بيروت ـ وكالات
متى بدأت المرأة تتمرد على وضعها الذي تعتبره مجحفا لإنسانيتها وترى فيه تمييزا سلبيا عن وضع صنوها ورفيق حياتها، الرجل ؟لعل "ليليت" التي ورد ذكرها في بعض الميثولوجيات القديمة هي أول امرأة اتخذت موقفا رافضا من عدم مساواتها برفيقها الذكري "آدم".يتباين تصوير "ليليت" في الميثولوجيات والأساطير القديمة، حسب الموقف الأخلاقي/الديني منها، فهي التي عرفت في الحضارة السومرية باسم "ليليتو"، عرفت بالأكدية كربة الرياح التي تجلب المرض والعواصف والموت.وذكرت ليليت في الحضارة الإغريقية واليونانية والمصرية القديمة والعبرية، ، ففي التوراة (السفر الأول_سفر التكوين) هي نظيرة آدم، التي خلقها الله كما خلق آدم، من المادة نفسها، لذلك رفضت الخضوع له، على اعتبار أنهما متساويان.وتنسب إليها بعض الميثولوجيات دور المحرض أيضا في قصة الخلق، فهي، وبعد أن تمردت هربت من الجنة، ثم ظهرت بشكل "الأفعى" التي تغري حواء، الزوجة البديلة، الخاضعة لآدم، بالتمرد مستخدمة وسائل الإغواء.
اما المسيحية فقد أنكرت وجود ليليت إلى حد كبير، ولم يرد أي ذكر لها في القرآن.منذ الحضارات القديمة وحتى يومنا الحاضر تباينت الأحكام الأخلاقية على ليليت، فهي "الشريرة" "العاهرة" وإسمها مرادف للـ"عتمة" في نظر بعض الأساطير، بينما يرى فيه البعض، خاصة في العصر الحديث، رمزا للتمرد على الغبن والشجاعة والجرأة، والنضال من أجل المساواة.
"أما النسخة العربية الحديثة من "ليليت" فهي حائرة بين إخلاصها الديني وولائها للتقاليد التي نشأت عليها، وبين رفضها الفطري أو الواعي لوضعها الاجتماعي والإنساني.
الكثير من الفتيات العربيات يبدأن سن المراهقة بالتمرد على الامتيازات التي يحصل عليها الشقيق الذكر في العائلة، فهو يحظى "بخدمة" إناث العائلة، ويعفى من المساهمة في الأعمال المنزلية في معظم الأحوال، وبينما يبدأ سني مراهقته باستعراض "ذكورته" أمام الفتيات، تقضي شقيقته جزءا كبيرا من وقتها في غسل الأطباق وتنظيف المنزل.
بداية التمرد غير الواعي عند بعض الفتيات العربيات تبدأ بالاعتراض على هذا التقسيم الوظيفي، وإما أن تتطور بعد ذلك إلى اعتناق أفكار محددة في هذا الاتجاه أو تتجه الى التصالح مع وضعها،خاصة بعد الزواج.ترى الكثير من الفتيات في الزواج وسيلة للحصول على الأمان والانتقال من منظومة قوانين العائلة الأبوية التي ترى فيها الفتاة الزاما عاطفيا وعشائريا، إلى منظومة العلاقة الزوجية التي تأمل أن تجد فيها هامشا من حرية الحركة والتعبير عن الذات.بعض الفتيات اللواتي يواصلن طريق "التمرد" يتجهن إلى النشاط السياسي الذي يجدن فيه مدخلا لإثبات أنهن "لا يختلفن في دورهن الحياتي عن الرجال"، فهن يشاركنهم في المخاطر التي تنطوي عليها النشاطات السياسية، خاصة في العالم العربي.
ويلاحظ أحد الكتاب الفلسطينيين، في أحد أحاديثه، ساخرا ، أن "الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية هي أول من يعامل الفتيات والشباب الفلسطينيين على قدم المساة من حيث التنكيل بهم، فالفتيات عرضة للسجن والتعذيب بل والقتل ايضا، كالشباب تماما".لكن هذا ليس حكرا على الوضع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ يبدو أن الجهة التي تثور المرأة ضدها تعتبرها "ندا"، فقد شهدنا ذلك اثناء الثورة المصرية ايضا، حيث تعرضت فتيات لعمليات سحل وتعذيب وإذلال، كالشباب تماما.المفارقة هنا هي أن "رفيق دربها" هو الذي يتوانى عن معاملة المرأة كند مساو له حين قطف ثمار العمل السياسي الذي شاركته أصعب مراحله ومظاهره.كان للنساء حضور بارز في الثورات العربية الأخيرة، من تونس الى مصر الى البحرين الى سوريا، ولكن حين وصلت بعض الثورات مرحلة "قطف الثمار" وجدت المرأة نفسها مغيبة ومجحفة.في ليبيا كان من أول التغييرات التي حصلت بعد الثورة أن تعهد رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل باعلان إلغاء حظر تعدد الزوجات .
