قوه مدينة القاهرة وسحرها ليس في مبانيها الجديدة ولا في ناطحات سحاب نسمع عنها في داخل العاصمة الإدارية وخارجها، إنما في معمارها القديم، أي في قاهرة المعز الفاطمية، والقاهرة الخديوية الحديثة، ومعظم المباني التي شيدت في بدايات القرن الماضي في أحياء مثل الزمالك وجاردن سيتي وشبرا وباب الشعرية والحلمية والعباسية ومصر الجديدة وغيرها، ويمارس بحقها تدمير ممنهج يقضي على تاريخها ورونقها.
لا أحد ينكر أن الأحياء والمدن الجديدة أمر طبيعي في بلد يزداد عدد سكانه بدرجة مخيفة مثل مصر، فكما شهدنا في عهد عبد الناصر إنشاء أحياء مثل مدينة نصر وجانب من حلوان ومصر الجديدة، وشهدنا في عهد مبارك إنشاء مدينة 6 أكتوبر والتجمع الخامس، وشهدنا في عهد السيسي إنشاء العاصمة الإدارية كل ذلك أمر طبيعي مع زيادة عدد السكان، أما ما بناه الآباء والأجداد فهذا هو سر قوة القاهرة الحقيقية وعنصر تميزها الرئيسي عن مدن كثيرة حولنا، وإن الحفاظ عليها أهم مائة مرة من بناء حوائط أسمنتية وأبراج قبيحة.
القاهرة غير مؤهلة أن تكون دبي، والأخيرة لا يمكن أن تصبح القاهرة، فدبي التي قال لنا الأستاذ جميل مطر إنه حين اصطحب الأستاذ هيكل بعد خروجه من الأهرام عام 1975 في رحلة لإيران، ذهبا في البداية إلى الإمارات، ولم يكن في دبي فندق للبيات فيه وذهبا إلى فندق في الشارقة.
انقلبت الصورة الآن وأصبحت دبي مركزا تجاريا عالميا مليئة بكل أنواع الفنادق، وناطحات السحاب، وانشأت البرج الأعلى في العالم (برج خليفة) وظهرت مولات هي الأكثر ثراء وتنوعا في الكرة الأرضية، ومستوي من النظافة مستحيل أن تجده في أي بلد في العالم إلا في سويسرا.
حداثة العمارة في دبي مذهله وتتفوق على نظيرتها الأوربية، ولأنها لا تمتلك تراثاً معمارياً قديماً، فالطبيعي أن تختار بناء المباني الحديثة من مولات وناطحات سحاب، لأنها شيدت على أرض صحراء وصنعت تاريخها وتميزها من خلال الحداثة أو كما قال مؤسس الإمارات الحديثة الراحل الكبير الشيخ زايد "سنجعل تراب الوطن ذهبا".
على عكس من دبي تأتي قوة القاهرة في تراثها المعماري العريق، ويبدو أن المسئولين في بلادنا لم يقل لهم أحد إن وسط البلد في مصر (القاهرة الخديوية) هو أكثر جمالا بكثير من نظيره في مدن كبري كثيرة، فميدان التحرير المصري والشوارع المحيطة به أكثر جمالا وبكثير من ميدان تقسيم الشهير في إسطنبول والشوارع المحيطة به، ويبقى الفارق أن في القاهرة أهمل وسط البلد تماما (رغم محاولات تجديده) في حين أنه جدد في إسطنبول وأصبح مركزا حضاريا وسياحيا.
أحياء القاهرة التي شيدت في النصف الأول من القرن الماضي هي كنوز معمارية حقيقية مثلها مثل العواصم الكبرى (باريس وروما ومدريد) التي يشكل الحفاظ على معمارها القديم الجانب الأكبر من سحرها، فالمباني القديمة والحواري والأزقة والأحياء الشعبية في المدن الأوروبية والتي كانت في بدايات القرن الماضي أماكن للجريمة والقبح أصبحت الآن بعد تجديدها طاقة جمال وجذب سياحي كبير.
علاقة المدن بذاكرتها وبتاريخها المعماري هو سر قوتها وجمالها، وهي أمور لا يفهمها تجار المقاولات الذي هدموا قصور الإسكندرية وأحياء كاملة في القاهرة، متناسين أن قوتها في أحيائها القديمة ويكفي أن نلقي نظرة على الجراج القبيح الذي تفتق ذهن المسئولين على بنائه مكان دار أوبرا القاهرة (احترقت عام 1971) لنكتشف حجم مسلسل القبح المستمر معنا.
بقي ميدان العتبة بأبراجه القديمة صامدا بعد تجديده وتجميله دون أن يستطيع نزع قبح جراج الأوبرا الشهير، وبقيت أسواق العتبة مهملة رغم اكتظاظها بالناس، وظلت مباني شارع الجيش حتى باب الشعرية نموذجاً نادراً لجمال معماري شعبي يتعرض كل يوم لهدم وتدمير غير متكرر في أي بلد بتاريخ القاهرة.
أحد معالم القاهرة التي تكررت محاولات نقلها من مكانها أكثر من مرة، وهي حديقة حيوان الجيزة التي تعد معلماً من تاريخ "القاهرة الكبرى"، ودهش الكثيرون من التناقض الذي طرحه اثنان من المسئولين أدليا برأيهما في هذا الموضوع، وهما اللواء محمد رجائي، رئيس الإدارة المركزية لحدائق الحيوان، الذي قال لمصراوي إن كل ما أثير بشأن نقل حديقة حيوان الجيزة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، عار تمامًا عن الصحة، في حين لم ينف العميد راشد رحيم مدير حديقة الحيوانات إمكانية نقلها إلى العاصمة الإدارية واصفا تلك الخطوة بالرائعة لأنه ستكون هناك مساحات واسعة ويمكن الاستفادة من مياه الشرب هناك (لم يوضح كيف).
مجرد التفكير في نقل حديقة الحيوانات جريمة مكتملة الأركان وتعني أن مسئولينا لم يتعلموا شيئا عن ذاكرة المدن وتاريخها وحتى جاذبيتها وسحرها وتفردها بين مدن العالم.
لو بنينا في مصر 10 عواصم إدارية وشيدنا مكان أحيائنا القديمة أبراجاً وناطحات سحاب ومولات فلن ننافس دبي ولا الرياض ولا نيويورك ليس فقط لأننا دولة محدودة الموارد لا تستطيع ان تبني أبراجاً فخمة مثل دبي، إنما لأن سر قوة القاهرة وتفردها بين العواصم الكبرى في العالم هو معمارها القديم ومبانيها الأثرية فليتنا نعرف أن لدينا عاصمة تحمل تاريخاً معمارياً عظيماً، مطلوب فقط ألا نهدمه ونبني الجديد في صحراء مصر الواسعة.
نقلا عن موقع مصراوي
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع