ليست هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها قراء مجلة «الإذاعة والتليفزيون» بالفريق سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة، بل هذه هى المرة الثانية.. والمرة الأولى كانت بالتحديد قبل نشوب معارك 6 أكتوبر بأسبوعين تماما، وكان حديثى معه حول لعبة الشطرنج بصـفته رئيس شرف الاتحاد المصرى للعبة العقل والتفكير والحرب.
وهذه المرة التى نلتقى فيها بالفريق الشاذلى، تجىء بعد حرب أكتوبر التى حقق فيها المقاتل المصرى وجوده وكيانه، ولم يكن لقائى به بموعد رتبناه أو ضربناه قبل اللقاء، لكنى التقيت به فى الطريق إلى أرض المعارض بالجزيرة، حيث يقام هناك «معرض الغنائم» الذى تقيمه القوات المسلحة للأسلحة الإسرائيلية المختلفة، ولما رآنى أقترب منه وهو مازال داخل عربته الجيب ابتسم ابتسامة عريضة، وقفت معه، وضحك من أعماقه كثيرا، وقال: كيف عرفت أنى قادم اليوم هنا؟ قلت: يبدو أن الحظ فى سبق صحفى، هو الذى رتب وحده هذا اللقاء.
واستأذنت منه فى التجول داخل المعرض، فقال لى: إننا مازلنا فى دور الإعداد ويمكنك أن تنتظر بضعة أيام إلى أن ننتهى من الإعداد ولكننى ألححت فى الرجاء فوافق على ذلك.
وبمهمة القائد الذى يحرك جنوده فى ميدان القتال، راح فى نشاط وذكاء شديدين يوضح الأماكن التى ستوضع بها الغنائم الإسرائيلية، «الدبابات بأنواعها، العربات المدرعة، العربات المجنزرة- الأسلحة الثقيلة، الأسلحة الخفيفة– الطائرات بأنواعها، والدانات التى لم تنفجر بعد».. وبعد الجولة السريعة النشيطة فى تخطيط أرض المعرض الأول من نوعه فى حياة مصر جلست مع الرجل.
القيادة الرشيدة
قلت: لست أدرى كيف أبدأ معك، وعشرات العشرات من الأسئلة تتسابق إليك، لكنى أيضا وقبل كل شىء أحيى العمل العظيم الذى قامت به قواتنا المسلحة فى 6 أكتوبر العظيم.
قال الفريق سعد الشاذلى رئيس أركان حرب القوات المسلحة: إنها تحية مردودة، لأن هذا الذى حدث من صنع شعبنا العظيم ومن صنع القيادة الرشيدة التى تتمثل أولا وأخيرا فى رئيسنا وقائدنا المؤمن محمد أنور السادات الذى نسير على ما يشير به، لأن ما يفعله لا يمكن إلا أن يكون فى صالح مصر والأمة العربية، التى وقفت معه، وقفة رجل واحد، فى وحدة، فى حد ذاتها نصر عربى كبير، أذهل عدونا كما أذهلته قواتنا المسلحة.
قلت: أصبح المقاتل المصرى أنشودة العالم وأغنيته المفضلة لما قدمه من بسالة نادرة.
وهنا قال الشاذلى: كان أعداؤنا يشككون العالم فى مقدرة المقاتل المصرى لأنه لم يواجههم فى الحروب السابقة المواجهة الفعالة، وعلى هذا الأساس راحت أبواق الصهيونية تقول ما قالته عنه، لكنه منذ 6 أكتوبر، وبعد الدرس العملى الذى حدث، استطاع العالم أن يعترف بمقدرة وكفاءة المقاتل المصرى القتالية، لأننا هيأنا له المواجهة الكاملة مع العدو، وقد اعترف وزير دفاعهم، أن المقاتل المصرى، قاتل بشراسة وشجاعة إلى الحد الذى جعلهم يعتقدون فى إسرائيل أننا قمنا بصرف حبوب الشجاعة لجنودنا قبل المعركة.. وقد علمنا من جنودنا الذى عادوا من الأسر أخيرا أن المستجوب الإسرائيلى كان يركز فى أسئلته على تلك الحبوب وأثرها على المقاتل!! كنا نضحك ونحن نسمع ذلك، بل ونهزأ من تفكيرهم .. إنهم تارة «يسلسلون» طياريهم فى مقاعدهم، وتارة يتكلمون عن حبوب الشجاعة، وينسون دائما الإيمان والعقيدة وأثرها على المقاتل.
فريد من نوعه
قلت: الشعب يرى الآن دبابات العدو فى الميادين، وتقيم القوات المسلحة معرضا لغنائمها من العدو.
