بقلم - أنطوان بيروز دي مونكلو
الخطاب الرسمي في أفريقيا يذهب إلى دق ناقوس الخطر من غلبة الجهاد على بلدان كثيرة في القارة الأفريقية، ويصف الغلبة هذه بـ «خطر شامل على الغرب». ولكن هل الكلام هذا في محله؟ ففي الصحراء الأفريقية الكبرى ثلاث بؤر «جهادية»: «حركة الشباب» في الصومال، و «بوكو حرام» في شمال غرب نيجيريا، وشبكة «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» في مالي.
ويعود الفرق بين الحركات «الجهادية» الثلاث المهيمنة في أفريقيا إلى جذورها. وعلى سبيل المثل، أفلحت «حركة الشباب» من دون غيرها من الحركات الجهادية، في الإمساك بالأرض في بلد انفرط عقد دولته. أما في مالي فلم تكتب حياة مديدة لحكم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»- وهي واجهة عدد من المجموعات الموالية للقاعدة، ولم يدم حكمها أكثر من ستة أشهر في شمال البلاد في 2012. وفي نيجيريا، سيطرت «بوكو حرام» على بعض المناطق الريفية في بورنو، ولكنها أخفقت في الإمساك بمقاليد أي من المناطق. وفي مالي، «القاعدة في بلاد المغرب ...» تتحدر من جذور جزائرية، وهي وثيقة الصلة بالعالم العربي. ولكن الطابع «الساحلي» (دول الساحل الأفريقي) الذي تسبغه الحركات الجهادية هذه على نفسها هو من بنات خيالها، ولا سند له في الواقع. فالتنسيق غائب بين هذه الحركات، ولا امتداد لها وراء البحار، ولم تشن هجمات في أوروبا أو في أميركا الشمالية، في ما خلا «حركة الشباب»- شبكة مهاجرين صوماليين في الخارج هي جسرها إلى العالم. والمهاجرون النيجيريون لا يؤيدون «بوكو حرام» في لندن، ولم يتقاطر فرنسيون من أبناء الضواحي الفرنسية الى مالي للقتال في تومبكتو. ولا تقوم قائمة للتحليلات السائدة في فهم ما يجري في العراق أو سورية في الساحل الأفريقي. فأوجه الشبه بينهما ضعيفة أو غائبة.
ولا أصف هذه الحركات بالإرهابية، على رغم شنّها هجمات إرهابية. فهي حركات «تمرد» صفوفها مؤلفة من عصابات راسخة في بيئات اجتماعية، وهي تعارض دولاً تصفها بالـ «كفر» جراء فسادها على المستويين السياسي والأخلاقي. وليس الرحم الأيديولوجي علة حركات التمرد هذه. وأجريتُ مقابلات مع حوالى ستين عضواً من أعضاء «بوكوحرام»: واحد فحسب منهم رفع لواء دواع دينية لتسويغ انضمامه الى الحركة. فالمتمردون يتوسلون براية الإسلام والنماذج الثورية في العالم الإسلامي لتسويغ ثورتهم وتمردهم. ومن معين المنهل هذا يرفعون لواء «القاعدة» أو «داعش». وإذا كان تعريف الإرهاب يُطلق على من يرتكب مجازر في أوساط مدنيين آمنين وأبرياء، صح التعريف هذا كذلك في الجيوش الأفريقية التي يفترض بها إنقاذ الحيوات من طريق مقاتلة هذه الحركات.
وفي وسعي القول جازماً إن قوات الأمن في نيجيريا تنزل الموت بالناس أكثر من «بوكوحرام». وفي سجون البلد هذا، تعذيب يعصى التحمل. ولا ريب في أن الجيوش المحلية ليست وراء بروز المجموعات الجهادية. ولكن السكان في أحيان كثيرة يرون أن الجيوش هذه قوات احتلال، وهي تشن عمليات عنف وسلب، وتسجن الأبرياء، والفساد يفشو في صفوفها، الخ. وهذه الوقائع يترتب عليها السؤال عن صواب تصوير مكافحة الإرهاب على أنها السبيل الأمثل لإنقاذ الحيوات وإرساء الاستقرار، ولكن حين يزور المرء المناطق هذه، يدرك أن الجيوش المحلية تقف وراء الاضطرابات.
