c من الخيال السياسي - مصر اليوم
توقيت القاهرة المحلي 00:24:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

من الخيال السياسي

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - من الخيال السياسي

ورقة وقلم
بقلم - أمل مسعود

بعض الكتب بها لعنة وطاقة خفية، والاقتراب منها قد يعصف ويغيّر حياتك بأكملها إما إيجابًا أوسلبًا. وهذه حقيقة. وربما هذا الشيء الوحيد الحقيقي في هذه القصة. كمثال على ذلك، المهندس المعماري الياباني العالمي تاداوأوندواشتغل في بداية حياته كسائق تاكسي وحمال وعامل بناء وملاكم أيضا. فهولم يتقدم يومًا إلى الجامعة لدراسة فن العمارة.

ولكن في أحد الأيام عثر في محل لبيع الكتب المستعملة على كتاب للمهندس المعماري الفرنسي المشهور "لوكوربوزييه"بعنوان "نحو معمار جديد"، فغيّر الكتاب مسار حياته. حيث اتجه إلى التعمق في فن المعمار وعلم نفسه بنفسه ليصبح أول مهندس معماري عالمي تخطى العالمية بدون أي تكوين أكاديمي، فقط صدفة العثور على كتاب في محل لبيع الكتب المستعملة أيقظ حواسه وألهب روحه وغيّر مصيره بالكامل.

قهوة آدم...

جلس آدم كعادته، كل مساء في مقهى محفوظ، يحتسي قهوته الرديئة المحروقة، فيمتزج طعمها المر في لسانه مع بعض حبات البن التي قاومت العصر، فينتابه شعور بالمرارة وصعوبة بلع القهوة، ومع ذلك يستمر في رشف قهوته ببطء. فينهي كأسه بعد مضي وقت ليس بالهين، في أحيان كثيرة يتعدى الساعتين.  أيكون هذا هوالشعور الذي ينتشي به  ويواسيه؟ ألهذا يرتاح لطعم القهوة الرديئة ويحب ارتياد المقاهي الشعبية ؟ أتذكره القهوة الرديئة بحياته المرة التي يبتلعها على مضض؟

حاول مرة أن يجرب ارتياد مقاهي مختلفة، فجلس في "فينيسيا أيس" وطلب كابوتشينو. فشعر بوحدة قاتمة. كابوتشينو بدا له لا يشبه قهوته في شيء فابتلعه في خمس دقائق. وخرج متيقنا أنه لن يعود أبدا. فهناك لا أحد يتحدث عن السياسة. ولا أحد يتحدث عن حكايات الناس. ولا أحد يتحدث بصخب. ولا شيء يثير الانتباه. فقط بضع مراهقين ومراهقات يتحسسون في أيدي بعضهم البعض، وبعض الرجال في مقتبلي العمر وبربطات العنق  يتحدثون عن المال ثم المال وأخيرا المال... هناك حتى النادل بربطة عنق ويقف مستقيما وأنيقا وهويسألك عن طلبك. ألهذا شعر بضيق شديد  وبغربة موحشة في ذاك المكان؟

أخذ يتحسس جسمه النحيل الهزيل، وشعره الخفيف، ويمرر لسانه على فراغات أسنانه التي تكسرت، ويعد أسنان فمه: ينقص ثلاث أسنان وخمس أضراس. فينتابه شعور بالهزيمة والانكسار  سرعان ما يتحول إلى غصة حبيسة في حلقه. لماذا لم يستطع أن يحافظ على ذاته من التدمير؟ أي خطإ ارتكبه؟

حاول أن يطرد أفكاره وهوغير مقتنع بأن هذا الجسم النحيل والوجه المليء بالبثور ما زال يخفي تحته جمجمة قادرة على التفكير وربط الأشياء. في جميع الأحوال، ما جدوى التفكير إذا كان يوجد دائما من سيفكر مكانك ويقرر من أجلك ويتحدث بلسانك ويستعر يدك ليصفق ويصفع ويوقع بها؟

أدار عينيه يتأمل مقهى محفوظ. بنيت في الثمانينات في وسط المدينة. مالكها كان متأثرا بأدب نجيب محفوظ، معجبا بأجواء المقاهي  الشعبية في رواياته، فقرر أن يسميها مقهى محفوظ لعل هذا الاسم يضفي عليها نكهة خاصة. مات المالك الأصلي، ولكن الورثة حافظوا عليها. فالقهوة الرديئة التي  تقدمها أصبح لها جمهور عريض. 

لم يتغير في المقهى شيء على الإطلاق. نفس الكراسي الخشبية المتداعية، نفس الطاولات المتدلي من تحتها غطاء من البلاستيك الرخيص. نفس الإضاءة الخافتة والهواء المختنق الملوث بفعل الدخان المتطاير في الأفواه، نفس الصخب ونفس النقاشات الحادة، نفس صوت وحركات النادل الخفيفة. فقط اختلط صوت مذيعي قناة الجزيرة مع صوت رواد المقهى. ولكن مع مرور الوقت، انطفأ سحر قناة الجزيرة. فعلا من جديد صوت النقاشات الحادة والقهقهات الممزوجة برمي قطع الدومينوعلى طاولة البارتشي، وعلا من جديد صوت كؤوس الشاي والقهوة التي تقرع فوق الطاولة بحدة،  وصوت أوراق الجرائد وهي تطوى بكثير من الهرج، وهي عادة أشباه المثقفين الذين يحجون إلى المقهى  لإثارة الانتباه إليهم..

وبفعل تقدم التكنولوجيا ، ظهرت عادات جديدة كمشاهدة مقاطع الفيديوهات المرسلة عبر الواتساب، والتي في الغالب عبارة عن زلات السياسيين المتداولة في السوق السياسي الأسبوعي، أوعن بعض الفضائح الجنسية فترى بؤبؤ العين يتوسع  ويجحظ من خلف شاشة الهاتف المحمول كما تصفر الوجوه ويتصبب منها القليل من العرق البارد. كما ظهر في المقهى نشاط جديد وهوتتبع التدوينات الفايسبوكية والصفحات الشخصية لبعض المناضلين السياسيين المحليين أوبعض الصحفيين أوبعض الشخصيات المحلية أوأبناء وبنات الأحياء المجاورة، فتأخذ هذه التدوينات والتعليق عليها ومناقشتها حيزا مهما من الوقت وفي بعض الأحيان يغطي على معظم أنشطة المقهى ويصبح الحدث الجلل فيها.

سرح آدم ببصره ،وهويرشف قهوته الرديئة الباردة، على طاولة  بها مجموعة من المناضلين الشباب، ظهروا مع موجة الربيع العربي، فانتشروا في  الاحزاب اليسارية والتقدمية والإسلامية، كما اختار بعضهم النضال في الأحزاب المحافظة. أثار انتباهه شاب بشعر كثيف وبنية قوية وعيون ثورية، كان يخطب ويناقش بحماسة، وينتقد بشدة الأوضاع السياسية بالبلد. وفي خضم هيجانه أرسل تدوينة جبارة ومخيفة عبر الفايسبوك، أوهكذا تهيأ له، كتب فيها " السلطة المطلقة لله وحده... لا للتحكم في رقاب العباد... لا للسلطوية... لا للدكتاتورية... لا لنظام حكم الحزب الواحد".

تذكر آدم، بأنه فيما مضى، كان الحزب الإسلامي يشتكي من التحكم والسلطوية، وكتائبه الفايسبوكية كثيرا ما كانت تطلق تدوينات مزلزلة لاعتماد ديمقراطية صناديق الاقتراع. ولكن عندما وصلوا إلى الحكم، أردوغان قتل وأعدم وسجن كل صوت معارض له. الله سبحانه لم يقتل الشيطان معارضه الوحيد بل تركه يؤسس حزبه: حزب الشيطان. أما الإنسان، ما إن يصل إلى السلطة حتى يبدأ في تصفية معارضيه. فالسلطة تدنس الإنسان. ومن يثق في المعارضة قبل وصولها إلى الحكم عليه أن يكون ساذجا.

احمرت وجنتا  الشاب من الغضب، وأخذ يصرخ  بانفعال وهستيرية  وسط جموع المقهى:

-          إننا نعيش الجهل المطبق يا سادة. لقد مات الإنسان. انظروا إلى تعليقات بعض المعتوهين على تدوينتي... أبوحفص كتب تعليقا يقول " الإنسان خليفة الله في أرضه... إذا كان الله سبحانه يتحكم في كل البشر فإن خليفته في الأرض عليه أن يتحكم في بعض البشر... ". أما أبا صخر فكتب تعليقا يقول: " الله نفخ في الإنسان من روحه، فالإنسان يملك جزءا من روح الله وبالتالي جزءا من صفاته. فإذا كانت السلطة المطلقة لله وحده فالسلطة المطلقة النسبية لخليفته".  أما أم مكرم فعلقت بآيتين " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء" و"إِنَّ الأْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"... لقد استأسدوا علينا يا رفاق وأصبحنا غرباء في أرضنا، يتحكمون في رقابنا كما يشاءون ويأكلون خيرات البلاد ويدعون أن هذا من فضل الله عليهم. لا بد من الثورة   فالثورة هي الحل...