قال الشاذلى : وصلت آلاف الرغبات من الشعب لزيارة جبهة القتال، لمشاهدة ما حدث فى معركة العبور، ولهذا، وبتوجيه من الرئيس السادات نقيم الآن المعرض ليشاهد الشعب فيه نموذجا لخط بارليف الذى قهره المقاتل المصرى، وليرى بعضا من الأسلحة والمعدات التى استطاع أبناؤه الاستيلاء عليها بشجاعتهم وحسن إعدادهم وقوة إيمانهم.
ويقول الفريق الشاذلى: وقد أظهر الكثير من كبار السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأجانب رغبتهم فى زيارة الجبهة.. وحيث إن الإكثار من هذه الزيارات قد يعطل أعمال رجالنا فى الجبهة، فإننا نرى أن زيارة المعرض بواسطة الغالبية العظمى من المصريين والأجانب قد تعوضهم عن زيارة الجبهة فى هذه الظروف ولا سيما وأن المعركة لم تنته بعد، ويجدر بنا أن نترك لرجالنا من المقاتلين الوقت اللازم للتجهيز والإعداد.
الدبابات
قلت: لقد حاربت قواتنا المسلحة ببسالة نادرة، خاصة فى معركة الدبابات الشهيرة التى سيطرت كثيرا على أرض المعركة بعد الضربة الجوية الأولى، ويقول البعض إن الدبابة بعد هذه الحرب فقدت مميزاتها، وهناك تفكير لإبعادها بعد ذلك عن ميدان القتال.
قال الفريق الشاذلى: مما لا شك فيه فإن الصواريخ المضادة للدبابات تشكل عدوا رهيبا للدبابة، وقد كانت هذه الحقيقة معروفة إلى حد ما قبل بدء عملياتنا الأخيرة، ولكن حرب 6 أكتوبر قد أكدت هذه الحقيقة فى جميع أنحاء العالم، حيث إن هذه هى أول حرب حديثة تتصارع فيها الدبابات والصواريخ المضادة للدبابات هذا الصراع الرهيب، وقد نجحت قواتنا من المشاة فى صد جميع الهجمات المضادة التى قام بها العدو بدباباته بفضل هذه الصواريخ المضادة للدبابات، فى الوقت الذى لم يكن معنا فى رؤوس الكبارى فى الساعات الأولى من العبور دبابة واحدة. وقد تعلم العدو وأصدقاؤه هذه الحقيقة بسرعة كبيرة، وجلب من أمريكا بالطائرات أعدادا كبيرة من هذه الصواريخ فى الأيام الأولى للحرب.
وفى اليوم الثامن للعمليات عندما بدأت دباباتنا فى التقدم نحو الشرق لتخفيف الضغط عن سوريا اكتشفنا أن العدو لديه أعداداً هائلة من هذه الصواريخ بل ومن أحدث أنواعها. ويكفى أن تعلم أن بعض هذه الصواريخ مجهزة بحواسب إلكترونية وعيون تليفزيونية، وبعضها مجهز برؤوس باحثة عن الحرارة ، مما يجعل إصابة الصاروخ للدبابة وهى على مسافة حوالى 4 كيلو مترات عملية تكاد تكون مؤكدة، علما بأن هذه المسافة تعتبر خارج مدى الرمى المباشر بالنسبة لمدفع الدبابة، ليس عندنا فحسب بل فى جميع الدبابات المعروفة فى العالم، وقد كانت هذه الصواريخ هى السبب المباشر لإيقاف تقدمنا فى هذا اليوم.
ومع ذلك فإننا يجب ألا نعتقد أن الصواريخ المضادة للدبابات قد قهرت الدبابة وحلت محلها، حيث إن ذلك يعتبر تصورا خاطئا لا يستند على دراسة.
إن الصواريخ المضادة للدبابات كأى سلاح جديد قد فتنت الكثير من العسكريين، ولكن بالتعمق فى التفكير يتضح تماما أن هذه الصواريخ كأى سلاح آخر له نقط ضعف، وأن القائد الناجح هو من يحاول دائما أن يستغل نقط القوة فى سلاحه وأن يحاول جاهدا أن يمنع خصمه من استغلال نقط الضعف فى هذا السلاح، وإذا تكلمنا بلغة الشطرنج فإنه يمكن القول بأن قواعد اللعب ثابتة، ولكن يجب علينا أن نغير من أسلوب اللعب، وهذا ما يشغل تفكيرنا الآن، بل ويشغل تفكير جميع العسكريين فى العالم .
وفى النهاية أستطيع أن أؤكد أن الدبابة لم تفقد إمكانياتها كسلاح هجومى حاسم، ولكن أسلوب عملها كجزء من المعركة المشتركة التى تسهم فيها جميع الأسلحة الأخرى ، وتوقيت هذا العمل سوف يتغير ضمن السيمفونية التى يضعها ويخرجها القائد فى الميدان.
استراتيجية المعركة
قلت: لأعود، لأسال عن الأيام التى سبقت يوم 6 أكتوبر العظيم، وماذا قدمت قبل العبور العظيم، وبماذا كنت تشعر تجاه ما يقوم به الرجال خاصة وأن ساعة الصفر كانت معروفة لديكم.