وفرنسا بالغة التدخل في منطقة الساحل، وهي تسعى منذ عام إلى تسليم مقاليد مكافحة الإرهاب إلى الأفريقيين أنفسهم. وأنشئت مجموعة «5 زائداً واحداً» التي تجمع جيوش 5 بلدان أفريقية. ولكن، وإلى اليوم، العمليات العسكرية أولت الأولوية للمناطق الحدودية حيث تدور، من غير شك، عمليات تهريب. وتسعى الدول الأفريقية إلى اقتلاع التهريب، وتتذرع إلى ذلك بالقول إن عوائد التهريب تعود إلى الجهاديين. ولكن في الواقع، هذه المناطق تعيل الجميع وهي مصدر عيش السكان كلهم! فمن أين إقناع سكان هذه المناطق بقبول تدخل عسكري يرمي إلى حرمانهم من موارد عيشهم؟ ولذا، أطعن في قدرة مجموعة الدول الخمس على استمالة المحليين. ومن دون دعم هؤلاء لن تنعقد ثمار عملهم. وأرى أن الفشل ينتظر التدخل الفرنسي في بلدان الساحل ومالي، وهذا ما كتبته منذ 2013: «الإرهاب» هو مرآة ضعف دولة مالي فحسب. والرد العسكري لا يكفي، والحاجة تمسّ إلى علاج طويل الأمد. ولا أعارض التدخلات العسكرية، فموقفي منها ليس مبدئياً، وهي عمليات مسوغة في بعض الأحيان. ولكن التدخل في مالي عظّم خطر المجموعات الجهادية، وجعله هائلاً. وفي 2012، أُخرجت صورة « القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» على أنها خطر عابر للدول يُهدد استقرار المنطقة كلها. وقيل إن التدخل الفرنسي يخدم مصالح فرنسا، ويحميها من الهجمات. ولكن إلى يومنا هذا لم تشن مجموعات جهادية من منطقة الصحراء الكبرى الأفريقية، أي هجوم في فرنسا. وطعنتُ حينها في قدرة هؤلاء الجهاديين على مواصلة طريقهم ما وراء موبتي إلى باماكو، عاصمة مالي، والصمود فيها. فهذه العاصمة تعد مليون نسمة، وسكانها معادون للحركات الجهادية أشد معاداة. وكان في جعبة الفرنسيين خيارات عسكرية أخرى.... وفي حال مالي، ساد خطاب بعيد من الوقائع والمنطق، وبلغ به مبلغ الهذيان. وإثر شن عملية سرفال [في 19 أيلول/ سبتمبر 2013]، سوّغ الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، التدخل في مالي بالزعم أن الجهاديين يقتلون النساء والأطفال. وهذا زعم يجافي الواقع. والمجزرة الوحيدة في تلك المرحلة كانت مجزرة جنود ماليين في آغلهوك. ولكن مسؤولية الجهاديين عن المجزرة هذه غير ثابتة ولا بائنة. ولكن وسائل الإعلام كلها لم تخالف خطاب هولاند. وفي خطاب في 8 آذار (مارس) 2013، وفي مناسبة يوم حقوق المرأة، تذرع هولاند بأسوأ ذريعة تسوغ التدخل العسكري منذ حرب الجزائر: وزعم أن تدخل بلاده يرمي إلى عتق النساء الماليات المحجبات. وحين توسل ساركوزي بالذريعة نفسها في 2008 لتسويغ تمديد ولاية التدخل الفرنسي في أفغانستان، ندد الحزب الاشتراكي بـ «حرب الحضارات». وعلى خطاه سار هولاند بعد أربع سنوات. ولذا، الحاجة هي ربما إلى نزع تطرف قادتنا. فمثل هذه الإعلانات والتصريحات هي عَرَض من أعراض عمى أيديولوجي يسوغ كل شيء: لمكافحة خطر عالمي مزعوم، لا نتردد في دعم أنظمة ديكتاتورية فاسدة وغير شعبية. ونطلب من الجيش الفرنسي المستحيل: الإمساك بالأرض في مناطق يلفظ فيها المحليون قواته.
وأن تعزى المشكلات كلها في هذه المنطقة الى الفقر يختزل المسألة. ولا ريب في أن الفقر هو قماشة كل النزاعات الأفريقية، الجهادية وغير الجهادية على حد سواء. ولكن البؤر الجهادية لا تنبت لا محالة في المناطق الأكثر بؤساً. ومؤسسو المجموعات الجهادية لا يتحدرون من الفئات الأكثر فقراً. ويفوق دور التباين الاجتماعي، توسع الهوة الاجتماعية، والشعور بالظلم وغياب العدالة، دور الفقر في التمخض عن هذه الحركات. فالمجتمعات الفقيرة لا تولد القدر نفسه من النزاعات مقدار المجتمعات حيث هوة اللامساواة شاسعة وحيث النقمة على الأثرياء تغذي الغضب. ولن تنعقد ثمار مساعدات تنموية تغدق من غير رقيب ولا حساب، فتُختلس وتُستخدم لغايات أخرى. والتشاد هو خير مثل على ما أسوقه: ففرنسا تسدد اليوم رواتب الموظفين التشاديين جراء اختلال أموال الريع النفطي. وعوض انتقاد الرئيس التشادي، وهو حليف صدوق في ميادين القتال، نضخ الأموال في خزينته. وفرنسا لا تنتقد الحلفاء، ولا تربط المساعدات بتغيير الحكم أو الحوكمة. ولم تفت قادة المجتمعات المعنية ملاحظة هذا الأمر. فاليوم مكافحة الإرهاب هي ريع الأنظمة الأفريقية الديكتاتورية. ففي الماضي، كان الغرب يغض النظر عن الأنظمة الديكتاتورية الأفريقية في أوج الحرب الباردة. واليوم، تذكي الأنظمة الفاسدة، وبعضها في أفريقيا من حلفاء فرنسا، مخاوف الفرنسيين من الحركات الجهادية لاستمالة الدعم.
نقلا عن الديمقراطية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع