بقلم : د. عبد المنعم سعيد
كان العرض الذى قام به الدكتور محمد أبوالغار لكتاب «الملاك»، تأليف «أورى بار جوزيف»، أستاذ العلوم السياسية الإسرائيلى، وافيا فى الموازنة ما بين مقتضيات المساحة والحقائق الأساسية فى المؤلف. المناسبة كانت أن الكتاب الذى صدر منذ عام باللغة الإنجليزية، وعدد من الأعوام قبلها باللغة العبرية، والآن فإن شبكة «نيتفليكس» للإنتاج السينمائى حولت العمل إلى فيلم سينمائى وعرضته خلال الأيام الماضية. ولما كنت قد نشرت تحليلى للكتاب فى حينه بمقال فى «المصرى اليوم» فى ١٠ أكتوبر ٢٠١٧ بعنوان «ملاك أكتوبر» أخذت فيه بوجهة النظر التى ترى أن أشرف مروان كان بطلا مصريا عظيما سوف يثبت التاريخ يوما عندما تخرج وجهة النظر المصرية فيه إلى النور أنه كان جزءا لا يتجزأ من الملحمة المصرية فى أكتوبر ١٩٧٣ وفى الفصل الخاص بالمفاجأة الاستراتيجية والخداع الاستراتيجى. لم أصل إلى وجهة النظر لمجرد اطلاعى على وجهة النظر الرسمية التى عبر عنها الرئيس مبارك وآخرون، اعتبرته وطنيا قدم لمصر خدمات وطنية متعددة الأشكال، ولا نتيجة اطلاعى على كتاب «إيلى زاعيرا» رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، فالحقيقة أننى كنت حائرا بصدد شخصية أشرف مروان، وقبل عشر سنوات من نشر مقال «المصرى اليوم» نشرت مقالا فى صحيفة «نهضة مصر» فى ١٨ يوليو ٢٠٠٧ بعنوان «وجوه أشرف مروان الخمسة»، عبرت فيه عن تلك الحيرة فى الشخص والحكم عليه ما بين «الثورى» و«البطل» و«الخائن» و«السياسى» و«الثرى».
كان أساس وجهة نظرى تراكماً معرفياً بدأ من الدراسة الأكاديمية للمفاجأة الاستراتيجية فى الحروب المختلفة (الضربة اليابانية لبيرل هاربر فى الحرب العالمية الثانية، الهجوم الألمانى على روسيا فى الحرب ذاتها، فتح الحلفاء الجبهة الثانية فى نورماندى أثناء الحرب، المفاجأة التى قامت بها إسرائيل فى ٥ يونيو ١٩٦٧)، وانتهى بالتعامل مع كل ما نُشر فى الموضوع، وآخره كتاب «الملاك» المشار إليه، والذى صار مرجعاً أساسياً لكثير من الكتاب فى مصر. والملاحظة الأولى على الكتاب تظهر المخابرات الإسرائيلية وكأنها تعمل وحدها فى الساحة، وكأنه لا يوجد أمامها مخابرات أخرى فى مصر ولا فى دول أخرى. هى حالة من «السوبرمانية» الاستخبارية التى تكون لدى المخابرات من الثقة فى الذات ما يكفى لكى تؤسس كيفية خداعها، بحيث تقوم على إجراء وسلوك من الجودة العظمى، بحيث يستحيل أن يكون حقيقيا. وكان ذلك ما حدث عندما اتصل أشرف مروان بالسفارة الإسرائيلية فى لندن لأول مرة فى صيف ١٩٧٠ قبل وفاة الرئيس عبدالناصر، وبعدها عندما تولى الرئيس السادات جرى الاتصال الفعلى الأول. كان الإجراء بسيطا للغاية ومستوفيا الشروط، زوج بنت الرئيس العظيم ويعرض عرضا بنقل المعلومات عن مصر مقابل المال. لم تكن لقصة أخرى أن تمر على المخابرات الإسرائيلية، خاصة أن المخابرات المصرية استخدمت من قبل وسائل أخرى لدس أشخاص داخل المجتمع الإسرائيلى، كان أشهرها رفعت الجمال. كانت الخطوة بهذا الشكل فى نفس المستوى من العبقرية التى كانت لخطة عبور القناة فى السادس من أكتوبر، الأولى قامت بها المخابرات، والثانية قامت بها القوات المسلحة، والهدف زرع مجموعة من المفاهيم التى تجعل الموساد وغيره من المخابرات الإسرائيلية والقيادة الإسرائيلية كلها تعتقد عن يقين أن مصر لن تحارب لتحرير أرضها أبدا.