شعر آدم بالضجر واللامبالاة، وهويتأمل الشاب وهويهتف بانفعال ويحرك يديه بعصبية ويضرب فوق الطاولة وهويدعوإلى الثورة. سئم أدم من الكلام ومن الأفكار وبدا له أن الإنسان يستهلك الكلام والأفكار أكثر من الخبز وقارورات الماء وبأن الكلام والأفكار تجارة رائجة على مر العصور. ألم يكن هوالأخر ضحية فكرة؟.

لم يستطع أن يحبس ذكرياته.

كان أدم يشبه كثيرا هذا الشاب الثوري. قويا ووسيما ومعتزا بنفسه لحد الغرور. كان يعتقد في فورة الشباب ويؤمن بالحرية لحد الهوس والجنون.

في أحد الأيام كان يتنزه في أحد الشوارع الهامشية بالمدينة مع عشيقته، والتي لم تكن سوى زميلته في الجامعة. في عهده الشاب الثوري المثقف كان يسحر الفتيات. هولم يكن مثقفا، ولكن كان ثوريا متمردا بالفطرة رافضا للقوانين والأعراف المجتمعية الموضوعة غير مكترث بما يقيمه البشر ويعتبر ان ذلك لا يعنيه في شيء.  كان يسمع عن جان بول سارتر من مثقفي الحرم الجامعي ولكن لم يفكر أن يقرأ له يوما فهويكره القراءة عموما، ولولم يكن سيمتحن في آخر السنة لتخلى عن المقرر الكئيب الثقيل أيضا.  ولكن عندما وقعت عيناه بالصدفة  على مسرحية الذباب لجان بول سارتر، مفروشة مع كتب كثيرة مستعملة، انقض عليها بحركة رشيقة ليبهر عشيقته، حمد الله في سره عندما أخبره البائع بأن ثمنها ثلاث دراهم فقط. في الواقع لوكان وحده ما كان سيشتريها أوربما كان سيساوم البائع ليحصل عليها بدرهمين ويبيعها ثانية لمثقفي الحرم الجامعي بمبلغ محترم ويشتري بفائض الصفقة علبة سجائر. ولكن لإغواء عشيقته، قدم المبلغ للبائع بدون مناقشة وأخذ يمسح على غلاف المسرحية باهتمام وحذر بالغين لإزالة الغبار عليه وكأنه عثر على كنز ثمين.

انطوت الحيلة على الفتاة، أوربما تظاهرت بذلك. فتعلقت بذراعه وهي تقفز بمرح طفولي وتطلب منه أن يخبرها بفحوى الكتاب الذي اشتراه وماذا يحكي؟ انتشى بردة فعلها الأبله وهويتساءل في أعماقه كيف تفكر الأنثى؟ وهل تفكر فعلا؟

سرعان ما طرد الفكرة من رأسه، فهولم يكن مهتما إن كانت تفكر عشيقته أوحتى كيف تفكر. فداعب مؤخرتها المدورة  بمسرحية الذباب ولطمها بضع ضربات خفيفة وهويعدها بأنه سيخبرها بالتفصيل المرة القادمة بفحوى المسرحية. وهكذا وضع نفسه في ورطة حقيقية لأنه كان عليه أن يقرأها وهوكاره لذلك.

لم يكن متحمسًا لقراءة المسرحية. ففور عودته إلى منزله في المساء، رمى بالمسرحية بدون اهتمام فوق مكتبه الغير المنظم. وذهب يبحث عن بقايا طعام يمكن أن يلتهمه.

قبل أن يخلد إلى النوم، أخذ المسرحية بلا مبالاة، وأخذ يقرأها. ولكن عند أول صفحة أخذته أجواء المسرحية، ولم يستطع أن يخلد إلى النوم قبل أن يكملها. فهي كانت توظف أسطورة إغريقية لتتحدث عن الحرية التي كان ينشدها آدم.

