نشوب صراع فى داخل أى جماعة تضع نفسها فى مأزق تاريخى هو أمر طبيعى. وإذا لم يحدث مثل هذا الصراع، لكانت «جماعة خرافية» لا تسرى عليها سنن الحياة. غير أن فهم أبعاد هذا الصراع الذى تصاعد فى جماعة «الإخوان» فى الفترة الأخيرة يتطلب معالجة منهجية لتجنب تضخيمه، أو التهوين من أمره.
فقد قيل الكثير بشأنه تهويناً أو تهويلاً. ولذلك يجد من يتابعون الموضوع أنفسهم فى حيرة بين اتجاه يرى انقساماً غير مسبوق فى هذه الجماعة قد يُعجل بنهايتها، وآخر يعتقد أن الصراع فى داخلها مجرد مناورة من جانبها.
غير أن القراءة المتأنية لما هو متيقن فى هذا الصراع حتى الآن تقود إلى ملاحظتين تتطلب كل منهما معالجة أوسع.
أولا: كان طبيعياً أن يثير فشل قيادة «الإخوان» وفقدها السلطة بعد عام واحد من الصعود إليها جدلاً حول مسؤوليتها عن الاصطدام بالحائط للمرة الثالثة فى تاريخ هذه الجماعة بعد أزمتى 1948 – 1951، و1954 – 1972.
ولذلك كان استدعاء حالة «المحنة» محاولة لوضع سقف لهذا الجدل. واعتمدت هذه المحاولة المستمرة حتى الآن على خطاب يعيد هذه «المحنة» إلى «مؤامرة» دُبرت ضد الجماعة، وليس إلى أخطاء ارتكبتها.
وقد نجحت قيادة الجماعة فى ذلك شهوراً استخدمت خلالها الأحداث الدموية المتوالية لتكريس رواية «المؤامرة». واعتمدت فى ذلك على أن معظم قواعد «الإخوان» لا يسألون السؤال المنطقى الذى يتطلب وجود عقل نقدى، وهو: إذا صح وجود «مؤامرة» وفق هذه الرواية، فكيف سقطت قيادة يُقال إنها حكيمة، بل هى الحكمة نفسها، فى براثن «المتآمرين»، وهل كان ممكناً أن ينجح «التآمر» عليها لو أنها كانت قد أحسنت التصرف ووفت بالوعود والتزمت بالعهود؟
غير أن تأثير خطاب المحنة - المؤامرة أخذ يتراجع نتيجة العشوائية فى إدارة الصراع وتحويله إلى صدام مفتوح، وغياب أفق واضح له بمنأى عن الشعارات التى بدأ عدد متزايد من أعضاء الجماعة يدركون افتراقها عن الواقع.
ولذلك كان طبيعياً أن يظهر الخلاف المكتوم داخل الجماعة، وما يقترن به من صراع مرتبك لم يتبلور بوضوح بعد، ولكنه ينم عن وجود اتجاهين بشكل ما. يرى الاتجاه الأول أن الجماعة باتت فى خطر كبير، وأن التهدئة هى السبيل لإنقاذها. ولكنه مازال أضعف من أن يستطيع تقديم مبادرة جادة.
أما الاتجاه الثانى الذى يتركز فى بعض دوائر شباب الجماعة فقد لجأ إلى العنف سبيلاً للمواجهة. وحاولت قيادة الجماعة احتواء الصراع عبر إجراءات شكلية لم تحل دون استمراره وتصاعده. غير أن المستوى الذى بلغه هذا الصراع حتى الآن لا يدعم فرضية انقسام الجماعة، بمقدار ما يمكن أن يفضى إلى تفكك جزئى عبر اتجاه مجموعات من شبابها إلى العنف سواء بشكل عشوائى، أو عبر تكوين جماعات عنفية صغيرة، من خلال التعاون مع تنظيمات مسلحة.
ثانياً: ليست هذه هى المرة الأولى التى يحدث فيها صراع حاد داخل جماعة «الإخوان» خلال الأزمات. فقد تصاعد الخلاف داخلها عقب أزمة 1948، وبلغ ذروته عندما اصطدم المرشد الثانى حسن الهضيبى بقيادة النظام الخاص (الجهاز السرى). وتواصلت مظاهر ذلك الصدام بعد استعادة الجماعة وجودها القانونى عام 1951، حيث انقسمت إلى ثلاث كتل على الأقل. وقد سُجلت تفاصيل ذلك الصدام ووُثقت فى كتب عدة أهمها كتاب أحد قادتها (محمود عبد الحليم) الصادر فى السبعينيات فى ثلاثة أجزاء.
وقبل أن تلملم الجماعة آثار ذلك الانقسام، أثارت أزمة 1954 خلافات أخرى تصاعد بعضها وأنتج صراعات حادة بلغت ذروتها الأولى عام 1956 بين من رأوا فى العدوان الثلاثى على مصر فرصة لمصالحة ما، ومن رفضوا وأصروا على الصدام. أما ذروتها الثانية فكانت فى منتصف الستينيات حين تصاعد الخلاف حول مسألتى التكفير والعنف.
فالصراع داخل جماعة «الإخوان» إذن ليس جديداً، سواء خلال الأزمات أو فى الظروف العادية. ويفيد ما تم توثيقه عن هذا الصراع أنه بلغ فى بعض المراحل مبلغاً يفوق ما وصل إليه حتى الآن بكثير.
غير أن أهم ما يمكن استخلاصه من تاريخ هذا الصراع فى مراحل الأزمات هو أن الجسم الرئيسى للتنظيم يظل بعيداً عنها، ويلجأ معظمه إلى الكمون.
وفى مذكرات بعض قادة «الإخوان» الذين حاولوا إحياء نشاط الجماعة فى الفترة بين 1957 و1965 تفاصيل مهمة توضح كيف يتصرف القسم الأكبر من أعضاء الجماعة حين تشتد أزمتها. ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من السلوك فى هذا السياق. أولها الابتعاد والانزواء، وثانيها استمرار اجتماعات الأسر غير المرصودة أمنياً، وثالثها المحافظة على الصلات بشكل غير رسمى أو كما قال أحمد عادل كمال (كنا نلتقى ونبقى على صلاتنا بلا أسرة أو شعبة أو برنامج دراسى).
ولذلك، ولغيره كثير لا يتسع المجال له، ينبغى التعامل بطريقة منهجية مع صراعات «الإخوان» الراهنة وعدم التعجل فى القفز إلى أحكام أو استنتاجات، لأنها مازالت فى بدايتها أو فصلها الأول. فإذا كان الانقسام أو الانشطار مستبعداًُ الآن، فقد لا يكون كذلك فى المستقبل. وإذا كان التفكك الجزئى مرجحاً فى الأمد القصير، مع بقاء الجسم الرئيسى للجماعة كامناً فى حالة انتظار، فقد لا تقف تداعيات الأزمة عند هذا الحد فى مدى زمنى أبعد.