تندرج قرية «رجال ألمع» الواقعة جنوب غربي المملكة العربية السعودية، تحت القرى التي أولتها اليونيسكو اهتمامًا خاصًا مؤخرًا، لتميزها بمبانيها الحجرية ذات الطوابق العالية واختلافها المعماري الذي بدا وكأنه خارج من زمننا، ومختلف بتراثه العريق، والذي يستحق أن نعني به كتابة واهتمامًا، لا سيما أننا بتنا نتحدث عن التراث البعيد أكثر من التراث القريب لمنطقتنا، كما هي قرية «رجال ألمع» والتي هي الآن مدينة تابعة لعسير، تستحق أن تُروى حكايتها، لأن حجمها فاق المعنى البسيط للقرية.
هي من القرى التي كانت عبر تاريخها نقطة وصل بين مكة واليمن والشام والبحر الأحمر، لأنها تقع في موقع مميز بين مدينة أبها وعسير والدرب وقنا في المملكة العربية السعودية، ولأنها أيضًا تقع بين الجبال. وقد بنى الألمعيون، أهلها، منازلهم فوقها من الأحجار الصلبة ومن الطين، فارتفعوا بمبانيهم لتصبح كالحصون والقلاع العريقة، كما هي مدينة شبام وصنعاء وغيرها من المدن اليمنية، لقربها منها، فباتت قرية رجال ألمع اليوم من أجمل الأمكنة التي تستطيع التجول فيها بمتعة مختلفة، فليس من شبيه لها وأنت تمر في أزقتها التي تصعد بك وتنزل أمام ساحات منازلها الواسعة والمفروشة بالحصير الملون، وترى جدرانها المرسومة ونوافذها وأبوابها الخشبية، التي تشع بالألوان الهندسية المختلفة.
القرية القدوة
التراث المعماري لـ«رجال ألمع» يستحق الدراسة حوله، فالأبراج الحجرية والمربعة مزخرفة بكتل من حجر الكوارتز الأقرب في دقته بلون السكر الأبيض، ألصقت بمهارة عالية وثقافة إبداعية تنم عن شخصيات أناس هذه القرية، الذين يمتازون بقوة محبتهم للجمال، وبسبب ذلك أصبحوا قدوة ثقافية لمن حولهم، بل وقدوة نموذجية لثقافة المنطقة كلها، فما يُنقش بحب على تلك الجداريات، ويلون على النوافذ، فإنه بلا شك يخرج بجاذبية للناس، خاصة في تلك الرسومات المنحوتة على الأبواب وثوب ألوانها، مقابل الحجر الداكن الذي يحيط بها، وكأن الباب أو النافذة أشبه بكنز لافت أو جوهرة بين الجدران، فالقطع الملونة النابضة بالحياة، لم تُرسم إلا من قبل الحرفيين المهرة من أهل القرية.
متحف القرية
وعى الألمعيون، سكان قرية «رجال ألمع»، مبكرًا، أهمية حفظ تراثهم وتاريخهم، فاقترحوا أن يحول المبنى الخاص والأجمل للقرية، ويعود لعائلة آل علوان، وهو أشبه بحصن، إلى متحف يحوي تراثهم ويحكي تاريخهم، وبالتالي قاموا بترميمه من قِبل أبناء القرية أنفسهم، بعد أن وضعت فيه جميع الأسر زينتها الموروثة، وأيضًا قطعها الكثيرة الثمينة، ليصبح مقصدًا للسياح ومن كل أنحاء العالم.
فنانة «رجال ألمعي»
كما أن بعض المباني المختلفة تصبح في خدمة المكان وتضيف له ولمكانته الثقافية الكثير، فإنه يغدو مع الوقت كقطعة تاريخية يجتمع فيها الإرث المادي من الموجودات عبر تاريخ القرية، وهذا ما جرى في قرية رجال الألمعي، لكننا يجب ألا نهمل دور فنانة القرية، فاطمة أبو قحاص، التي كان لها دورًا كبيرًأ في إدارة مشاريع فنونها أثناء النقش والتلوين من قبل أبناء القرية، لتبقى المرأة لها دورها الأهم والأجمل في تقديم الجمال.
يبقى وعي أهل المكان تجاه بلدتهم يلعب الدور الأساسي لرفع شأنه، كما أنه من الملاحظ، ورغم أن اسم القرية «رجال ألمعي» لكن نساء القرية لديهن الامتياز الأكبر والموهبة الأجمل في النقوش والفنون، فهن من يسهمن في بيوتهن وقصورهن في النقش، وهن من يتفردن بذلك لا الرجال.
ألوان بأسماء أخرى
ولأهل القرية أسماء مختلفة يطلقونها على ألوانهم، فالأحمر هو الحُسن، لأنهم كانوا يأتون به من أحجار حمراء اللون بعد أن تُدق ويضاف لها المر، أما الأزرق الغامق فيسمى النيلي بعد أن يحمص في مطحنة يدوية، وحتى الألوان الأخرى كالبني الغامق ويسمى «الدمني»، واللون الفوشي «بوصي»، والأصفر «أجلح» والأبيض المطفي «حليبي»، والأخضر الغامق «خاكي»، والأزرق الفاتح «سماوي»، والعنابي «دم الغزال»، والبنفسجي «ليلكي»، والبني الفاتح «قهوي»، والرمادي «أغبر»، واللون الأصفر الغامق «الكركم»... وهكذا لتبدو أسماء الألوان لدى أهل القرية استمدت من مكونات الطبيعة والطعام.
وأخيرًا يجب ذكر أن هذا ما تشمله القرية وما تحيطها من مناطق الجنوب السعودي، كأهل قحطان وعسير، فجميعهم يمزجون الألوان بالصمغ، وهي من الأساسيات في النقش الألمعي، ليبدو لامعاً ومختلفاً في وهجه.