في مصر لم تحظ النساء بحضور سياسي في الحكم يوازي حضورها في الشارع أثناء الثورة. لم تحصل المرأة المصرية إلا على 8 مقاعد فى مجلس الشعب المنتخب من أصل 498 مقعدا أى نسبة لا تصل إلى 2%.وتقول الباحثة نعيمة سمينة "هناك ضعف واضح للمشاركة السياسية للمرأة التونسية حيث لا تؤدي دورا ذا أهمية كبيرة في الحياة السياسية ومواقع صنع القرار بالمقارنة مع تواجدها في قطاعات أخرى كالتعليم والصحة.في أوروبا وأمريكا اتخذ تمرد المرأة على وضعها شكلا منظما، وبني على أيديولوجيات وفلسفات راسخة، علما بأن العالم العربي أيضا أنتج "منظراته" النسويات.كانت الأكاديمية والكاتبة المصرية نوال السعداوي من أوائل من تطرقوا الى وضع المرأة في المجتمع العربي بشكل علمي جريء في عدة كتب اصدرتها في سبعينيات القرن الماضي ، منها "المرأة والجنس" و "الرجل والجنس" و "الأنثى هي الأصل" .تطرقت السعداوي بجرأة غير مسبوقة الى مواضيع كان الحديث فيها محظورا في المجتمع العربي، ناهيك عن طرحها من قبل امرأة ، كالعذرية وختان الإناث والمتعة الجنسية.وفي لبنان ارتفع صوت الشاعرة جمانة حداد منتقدا وضع المرأة في المجتمع العربي والنظرة النمطية لها في الغرب، وانتقدت ما ترى أنه " دور المؤسسات الأبوية والدينية في تكريس هذا الوضع" عبر الكثير من المقالات والكتب التي أصدرتها ومنها "قتلت شهرزاد" و "سوبر مان عربي".في أوروبا بدأت الثورة على الوضع السائد للمرأة تبني ثقافتها وفلسفتها في مرحلة تاريخية مبكرة، ولعل الروائية البريطانية جين أوستين كانت من أوائل النساء الأوروبيات اللواتي تطرقن إلى الموضع قبل أن تتبلور ملامحه بشكل واضح، ويعتبرها البعض "من أوائل المفكرات النسويات في أوروبا".وفي القرن العشرين كانت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار من أشهر من تطرقوا الى قضايا تحرر المرأة في العديد من مؤلفاتها ومنها "الجنس الآخر".
"مأزق" الأنوثة والجنسانيةاصطدمت منظرات وناشطات الحركات النسوية في كل مكان بمأزق العلاقة مع الرجل.من الملفت للانتباه أن هناك ميلا، حتى لدى مناصري المرأة، لعزلها الجنساني، وهو، وإن كان "تمييزا إيجابيا" في نظر البعض، إلا أنه تمييز على أي حال.كيف يمكن الحديث عن "كاتبات" مثلا وهل الكتابة مرتبطة بجنس الشخص ؟ ولماذا تخصص "كوتا" للمرأة في الانتخابات في بعض البلدان ؟ولعل أكثر الإشكاليات تعقيدا هي إمكانية توصل المرأة الساعية لنيل حقوقها إلى موقع متوازن في علاقتها بالرجل.الكثير من الناشطات النسويات ينظرن اليه على أنه "سادن النظام" ورمز التمييز ضدهن، مما يجعهل موقفهن منه عدائيا.هناك قلة تنظر اليه على أنه كالمرأة تماما، ضحية القوانين السائدة، وبالتالي يجب النظر اليه كشريك ورفيق، ولعل الروائية البريطانية دوريس ليسينغ في بعض أعمالها تسلط الضوء على هذه النقطة.الإشكالية الأخرى، والأكثر تعقيدا، هي حيرة النساء الثائرات على وضعهن بين الأنوثة كمظهر لثقافة استهلاكية ترسخ الوضع القائم، و "الأنوثة" كهوية متفردة يمكن الالتصاق بها والدفاع عنها.وتذهب بعض الناشطات الى حد الثورة على المظاهر الجمالية التي يعتبرنها رمزا للاستغلال الجنسي للمرأة.
ويبقي التحدي الأكبر هو كيفية الوصول إلى نقظة التوازن التي تحافظ للمرأة على إنسانيتها دون أن تجردها من هويتها الأنثوية المتفردة، ومدى امكانية تحرير علاقة الرجل بالمرأة بطرفيها من شوائب ثقافة التسلط دون الاضطرار الى الاستقطاب الجنسي الذي يشوه العلاقة ويقتلها.
أرسل تعليقك