والحقيقة- وهذه ملاحظة ثانية- لا ترد فى كتاب «الملاك»، وهى أن المخابرات الإسرائيلية كانت قد كونت مجموعة من المفاهيم التى تجعلها جاهزة لكى تتلقى المفاهيم الجديدة التى قدمها لها أشرف مروان. المفهوم الأول أن هزيمة يونيو ١٩٦٧ قد قصمت ظهر القيادة المصرية، بل مصر كلها، بحيث لن تكون مستعدة للحرب مرة أخرى. ونتيجة لذلك فإن التحليل الإسرائيلى للمقاومة المصرية فى رأس العش قبل نهاية شهر يونيو ١٩٦٧، وتدمير المدمرة إيلات، وحتى عمليات حرب الاستنزاف لم تكن أكثر من «حلاوة الروح» أو محاولة إرضاء الجبهة الداخلية. المفهوم الثانى، نتج عن الصورة المأساوية لحرب يونيو، وهو أن الجندى المصرى غير قادر على القتال، وإذا قاتل فإنه سرعان ما ينهار. والحقيقة أن إسرائيل لم تكن تحتاج لمعلومة أشرف مروان بموعد الحرب، ولا للمعلومة ذاتها عندما جاءتها من مصادر عربية، لأن عملية الحشد التعبوى المصرى لم يكن من الممكن إخفاؤها بشكل مطلق، خاصة مع الساعات الأخيرة عندما اندفعت الجسور إلى المقدمة تمهيدا للعبور. كانت لدى إسرائيل معلومات كاملة عن تحركات القوات المصرية لأنها كانت تجرى تحت سمعها وبصرها، ولكن كل المعلومات جرى استبعادها وقبول ما وصل إلى القيادة الإسرائيلية من أنها مجرد مناورات مصرية للتدريب وشغل القوات. لم تكن إسرائيل تدرى الفارق بين الجيش الذى حاربته عام ١٩٦٧، والجيش الذى سوف تحاربه بعد أيام، لم يكن الفارق الذى شكله دخول المؤهلات العليا إلى القوات المسلحة مقدرا لدى الإسرائيليين، ولا كانت نوعية السلاح واستخدامه مؤشرا لدى أحد، ولا كان الهدف الاستراتيجى للحرب إذا حدثت معروفا، وكل ذلك بسبب أشرف مروان.
لم يكن تعيين زوج بنت الرئيس عبدالناصر مديرا لمكتب الرئيس السادات للمعلومات لافتا للمخابرات الإسرائيلية، فقد كان بوسع السادات تكريم صهر الرئيس الراحل بمنصب متميز فى أماكن شتى، ولا لفت النظر أن تعيين أشرف مروان فى هذا المنصب الحساس لم يتكرر مع الشخصيات الأخرى لأبناء الرئيس الراحل، بل إنه وبعد ثورة «التصحيح» فإن الرئيس الجديد أصبحت له توجهات أخرى، ومن بينها أن الفترة الناصرية باتت موضوعا للنقد و«عودة الوعى». فى إسرائيل كان انتقال أشرف مروان من رئيس إلى آخر دليلا على مهارته وقدراته لكى يأتى لهم بالمعلومات، وليس لأنه فى الدولة المصرية فإن الملفات المهمة والخاصة بالأمن القومى تنتقل بأمانة من رئيس إلى آخر، ومن جمال عبدالناصر إلى أنور السادات. وكان الرئيس السادات ممن يعرفون كيف يستغلون أوراقهم جيدا، ومن بينها أن مصر سوف تسعى لتحرير كل أرضها المحتلة من قناة السويس حتى الحدود الدولية، ولذلك فإن مصر لا تستطيع أن تحارب ما لم تكن فى حالة من التكافؤ الاستراتيجى الذى لا يتحقق إلا بوجود سلاح رادع ومكافئ للأسلحة الاستراتيجية الإسرائيلية خاصة فى الطيران. وكان ذلك هو ما باعه أشرف مروان إلى الإسرائيليين، فقد بات ما يبحث عنه الإسرائيليون هو المدى الذى وصلت إليه مصر فى الحصول على «سلاح الردع»، وما لم يكن يعرفونه هو أن الاستراتيجية المصرية كانت قد تغيرت إلى استراتيجية أخرى هى «الحرب المحدودة»، وفى هذه الحرب فإن مصر تكيف خططها على قدر ما لديها من أسلحة، وتؤدى معركة تكفى لخلق موقف دولى وإقليمى لبدء عملية تحرير الأرض المصرية المحتلة كلها بالقوة والدبلوماسية معا. هذا «المفهوم» الذى غرسه أشرف مروان بمهارة شديدة هو الذى أعطى القوات المصرية الوقت الكافى للعبور، وبخسائر معدودة، لأن موشى ديان حتى بعد أن عرف بالموعد الذى قدره لهم أشرف مروان رافضا للتعبئة العامة والتى لم تبدأ حتى الساعة التاسعة من صباح ٦ أكتوبر.. كان هذا «المفهوم» ذاته هو الذى سبَّب المفاجأة للولايات المتحدة الأمريكية بعد أن باعته إسرائيل إلى واشنطن على أنه الحقيقة المقدسة.