أحداث مسرحية  «الذباب» كانت تدور في اليونان القديمة، في مدينة آرغوس. حيث خانت كليتمنستر زوجها الملك أغاممنون أثناء قيادته لغزوة خارجية مع عشيقها ايجيست. وعندما يصل أغاممنون منتصراً يتآمر ايجست مع كليتمنستر فيقتله ويستولي أيجست على العرش ويتزوج كليتمنستر. كما سيأمر أيجيست بقتل أورست الصغير ابن أغاممنون وكليتمنستر. ولكن المكلفين بقتل أورست ستأخذهم الشفقة به فيتركونه حيا فى الغابة، وينجوأورست ويشب فى أثينا فى منزل أحد الأغنياء الذى يكلف المربى بتعليمه وملازمته.

أقام أيجيست  نظام قمع وعنف في المدينة، وفرض على أهلها التكفير على جريمة قتل أغاممنون، جريمته.  تلك الجريمة التى يحتلفون بذكراها يوما كل عام وهواليوم الذى يعبرون فيه على ندمهم على الجريمة وعلى حياتهمم ذاتها بينما أيجيست نفسه لا يبدوعليه أي شعور بالندم.

بعد خمسة عشر عاما، سيعود اورست  ومعه المربي إلى مدينته أرغوس، ليجد أهل المدينة وقد تكاثر عليهم الذباب واستولى عليهم طنينه، وهو يرمز إلى الشعور بالندم والذنب. وهذا ما سيجعل جان بول سارتر يكتب جملته الشهيرة على لسان أورست " إن أجبن القاتلين هوالذي يعاني الندم".

سيقرر أورست الانتقام لأخته ألكترا التي لم تكن تعرفه ولكنها استشعرت بوجوده. ولكن جوبيتر، ملك الآلهة الإغريقية  الذي كان يعلم بحقيقة أورست، كان يراقبه عن كثب ويتتبع كل خطواته. وسيحذره من التدخل في الأحداث وسيأمره بأن يترك أرغوس كما هي، مدينة غارقة في الذنب والندم وطنين الذباب.

سيصر أورست  على الانتقام، وستتعرف الكترا على أخيها وستطلب منه أن يقتل أيجيست ووالدتها كليتمنستر. فقلبها منذ خمسة عشر عاما وهويتغذى بالانتقام. يقتل أورست الملك ايجست والملكة كلتيمنسترا أمه.  سيهاجم جوبيتر الكترا وأورست ليجعلهما يشعران بالندم جراء جريمة القتل المقترفة. ستضعف  الكترا وتنهزم وتستسلم للندم، أما أورست فسيخوض حوارا شرسا مع جوبيتر.

سيعيد أدم قراءة الحوارين الأخيرين بين أورست وجوبيتر عدة مرات وسيعتقد أنه الجواب على الكثير من القضايا التي كانت تزعجه منذ البارحة.

أعجب أدم  بهذا المقطع. وبدا له أن أورست أعطي تعريفا جيدا عن الذات البشرية كما يريدها أن تكون.

-          أورست: إن عالمك كله لن يكفي لتخطئتي. أنت ملك الآلهة يا جوبيتر، ملك الصخور والنجوم، ملك أمواج البحر. ولكنك لست ملك البشر.

-          جوبيتر: لست ملكك، أيها الشبح الوقح. فمن خلقك إذن؟

-          أورست: أنت. ولكن ما كان ينبغي لك أن تخلقني حرا.

-          جوبيتر: لقد أعطيتك الحرية لتخدمني.

-          أورست: هذا ممكن، ولكنها ارتدت عليك، ولا حيلة لنا بها، لا أنا ولا أنت.

-          جوبيتر: أخيرا، ها هوالاعتذار

-          أورست: أنني لا أعتذر

-          جوبيتر: حقا؟ أتعرف أنها تشبه كثيرا الاعتذار، تلك الحرية التي تقول أنك عبد لها؟

-          أورست: أنا لست السيد، ولا العبد، يا جوبيتر. إنني حريتي. فما كدت تخلقني حتى كففت أن أخصك.

كان أدم يقرأ ويتخيل نفسه أورست. ويتساءل هل يمكنه أن يخوض معركته في الحياة  ويقاوم إغراء جوبيتر. جوبيتره. فجوبيتر أدم لم يكن أكثر من الرجل المخيف، أوالرجل ذوالبذلة السوداء كما يلقبونه في الحرم الجامعي.

