احتلَّ، على مدى الأسبوعين الماضيين، فيلم «دونكيرك» صدارة قائمة شباك التذاكر، كأعلى الأفلام تحقيقاً للإيرادات في دور السينما بالمملكة المتحدة. والفيلم هو عرض متصوَّر لعملية إجلاء قوة المشاة البريطانية من ميناء «دونكيرك» الفرنسي في مايو (أيار) عام 1940، مع اجتياح قوات هتلر الغازية طريقها نحو قلب العاصمة باريس.
وضمَّتْ عملية الإجلاء أكثر من 400 ألف جندي، بما في ذلك العديد من المجندين الفرنسيين والقوات المجندة في الوحدات الإمبراطورية البريطانية، مثل الوحدات الكندية والأسترالية.
وتعد هذه العملية أكبر تراجع في تاريخ الحروب، ولقد حالت عملية «دونكيرك» دون إبادة الجيش الألماني للجزء الأكبر من الجيش البريطاني، مما أتاح الفرصة أمام لندن للإعداد للقتال في يوم آخر.
وللوهلة الأولى، كان هناك القليل من البطولة في فرار هذه القوات الكبيرة من دون مواجهة وقتال، فالجيوش في غالب الأحيان تتراجع بعد خوض المعارك وخسارتها. ورغم ذلك، ما بات يُعرَف باسم «روح دونكيرك» كان بطوليّاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث تحدى الآلاف من البريطانيين العاديين آلة الحرب النازية الهائلة، وشقُّوا طريقهم إلى الميناء الفرنسي على متن قوارب الصيد والتجديف الصغيرة في غالب الأمر، وحتى أحواض الاستحمام العائمة، للمساعدة في استعادة الجنود البريطانيين النظاميين الذين تقطعت بهم السبل إلى الوطن.
وعلى مدى العقود التالية أصبحت «روح دونكيرك» تشير إلى سمة رئيسية من سمات الشعب البريطاني، ألا وهي القتال، حتى وإن كانت ظهورهم مستندة إلى الجدران.
وليس من المستغرَب، رغم كل شيء، أن أولئك الذين نظموا حملة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، العام الماضي، قد استولوا على الإثارة الكبيرة التي خلفها الفيلم الحربي الجديد، بهدف غرس بعض من البطولات في خطابهم الموجَّه.
«أجل»، كما يقولون، «إن بريطانيا على مشارف أوقات عصيبة بخروجها من الاتحاد الأوروبي. ولكن، وبمساعدة من (روح دونكيرك)، فسوف نتغلب على جميع العقبات».
وأحد أبرز المؤيدين للخروج البريطاني طالب بعرض الفيلم الحربي داخل المدارس لتعزيز الروح المعنوية للتلاميذ والشبان الذين سوف تتأثر حياتهم كثيراً بمغادرة البلاد للاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، من الصعب عَقْد مقارنة منصفة بين «البريكست» و«دونكيرك» ولو لمجرد عدم مساواة الاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي مع ألمانيا النازية قبل سبعة عقود. كما أن المملكة المتحدة ليست في حالة حرب مفتوحة مع الاتحاد الأوروبي، وهو تحالف الدول الديمقراطية، الذي لعبت بريطانيا دوراً مركزياً في صياغة نسخته الأخيرة.
ولقد كانت المعضلة التي واجهها الجنود البريطانيون في «دونكيرك» تدور حول مسألة الحياة والموت. ولكن بصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، حظيت بريطانيا بعضوية أكبر كتلة اقتصادية في العالم إلى جانب أغلب الدول الأعضاء في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ولقد استشهد دعاة «البريكست» بأربعة أسباب تدعو المملكة المتحدة إلى مغادرة عضوية الاتحاد.
السبب الأول هو «استعادة السيادة الوطنية المسلوبة».
ومع ذلك، وفي الكتاب الأبيض الصادر عنها خلال العام الحالي، أعلنت الحكومة البريطانية بشكل رسمي أن سيادتها لم تُسلب قط، وأن عضوية الاتحاد الأوروبي تعني تقاسم السيادة، وليس فقدانها بالكلية. وتتقاسم بريطانيا في الواقع السيادة الوطنية مع العديد من المنظمات الدولية والإقليمية، بما في ذلك حلف شمال الأطلسي، ومنظمة الأمم المتحدة، ورابطة دول الكومنولث، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، من بين العديد من المنظمات الدولية الأخرى.
وإن كان تقاسم السيادة الوطنية يتساوى مع فقدانها، فلا بد على المملكة المتحدة الانسحاب الفوري من أكثر من 120 منظمة، وهو الأمر الذي لم تفعله دولة ذات سيادة وطنية كاملة، مثل كوريا الشمالية.
وعلى أية حال، فإن عضوية الاتحاد الأوروبي تتضمن تقاسم السيادة الوطنية وفق عدد محدود من القضايا ذات الصلة بالتجارة، والمعايير الصناعية، والزراعة، وظروف العمل. وهي لا تمتد حتى إلى قضايا مثل الضرائب، وأسعار الفائدة، ناهيكم بقضايا أخرى مهمة، مثل الأمن القومي، والدفاع، والسياسات الخارجية.
