بمجرد أن أهدته لها الحكومة السورية في عام 1947. أو ربما كانت تريد أن ترسل من خلاله رسالة ما، بحُكم أنها تعودت على استخدام أزياءها وإكسسواراتها لإرسال رسائل دبلوماسية لا سيما في لقاءاتها الرسمية مع ملوك ورؤساء الدول أو زياراتها الخارجية.
وعيها بأهمية الموضة نمى في صباها وعلى يد والدها الملك جورج الخامس، الذي استعملها في بداية حُكمه كوسيلة للحصول على القبول والشعبية بعد تنحي أخيه إدوارد VIII عن الحكم. كانت المرأة وراء هذا التنحي، وأليس سيمبسون معروفة برشاقتها وأناقتها، وكانت الصحف والمجلات تجري وتتسابق لنشر صورها، لهذا جند الملك المصمم نورمان هارتنل ليُقدم تصاميم مبتكرة لزوجته وابنتيه إليزابيث ومارغريت، لكن ليس قبل أن يُصدر تعليماته بأن تتميز هذه التصاميم بالمحافظة واحترام التقاليد. كان من البديهي بعد وفاة والدها في عام 1952 وتسلمها المُلك أن تطلب من هارتنل تصميم فستان يتمتع بالأناقة والرزانة بمناسبة حفل تنصيبها على العرش. كانت تريده بتصميم يعكس حجم المناسبة وفي الوقت ذاته يُطمئن الحكومة البريطانية وشعبها بأنها أهل للمسؤولية المنوطة بها، وبالفعل قدم لها المصمم تسعة تصاميم مختلفة قبل أن يرسى اختيارها على اقتراحه الثامن.
ظل اهتمامها بالتفاصيل وما ستعكسه أزياؤها إلى آخر يوم في حياتها، كبيراً. ليس لأنها كانت تعرف أنها أهم امرأة في عالم يحكمه الرجال، وبالتالي عليها أن تتبنى أناقة رفيعة تجعلها تظهر بعيدة المنال وعن أي ابتذال يلعب على الحواس فحسب بل لأن الخطأ في هذا المجال غير وارد بالنسبة لها. في حديث له مع صحيفة «التايمز» في عام 2012، صرح المصمم ستيوارت بارفين، الذي ظل يتعاون معها منذ عام 2000 بأنها كانت تُؤرشف فساتينها حسب التاريخ والمناسبة بدقة عالية، حتى لا تكررها مع الشخص نفسه. يقول: «كان البعض يُردد بأنها لا تلبس الفستان سوى مرى واحدة، وهو أمر غير صحيح. كل ما في الأمر أنها كانت حريصة جداً في اختياراتها. إذا كانت ستقابل الرئيس أوباما مثلاً، فهي لا يمكن أن تلبس الفستان نفسه الذي قابلته به في مرة سابقة». ماتت الملكة لكن أسلوبها سيبقى مُلهماً يجسد الروح البريطانية الجريئة والممزوجة بالكلاسيكية لفترة طويلة جدا، إذ من الصعب أن تأتي شخصية تمحي ما أرسته هي بهدوء وعلى مدى عقود.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
توفيت إليزابيث الثانية ملكة بريطانياعن عمر يناهز 96 عاماً، حسبما أعلن قصر باكنغهام.
القصر الملكي البريطاني يُعلن قلق أطباء الملكة إليزابيث الثانية بشأن صحتها
أرسل تعليقك