أعاد أدم قراءة الحوار الأخير الذي يغري فيه جوبيتر أورست للرجوع إلى كنفه والاعتذار عن خطاياه.

-          جوبيتر: ليس الشر شديد العمق، فقد بدأ بالأمس فحسب. عد إلينا. عد وانظر كم أنت وحيد، فحتى أختك تتركك. إنك ممتقع اللون، والقلق يوسع عينيك. أتؤمن أن تعيش؟ أيها الغريب على طبيعتي والغريب على نفسك ذاتها. عد: فأنا النسيان، أنا الراحة.

-          أورست:غريب على نفسي، أعرف هذا. خارج الطبيعة، ضد الطبيعة، بلا عذر ولا ملجأ إلا في. ولكنني لن أعود تحت شريعتك: فأنا محكوم علي بألا تكون لي شريعة أخرى غير شريعتي. إنني لن أعود إلى طبيعتك: إن هناك ألف درب مرسومة فيها تؤدي إليك، ولكني لا أستطيع أن أتبع إلا دربي. ذلك أني إنسان يا جوبيتر، وعلى كل إنسان أن يخترع دربه. إن الطبيعة تشمئز من الإنسان، وأنت، أنت، رب الأرباب، أنت أيضا تشمئز من البشر.

-          جوبيتر: إنك لا تكذب، فحين يشبهونك، أكرههم.

-          أورست: حذار، لقد اعترفت بضعفك. أما أنا، فلا أكرهك. ما شأني بك؟ إننا ننساب أحدنا بموازاة الأخر، من غير أن نتماس، كسفينتين. إنك رب، وأنا حر: فنحن متشابهان في الوحدة.

-          جوبيتر: ماذا تنوي أن تفعل؟

-          أورست: إن سكان أرغوس هم ناسي. ويجب أن افتح عيونهم.

-          جوبيتر: يا للناس المساكين. إنك ستهدي إليهم الوحدة والعار، إنك ستنتزع الأقمشة التي غطيتهم بها، وستريهم فجأة حياتهم القذرة الباهتة التي أعطوها من أجل لا شيء.

-          أورست: لماذا تراني أرفض أن أقدم لهم اليأس الذي أعانيه، ما دام نصيبهم؟

-          جوبيتر: وما عساهم يصنعون؟

-          أورست: ما يشاؤون، إنهم أحرار، والحياة الإنسانية تبدأ في الجانب الأخر من اليأس.

بعد قراءته للمسرحية، اعتقد أدم بأنه عرف بالضبط ما عليه عمله غدا صباحا. فبدا له أن الرجل المخيف أوالرجل ذوالبذلة السوداء في الحرم الجامعي يشبه جوبيتر. وعليه أن يكون أورست ليتغلب عليه.

الرجل المخيف كان يراقب عن كثب كل طلبة الحرم الجامعي، ويسجل زلاتهم وخطاياهم. وما إن يرتكب طالب خطيئة ما تستوجب العقاب القانوني حتى يستحوذ عليه ويضغط عليه ليصبح تابعا له. كان يستغل لحظة سقوطهم ليجعلهم يلتفون حوله فيصبحون كالعجين اللين المطيع. يعتقدون أنهم بالتفافه حوله سيتحررون من خطيئتهم فيقعون في خطايا أكبر، كالوشاية بالزملاء والكذب ونشر الإشاعات. يعتقدون أنهم بمصافحة الرجل المخيف سيتغلبون على ضعفهم ويتقوون في الحرم الجامعي، ولكن يزدادون ضعفا وعجزا فيصبحون مسلوبي الإرادة بالكامل، عاجزين عن اتخاذ أي قرار يخصهم بدون الرجوع إليه وطلب الإذن منه.

الرجل المخيف لا يستسلم ولا يهدأ له بال. كان يعلن أن سر وجوده وقوته  هوأن يجعل الجميع يلتف حوله، مرتعب في حضرته يسعى إلى نيل حظوته. 

أدم لم يكن يهتم بالرجل المخيف في الحرم الجامعي. في الحقيقة لم يكن يهتم بأي شيئ في الجامعة باستثناء مصاحبة الفتيات الجميلات. فهولم يكن يهتم بالرجل المخيف، ولا بالملتفين حوله ولا بمعارضيه وسلسلة الحلقيات في بهوالجامعة وهي تحذر من خطر الرجل المخيف.