قال: فى الحقيقة لقد سبق أن تكلمت مع الأستاذ موسى صبرى كيف أمكن التغلب على المشاكل التى قابلتنا ونحن نعد أنفسنا للعبور العظيم، ولا أريد أن أكرر نفس الكلام، ولكن الشىء الذى كان يقلقنا دائما هو كيف نستطيع أن نفاجئ العدو؟ لقد نجح العدو فى مفاجأتنا عام 1956 وعام 1967.. فكيف نفاجئه عام 1973؟ وقد وضعنا لذلك خطة خداع جرى تنفيذها قبل المعركة بعدة أسابيع، بل إن خطة الخداع هذه كانت ضمن خطة خداع أكبر سبقت ذلك بعدة شهور، وعلى سبيل المثال قمنا باستدعاء جنود الاحتياطى للتدريب ثم سرحناهم عدة مرات، ابتداء من يناير 1973 بلغ فى مجموعها أكثر من عشرين مرة، حتى تعود العدو على ذلك وصدقه تماما، ثم جاء استدعاء الاحتياطى قبل معركة أكتوبر بأيام، فالتهم العدو الطعم كما التهم غيره من أساليب الخداع الأخرى.
ومع كل ما اتخذناه من حرص وخداع فى إخفاء نوايانا، فقد كنا نعتقد أن العدو سوف يكتشف نوايانا قبل المعركة بحوالى ثلاثة أيام، وأعددنا العدة لذلك.
كانت الأيام التى سبقت المعركة تسير فى بطء شديد .. كنا نعد الأيام ثم أصبحنا نعد الساعات، كنا نركز أعيننا وآذاننا على العدو خلال هذه الأيام الرهيبة لكى نكتشف أى تصرف للعدو يوحى بأنه قد أحس بنا، ولكن جميع التقارير كانت تؤكد أن العدو إما أنه فى سبات عميق وإما أنه يرى ويسمع ولكنه لا يصدق ما يراه وما يسمعه، لأننا فى نظره لا نستطيع أن ننفذ ما نتظاهر بأننا قادرون عليه.
ولا أخفى عليك أننى كنت أشعر بالقلق قبل بدء المعركة، ليس القلق الناتج عن الخوف من النجاح فى العبور، فقد كنت واثقا أننا بعون الله سوف ننجح فى عبور القناة، ولكن درجة هذا النجاح كانت ستتوقف على القدر الذى نحققه من المفاجأة.. وفى صباح يوم الخميس 4 أكتوبر أصبح واضحا أننا نجحنا فى تحقيق قدر كبير من المفاجأة، لأن العدو حتى لو عرف بنوايانا فى هذا الوقت فإنه لن يستطيع أن يتم عملية التعبئة الشاملة لقواته قبل بدء المعركة، وازداد أملنا فى أن نحقق المفاجأة التامة.
كانت أعداد القادة والضباط الذين يعرفون وقت الهجوم تتزايد كل يوم، إلى أن عرف الجنود بأن ما يقومون به من مشروع تدريبى إنما هو الهجوم التاريخى لعبور قناة السويس، وكان ذلك قبل بدء الهجوم الفعلى بساعات قلائل يوم السبت 6 أكتوبر، ومع تزايد عدد العارفين بتوقيت الهجوم تزداد فرص تسرب المعلومات نتيجة عدم الحرص والتباهى بالمعرفة وعدم تقدير المسئولية.
كان مثلنا كمثل طالب يدخل الامتحان واطلع على ورقة الاسئلة، فوجد أنه يلم بجميع الإجابات الصحيحة على هذه الأسئلة، فازداد طموحه ولم يعد يفكر فى مجرد النجاح، بل كان يتطلع إلى تحقيق نجاح باهر.. كانت كل ساعة تمر دون تصرف من العدو يوحى بأنه أحس بنوايانا، تقربنا من المفاجأة التامة، وبالتالى يزداد قلقنا إلى أن دقت الساعة الثانية من بعد ظهر 6 أكتوبر 73 وعبرت القناة أكثر من 200 طائرة قتال فى اتجاه الشرق، معلنة أن مصر قد بعثت من جديد، وأن الصدمة التى أنذر الرئيس المؤمن محمد أنور السادات بأنها ستوقظ إسرائيل وأصدقاءها من سباتهم قد أصبحت حقيقة واقعة.
الحمد لله لقد نجحنا فى تحقيق المفاجأة التامة، لقد زال القلق وحل محله الثقة بالنفس والإيمان بالنصر، كان السيد الرئيس يتولى القيادة بنفسه فى هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ مصر، يعاونه السيد الوزير والقائد العام للقوات المسلحة، وأنا وباقى هيئة القيادة.. وتبادلنا التهنئة وازداد شعورنا بأن الله معنا وان النصر آتٍ بإذن الله.
أرسل تعليقك