وفى التحليل يقال دائما إنه لا ينبغى على الشجرة أن تخفى الغابة الهائلة خلفها، وفى الحرب فإنه لا ينبغى للتكتيك أن يخفى الاستراتيجية العليا من ورائه. كانت الاستراتيجية العليا كما ذكرنا، وكان التكتيك هو الحديث الدائم عن سلاح الردع، والخلافات المصرية- السوفيتية حول هذا السلاح، ولكن «المفهوم» لم يكن ممكنا تكريسه إلا ببناء مصداقية أشرف مروان، التى بدأت من القصة التى ذكرها لهم حول المتهور المتمرد الذى يبحث عن المال، والتى لم يكن لغيرها أن يكون فاعلا. أدوات المصداقية معروفة، وهى كم كبير من المعلومات، بعضها كان إسرائيل تحصل عليه من مصادر أخرى، وبعضها الآخر كان محسوبا بدقة، مثل مناورات العبور الكبرى التى جرت فى مايو ١٩٧٣، ونقل لهم مروان أنها حقيقية ومع ذلك لم تحدث الحرب، ومعلومات أخرى عن المفاوضات مع السوفييت، مع العلم أنها كانت تنتقل حرفيا لإسرائيل، وكانت الجرأة فى الانتقال بعربة السفارة المصرية بسائقها فى لندن مصدر إعجاب من الموساد، رغم أنها كانت تضع المخابرات المصرية وراء الحدث وتطوراته، ولم يكن ممكنا أن يدخل أشرف مروان وزوجته إلى مطار القاهرة حاملا صاروخين مضادين للطائرات فى حقائبهما، ثم بعد ذلك الخروج من مطار روما- كما ورد فى كتاب «الملاك»- إلا إذا كان تحت الإشراف والتحكم الكامل من المخابرات المصرية. لم يشك «الموساد» ولا مؤلف الكتاب فى الأمر، لأن الملعب جرى تصميمه، وصدقه فى ذلك مصريون، لا يلعب فيه إلا وحده. هى مباراة من جانب واحد، تسجل فيه إسرائيل الأهداف كما يتراءى لها، وفى الوقت الذى تحدده. لم يشغل بال الموساد أن مروان كان هو الذى أجرى صفقة طيران الميراج، وكان على صلة بأجهزة متعددة فرنسية وبريطانية وإيطالية وعدد من المخابرات العربية أيضا، ولم يكن كل ذلك ممكنا فى سفره ولقاءاته وعودته إلا إذا كان يربطها خيط واحد من السرية مصرى الصنعة.
الخلاف فى مصر عما إذا كان أشرف مروان بطلا أم جاسوسا هو خلاف على مدى الثقة فى الذات، كما أنه خلاف على مدى الاعتقاد فى القدرات الإسرائيلية. فمن اعتقدوا فى الموقف الرسمى المصرى كان لديهم ما يكفى من الثقة بالذات لرؤية الوقائع ووضعها فى إطارها المصرى، أما من ظنوا بصدق الموقف الإسرائيلى فقد صدقوا ما جاء فى كتاب «الملاك» ونسجوا الحكايات حوله. المعضلة، ربما، لدى الطرفين أن القصة المصرية لم تُحك بعد، ولكنها لا يمكن أن تُحكى إلا فى التوقيت الذى يحقق المصالح المصرية، وليس وفقا للتوقيتات الإسرائيلية، وفى الأعمال المخابراتية يوجد دوما إبقاء الأطراف الأخرى «تخمن». ولكن المؤكد أنه فى يوم ما- ربما لن يكون بعيدا- ربما تظهر القصة المصرية والفيلم المصاحب لها.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع