القاهرة - مصر اليوم
برحيل الدكتور رفعت السعيد الذي قضى مساء أمس الأول "الخميس" عن عمر يناهز 84 عاما يكون اليسار الثقافي المصري والعربي قد فقد علما كبيرا وأحد أهم المؤرخين لحركات اليسار العربي بقدر ماكان وسيبقى أحد الفرسان الكبار للوطنية المصرية الجامعة بين كل المصريين.
والدكتور رفعت السعيد رئيس المجلس الاستشاري لحزب التجمع ورئيس الحزب السابق هو أحد أقطاب اليسار المصري وصاحب مواقف مبدئية في مناهضة الفكر الظلامي كما أنه صاحب كتب ومؤلفات عديدة من بينها :"ثلاثة لبنانيين في القاهرة" و"تاريخ الحركة الاشتراكية في مصر" و"الصحافة اليسارية في مصر" و"مجرد ذكريات" وهو كتاب يدخل في ادب السيرة الذاتية فضلا عن كتابه المهم :"عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية".
وللأدب أن يشعر أيضا بالحزن لرحيل هذا المثقف المصري الكبير الذي تشهد أعماله الروائية الأدبية:"السكن في الأدوار العليا" و"البصقة" و"رمال" على تمتعه بنفس روائي مميز وقدرة بارعة على الابتكار في الحكي غير أن عالم السياسة لم يمنحه متسعا من الوقت لمزيد من الابداعات الأدبية أو ماكان يسميها تواضعا "بالحكايات".
والدكتور رفعت السعيد الذي ووري أمس "الجمعة" ثرى مصر التي أحبها دوما حظت روايته "رمال" بترجمة لليونانية وامست ضمن المساقات الأكاديمية لطلاب قسم الدراسات الشرقية في جامعة اثينا باعتبارها عملا ادبيا يعبر عن التحولات الاجتماعية في مصر.
ويبدو أن النقاد عليهم الآن دراسة البعد الأدبي في هذا المثقف اليساري المصري الثري التكوين والذي انحاز دوما للعدالة الاجتماعية وكل مايعزز نسيج المجتمع المصري فيما تحمل رواياته صيغا شعرية لافتة رغم سردها الواقعي بصور متعددة لرجل الشارع أو المواطن في مصر.
وإذا كان الدكتور رفعت السعيد قد تناول في كتابه "تآملات في الناصرية" الذي صدر في مطلع الألفية الثانية طرفا من التجربة الناصرية وسنوات مابعد ثورة 23 يوليو 1952 ومرحلة الستينيات بالشرح والتحليل فإن تساؤلات وتآملات هذا المثقف اليساري والوطني المصري هي جزء من حركة فكرية عالمية تمتد في الواقع بمراجعاتها لتشمل زمن اليسار ككل في القرن العشرين ومسيرته ومستقبله في القرن الحالي.
واسهامات رفعت السعيد تشكل اضافة ثقافية مصرية مهمة وسط التساؤلات عن مآلات اليسار الثقافى وما إذا كانت المتغيرات العاصفة والممارسات الاستبدادية لأحزاب وفصائل انتمت لليسار أو كانت قريبة ستسدل الستار تماما على الثقافة والأفكار النظرية لهذه الأحزاب.
ولعل هذه الاسهامات الثقافية لفارس اليسار المصري رفعت السعيد تقدم اجابات حول التجربة الناصرية فى مصر ومدى الخسارة الفادحة التى لحقت بهذه التجربة فضلا عن منجزها الثقافى جراء غياب الحريات مع أن التجربة الناصرية الهمت بالفعل مثقفين ومناضلين حتى فى أمريكا اللاتينية ومازالت العلاقة بين تشى جيفارا وجمال عبد الناصر ماثلة فى الأذهان فيما كان الرئيس الفنزويلى الراحل هوجو تشافيز يصف نفسه بأنه "ناصرى".
وإذا كانت التجربة الناصرية قد جذبت مثقفين هنا وهناك بفضل تميزها على صعيد العدالة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار والتبعية فان لحزب البعث الذي يدخل ايضا ضمن تلاوين اليسار العربي سياساته التى انحازت للفلاحين وصغار المزارعين غير أن أية انجازات اجتماعية من هذا النوع تبددت اوشوهت جراء فيروس الاستبداد والعدوان على الحريات.
ومع سقوط الكثير من الأحلام القديمة فان الحاجة ماسة لمراجعة ثقافية عميقة وجديدة للمفاهيم الفكرية والسياسية لليسار فيما تستمر الأزمة العالمية لليسار حتى فى الديمقراطيات الغربية بينما تقدم رؤى واسهامات مثقف مصري مثل الراحل العظيم الدكتور رفعت السعيد اقتراحات مفيدة لمواجهة هذه الأزمة.
ويرحل رفعت السعيد بجسده فيما تبقى أفكاره واسهاماته الثقافية حاضرة في وقت يجتهد فيه مثقفون كبار في الغرب في محاولات للاجابة عنه بمناسبة حلول قرن كامل على الثورة الروسية وظهور ماعرف "بالاتحاد السوفييتي" حتى دخل ذمة التاريخ في مطلع تسعينيات القرن العشرين.
و مازالت سنوات ستينيات القرن العشرين التي كانت موضع اهتمام في كتابات ودراسات وتآملات الدكتور رفعت السعيد والتي توهج فيها اليسار تشكل بؤرة ثقافية لكتب جديدة مثل الكتاب الذي صدر بعنوان "اخي تشي" بقلم خوان مارتن جيفارا الشقيق الأصغر لأيقونة اليسار العالمي في القرن العشرين تشي جيفارا.
وفي سياق تعليقه على هذا الكتاب والرحلة الصعبة لمارتن جيفارا بحثا عن رفات شقيقه بعد نحو ثلث قرن على مقتل تشي جيفارا في احراش بوليفيا، قال الكاتب اللبناني الكبير سمير عطا الله :"تحولت الرحلة إلى مايشبه العمل الروائي المثير والمحزن".
ورأى عطا الله في زاويته بجريدة الشرق الأوسط التي تصدر بالعربية من لندن أن التساؤلات والشائعات المذهلة حول حقيقة مصرع هذا الثائر الأرجنتيني الأصل ومن بينها أن الاتحاد السوفييتي السابق تواطأ مع الأمريكيين ضده "تضع الكتاب في اطار الرواية لا البحث وكل الأقوال تزيد في أن جيفارا كان أسطورة بقدر ماكان حقيقة".
ولئن تساءل فارس من فرسان اليسار المصري مثل الدكتور رفعت السعيد ذات يوم بصورة لاتخلو من مرارة عن مآلات اليسار بعد التضحيات الكبيرة والجسيمة التي كابدها من انتموا لهذا التيار وهو احد من كابدوا هذه التضحيات فمن اهم المثقفين الذين يحاولون الآن الاجابة على هذا السؤال الكبير والمتعلق بأحداث خطيرة وأيام فاصلة في التاريخ الإنساني المثقف البريطاني الجنسية والباكستاني الأصل طارق علي فيما تتجلى جهوده الثقافية في هذا السياق سواء عبر كتاب جديد او طروحات ومقالات ذات صبغة ثقافية عميقة في صحف غربية كبرى.
وفي كتابه الجديد الصادر بالانجليزية بعنوان :"معضلات لينين :الارهاب, الحرب, الامبراطورية, الحب والتمرد " "القرن الأحمر" يثير طارق علي جدلا واسع النطاق في الصحافة الغربية والمنابر الثقافية عبر اوروبا والولايات المتحدة.
وكذلك يبرز اسم طارق علي في صحيفة نيويورك تايمز التي شرعت في نشر سلسلة طروحات بعنوان :"القرن الأحمر" حول تراث وتاريخ الشيوعية بمناسبة الذكرى المئوية الأولى للثورة الروسية التي ستحل في شهر اكتوبر المقبل.
وبين المذابح والحرب الأهلية التي اعقبت الثورة الروسية منذ نحو قرن كامل يحاول المفكر الباكستاني الأصل طارق علي استكشاف التاريخ من جديد أو القيام بزيارات جديدة لأحداث فاصلة في رحلة المسير والمصير للأمم والشعوب وهي قضية حاضرة بقوة في كتب المثقف اليساري المصري رفعت السعيد في سياق جهده المعرفي لاعادة بناء التاريخ وتفسيره.
وإذا كان اليسار أعطى في الحقيقة أسماء فكرية تألقت خلال القرن الماضي مثل المفكرين والكاتبين الفرنسيين جان بول سارتر وريجيس دوبريه والمؤرخ البريطاني اريك هوبسباوم والشاعر التركي الكبير ناظم حكمت فانه منح ايضا لمصر والعالم العربي مثقفا كبيرا ومتعدد الاهتمامات هو الدكتور رفعت السعيد..فتحية لروح مثقف مصري كبير كان يسعى دوما للتعرف على حكمة البسطاء في الشارع وعدم الارتكان لدموع الذكريات.
أرسل تعليقك