بيد أن الرجل المخيف كان يرقب أدم، ولم يستسغ عدم اهتمامه به. فناداه وطلب منه بابتسامة لطيفة  أن يحضر إلى مكتبه نهاية الأسبوع فهويريد أن يتحدث معه قليلا.

نهاية الأسبوع، يوم غد. كان أدم قلقا، لا يعرف ما عليه عمله. ولكن بعد قراءته للمسرحية، بدا له الطريق واضحا. سيتقمس شخصية  أورست. وسيقول له أنا لست معك ولست ضدك، فأنا حريتي.

استقبله الرجل المخيف في مكتبه بترحاب كبير. ومنحه قارورة ماء معدني وفنجان قهوة من النوع الجيد. مذاقها ما زال في لسانه.

-          الرجل المخيف: إني معجب بك يا أدم. فأنت لا تشبه كثيرا زملائك. تبدوغير مهتم بما يقع في الحرم الجامعي وفي الآن ذاته تعرف كل شيء.

-          أدم بارتباك: لي زملاء كثر في الجامعة وأحاول أن أبقى مهذبا مع الجميع

-          الرجل المخيف: عليك أن تختار يا أدم. لا يمكنك أن تبقى مهذبا مع الجميع. كن معي... أوكن ضدي وشارك في الحلقيات. فالمعارضة لا تخيفني، ففي النهاية أنا من يحتويها، وهي تساهم في التعريف بي والحديث عني. الحلقيات هم سبب شهرتي في الجامعة. فمعارضي لهم الفضل علي أكثر من حلفائي. ولكن عليك أن تختار يا أدم.

-          أدم ( مقتبسا كلام أورست): أنا لست معك ولست ضدك. أنا حريتي.

-          الرجل المخيف ( بغضب): من أين أتيت بهذا الكلام يا ولد؟ أنت لست حريتك يا أدم. أنت  خوفك، ضعفك، هواجسك، قلقك، جشعك، نزواتك، غرورك. كبرياؤك وعجرفتك.

أتعرف يا أدم لماذا السلطة دائما  ملوثة؟ لأن ما يحرك الجموع للالتفاف حولها هي أردأ ما فيهم كالخوف والضعف والعجز والجشع والشهوة. وأنا لا أكترث إن  كنت فاسدا أونظيفا يا أدم. لا أكترث بما يحرك الجموع لأنني أتغذى وأتقوى بالتفاف الجموع الغفيرة حولي، لا يهمني إن كانوا يلتفون خوفا أوطمعا أوغباء أوطلبا للحماية. المهم أن يلتفوا حولي.

اعتقد آدم، كما في المسرحية بأنه بحوار حضاري بين أورست وجوبيتر يمكن  تذويب الخلافات وتحديد الخيارات. وبأن الرجل المخيف سيتركه وشأنه كما ترك جوبيتر أورست يشق طريقه بعيدا عنه.

فأصر آدم على موقفه وتشبث برأيه. فهاج الرجل المخيف وهدده بسخرية قائلا: " حسن يا آدم. سنرى إن كنت فعلا حريتك؟"

خطف الرجل المخيف آدم من وسط الحرم الجامعي. ووضعه في غرفة مغلقة ومظلمة. دخل عليه رجلين ضخمي الجثة وأشبعاه ضربا وفي كل آهة ألم، كان يأتيه صوت الرجل المخيف من خارج الغرفة مجلجلا بسخرية: " قل لي يا أدم، هل أنت حريتك أم ضعفك؟"

يتركونه يتضور بالجوع، ثم يحضرون أشهى الأطباق ويجعلونه ينظر إليها بشهوة رهيبة. ويسمع صوت الرجل المخيف من خارج الغرفة يقول بسخرية: " قل لي يا أدم، هل أنت حريتك أم شهوتك؟"

في تلفاز حائطي ضخم. أنتجوا فيلما كان البطل يشبهه تماما. بل هوذاته، الفيلم ابتدأ بلقائه مع الرجل المخيف في مكتبه  بالجامعة. نفس اللقاء ونفس الديكور، ولكن البطل أذعن ورحب بعرض الرجل المخيف. فجعلوه يتحسر على آدم الذي كان من الممكن أن يكون. أدم الوسيم المرح الذي ينتظره مستقبل زاهر ويقود سيارة الفيراري ويعانق الفتيات الجميلات. ويظهر مرة أخرى صوت الرجل المخيف من خارج الغرفة مزلزلا: " قل لي يا أدم، هل أنت حريتك أم طموحك وجشعك؟"

ثم تركوه بعدها وحيدا في غرفته المظلمة يئن ويتوجع. أسنانه مهشمة وعظامه محطمة. محاط برائحة بوله وغائطه. 