وحقيقة أن بريطانيا يمكنها مغادرة الاتحاد الأوروبي أو أي منظمة دولية أخرى هي عضو فيها تعكس أن السيادة المشتركة لا تساوي السيادة المسلوبة. وبالتالي فإن الزعم بفقدان السيادة هو من المزاعم الموهومة.
والسبب الثاني المستشهَد به لدى أنصار الخروج البريطاني هو عبارة «السيطرة على الحدود» الموهومة كذلك.
كل من يدخل إلى المملكة المتحدة يعرف أنه يتعين عليه إبراز جواز السفر الخاص به، أو بطاقة الهوية الشخصية، لكي يتم قبول دخوله رسميّاً في البلاد. ويحق لمواطني دول الاتحاد الأوروبي الدخول إلى أراضي أي دولة من الدول الأعضاء من دون تأشيرة، بغرض الزيارة، أو البحث عن عمل، أو الدراسة، أو لمجرد تغيير محل الإقامة. ولكن بموجب معاهدة لشبونة لعام 2007 لا يمكنهم البقاء لفترة تتجاوز 3 أشهر ما لم يقدموا ما يثبت حصولهم على عمل، أو الدراسة بالدوام الكامل، أو توافر وسائل الدعم والإعاشة المستقلة.
وتقوم الدول الأعضاء، في كثير من الحالات، بطرد مواطني دول الاتحاد الأوروبي الذين لا يستوفون أيّاً من الشروط المذكورة. وبعبارة أخرى، فإن الدول الأعضاء كافة، بما في ذلك المملكة المتحدة، تملك الحق الفعلي والسلطة المخولة لاتخاذ القرار بشأن عدد مواطني دول الاتحاد الأوروبي الذين ترغب في استضافتهم على أراضيها.
أما الادعاء الزائف الثالث يتعلق بـ«الحكم من قبل المسؤولين غير المنتخبين في بروكسل».
ورغم ذلك، فإن مجلس الوزراء، الذي يشار إليه في أغلب الأحيان باسم «المجلس»، هو الجهة الرئيسية المخولة اتخاذ القرارات والتشريع في الاتحاد الأوروبي، وهو يتألف من وزراء من الدول الأعضاء، وكلهم منتخَبُون بصورة ديمقراطية. ويشكل المجلس مع البرلمان الأوروبي الهيئة التشريعية العليا في الاتحاد، والبرلمان يتم انتخابه مباشرة أيضاً من قبل الناخبين في جميع الدول الأعضاء. وعندما يتعلق الأمر بما يُعرَف بالبيروقراطية في بروكسل، فمن المهم أن نتذكر أنها مكوَّنة من شخصيات معينة من قبل الحكومات المنتخبة في الدول الأعضاء، وبالطريقة التي يتم بها تعيين موظفي الخدمة المدنية في كل دولة، مع أنماط المساءلة شديدة الوضوح. وليس هناك ما يمكن لبيروقراطية بروكسل أن تصنعه من دون الموافقة والمصادقة عليه من قبل حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وبرلماناتها المعنية.
والسبب الأخير المزعوم من جانب مؤيدي الخروج البريطاني هو الزعم بأن المملكة المتحدة، خارج عضوية الاتحاد الأوروبي، سوف تكون أكثر مقدرةً على إبرام الصفقات التجارية مع بقية دول العالم.
ورغم ذلك أيضاً، تجري المملكة المتحدة بالفعل الصفقات التجارية مع أكثر من 190 دولة حول العالم، وكثير منها صفقات تجارية كاملة أو جزئية مع الاتحاد الأوروبي نفسه، وهناك صفقات لعبت المملكة المتحدة دوراً رئيسياً في صياغتها. وليست بسبب عضوية الاتحاد الأوروبي تصدر المملكة المتحدة نصف ما تصدره ألمانيا إلى الولايات المتحدة. ولكن السبب في أن ألمانيا تنتج السلع والبضائع التي يرغب المستهلك الأميركي في الحصول عليها، ولا تفعل بريطانيا ذلك، والسبب أن المملكة المتحدة قد تخصصت في الصناعات الخدمية على حساب الصناعات التحويلية. والبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي أو مغادرته لن يغير من هذه الحقيقة في شيء.
بعبارة أخرى، ليست هناك أسباب موضوعية ومقنعة تستلزم الخروج البريطاني من عضوية الاتحاد الأوروبي، في حين أن التراجع الكبير في «دونكيرك» كان من الضرورات التي لا محيص عنها.
ورغم ذلك، عندما يتعلق الأمر بالخروج البريطاني، فسوف يكون من الغباء تماماً تجاهل العوامل غير الموضوعية والتفاعل مع العوامل العاطفية فحسب.
يشعر كثير من المواطنين البريطانيين بوجود عدد هائل من الأجانب في بلادهم، ويلومون مواطني دول الاتحاد الأوروبي على تدني مستويات ومعايير الخدمات الصحية الوطنية، ونقص المساكن ذات الأسعار المعقولة، والضغوط المتزايدة على المدارس، وحتى الاختناقات المرورية المتكررة. لقد كانت عملية «دونكيرك» فراراً تكتيكياً بهدف العودة إلى القتال. فهل سوف يكرِّر الخروج البريطاني هذا السيناريو مرة أخرى؟