نباتات أرض الألمعي أصل عطور العرب
جميع زوار القرية يشمون رائحة النباتات العطرة وهم في طريقهم بين الجبال ووسط الأودية والسهول، فهي من أغنى المناطق العطرية في جزيرة العرب التي تفوح من نباتاتها الطبيعية روائح وأريج الطيب، وبالأخص في مواسم الورود والمطر، فمناخها الرائع منحها نفحة الشذى معظم أيام العام، لكثرة النباتات النابتة وبأنواعها، كما أن العسل الألمعي من أطيب أنواع العسل في العالم، من دون مبالغة، بعد أن قام المختصون في الخارج، بتحليل نوعه وصفاته وما به، فتبين أنه يُعد مادة علاجية أساسية، ناهيك عن أنواع الأشجار والأعشاب التي بين الشلالات، لتخرج الزهور المنعشة في عبيرها، ليتم إنتاج ماء الورود والنعناع وماء الزيوت وماء الثمار وماء الأوراق.
ولتلك النباتات العطرية أسماؤها لدى الألمعيين، ولكل منها صفة ولون وشكل، وقائمة طويلة من النباتات برائحتها النفاذة، كرائحة الكافور والكادي والخزامى وزهور البنفسج والياسمين والعرعر والعلك للفم وزهور الثعب والعذب والسمر والرند والبان والريحان والحبق والنعناع والزيتون الجبلي. وهذا غير الثمار المتوافرة، وهناك قائمة طويلة لا تكفي هنا لذكرها.
وقد ذكر لنا أحد الأصدقاء أن الطبيعة في المنطقة الواحدة، كمنطقة الألمعي تحتاج إلى قاموس أو معجم مطبوع ليصبح مرجعًا، لأنها منطقة ممتلئة بالتنوع النباتي معنى وعددًا، كما أن أرض الألمعية هي المعنى العملي الأجمل لوجود كل تلك العطور في الأرض المشجعة لمؤسسات الأثرياء التجارية، كي تأتي لاستغلالها عالميًا وتصدير عطور الطبيعة للعالم، أسوة بالدول المنتجة كفرنسا.
معانٍ مختبئة خلف التطريز في زي الألمعية
زي المرأة الألمعية المطرز ما زال هو الزي الرسمي لتراثهم، لكونه يحمل إرثًا تاريخيًا طويلًا وقصصًا في عمله اليدوي ومدى التمرس في التطريز المتأني الذي كان يستغرق أشهرًا لإنجاز الزي. وعلى أفضل أنواع الأقمشة الحريرية لترتديه المرأة لأعوام، من دون أن يترهل ذلك التطريز الذي يمتاز بجودته مقابل جماله الذي يتمثل في المعاني المختبئة بين الزخارف، فيما يتعلق بالبيئة من زهور وحياة الإنسان. والجميل أن المشهورين في تطريز ملابس النساء هم الرجال، ويفخر الألمعيون بزيهم ويعدونه من أجمل هوياتهم، وذلك وأمام العالم أمام زحف الزي الغربي على الأسواق.
فن «القط» ليس له وجود سوى في هذه القرية
كل الفنون جميلة وأخاذة، إلا أن فن القط الذي لا يتقنه سوى النساء الألمعيات، يعبر عن اختلاف الجمال المكاني المتشعب في أرواحهم الملونة منذ التاريخ القديم لهم. ولأن فن القط مختلف عن أي بقعة في العالم كله فإنه سيسجل قريبًا في قائمة التراث لمنظمة اليونيسكو. وهو فن تجريدي حر يحاكي الفطرة بنظرتها البريئة للجمال والحياة، وعلى جدران المنازل الداخلية، ويتجسد بخطوطه الهندسية في أغلبها بين العرض والطول، مع التكرار في مساحات واسعة أو ضيقة، بألوان حية وأساسية، لكن الأهم أنه لا تقوم به إلا النساء، ومن دون دراسة. إذًا هو فن جداري أنثوي بامتياز.
قصور الألمعي هوية معمارية جنوبية لجزيرة العرب
ستون قصرًا تم تشييدها عبر تاريخ القرية والمكان، بناها أهلها الذين جلبوا الحجارة من سفوح جبالهم، وبالتحديد في وادي سفح، والذي تطلب جهدًا بشريًا كبيرًا آنذاك، ورغم أن بعض القصور سقطت حجارتها، ولكنها رممت من جديد وبمحبة، لتبقى القرية حجرية البناء كما هي، بعد أن كانت ممرًا طبيعيًا للقادمين من اليمن والشام إلى مكة والمدينة، وكانت مركزًا تجاريًا هامًا لكونها تتصل بالبحر الأحمر وتربط بين القادمين، لتبقى القرية بقصورها العالية ذات مكانة عالية على ممر القرون الفائتة.
15
يذكر الطبري أن أهل "رجال ألمع" شاركوا في معركة القادسية «15هـ». كما أسهموا برجالهم في حماية المدينة المنورة، كحامية مرابطة، ليثبتوا أنهم أصحاب موقف.
66
يبلغ عدد سكان قرية "رجال ألمع" حتى اليوم 66 ألف نسمة، يعيشون في منطقة جبلية، وتبعد القرية 45 كيلو مترًا عن مدينة أبها.
1818
في هذا العام، هزمت قوة «رجال ألمع» جيش العثمانين، وهناك معارك كثيرة أخرى انتصروا فيها في منطقتهم وفي مناطق أخرى، ليشهد لهم التاريخ بذلك.
أرسل تعليقك