لا يعرف كم ظل من السنين. ولكن أدم كان يردد في أعماقه " أنا حريتي... أنا حريتي.."

وفي أحد الأيام، أضاءوا له الغرفة، وكانت بها مرآة طويلة. فأصابه الهلع من شعره المشعث المتسخ وأسنانه المحطمة وجسمه الهزيل. فأخذ يبكي كالأطفال ويصرخ: "  أنا ما يريده لي الرجل المخيف أن أكون... أنا ما يريده لي الرجل المخيف أن أكون"

فظهر الرجل المخيف، وربت على ظهر آدم بحنان ومودة وتسامح، وقال له بصوت كالفحيح: " نحن لسنا قتلة ولا ساديين. فنحن لا نعذب من أجل التعذيب. بل نريد فقط الحفاظ على النظام والتوازن الكوني. في بعض الأحيان العقاب الشديد يصبح ضروريا. والآن وبعد أن أصبحت منضبطا، سأجازيك. ولا تنس أننا في النهاية أصدقاء."

أومأ أدم برأسه موافقا: " لستم مجرمون ولا قتلة. أنتم فقط بشر"        

انسلت دمعة من عيني أدم وسقطت ككل يوم وسط كوب قهوته.

الشاب الثوري كان ما زال يصرخ ويحدث جلبة وضوضاء وسط المقهى. فكثر الهرج والمرج.

فجأة ، أدار الرجل المخيف، الذي كان يجلس في المقهى وحيدًا يقرأ جريدته بصمت ويشرب قهوته، رأسه ناحية الضجيج، ورمق الحاضرين بنظرة ثاقبة نابية صارمة، فالتزم الجميع الصمت وعم الهدوء من جديد في مقهى محفوظ.

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من الخيال السياسي من الخيال السياسي



GMT 08:47 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

لماذا أكتب لك؟؟ وأنت بعيد!!

GMT 08:41 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

أنا النزيل الأعمى على حروف الهجاء ( في رثاء أمي الراحلة)

GMT 13:34 2023 الخميس ,07 أيلول / سبتمبر

السقيفة الملعونة

GMT 12:21 2023 السبت ,26 آب / أغسطس

أنت الوحيد

GMT 12:26 2023 الإثنين ,10 تموز / يوليو

لن أرحلَ

GMT 14:14 2023 الأربعاء ,07 حزيران / يونيو

في الدّقيقة الأخيرة ماقبل الغروب

GMT 12:57 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 22:00 2022 الثلاثاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مسرح "الراويات" المنسي والمغيب

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:14 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل
  مصر اليوم - جعجع يُطالب حزب الله إلقاء سلاحه لإنهاء الحرب مع إسرائيل

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك
  مصر اليوم - الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 00:04 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية
  مصر اليوم - حسين فهمي يعرب عن دعمه للأفلام الفلسطينية واللبنانية

GMT 14:07 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

"يوتيوب" يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي
  مصر اليوم - يوتيوب يختبر خاصية جديدة تعمل بالذكاء الاصطناعي

GMT 08:11 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

GMT 15:47 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 15:45 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2018 الإثنين ,16 إبريل / نيسان

المدرب الإسباني أوناي إيمري يغازل بيته القديم

GMT 01:04 2021 السبت ,25 كانون الأول / ديسمبر

جالاتا سراي التركي يفعل عقد مصطفى محمد من الزمالك

GMT 05:34 2021 السبت ,13 شباط / فبراير

تعرف على السيرة الذاتية للمصرية دينا داش

GMT 20:42 2021 الخميس ,21 كانون الثاني / يناير

طريقة عمل جاتوه خطوة بخطوة

GMT 23:05 2020 الخميس ,24 كانون الأول / ديسمبر

يونيون برلين الألماني يسجل خسائر بأكثر من 10 ملايين يورو

GMT 02:11 2020 الخميس ,17 كانون الأول / ديسمبر

طبيب روسي يكشف أخطر عواقب الإصابة بكورونا

GMT 09:43 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كباب بالزعفران
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon