منذ أن أُطلق سراحه ورائحة اللحم المحروق عالقة في انف عمر شغري. تلك الرائحة التي عايشها طوال فترة الاعتقال وعلى مدى تلك السنوات التي قضاها منذ إطلاق سراحه من سجن صيدنايا السوري الأكثر شهرة. ويشير الشاب البالغ من العمر 21 عاما إلى أمسية خاصة في أواخر كانون الأول/ديسمبر أو أوائل كانون الثاني/يناير عام 2014، انه لم يكن يستطيع التأكد من تتبع الوقت في زنزانته البغيضة المظلمة.
وقال شغري: "كان هناك حريق كبير في ذلك اليوم، لكنه لم يشم رائحة عادية من تلك النيران". واضاف "لقد ابلغنا حراس السجن ان هناك عطلا كهربائيا، لكن لم تكن هناك كهرباء في معظم اجزاء السجن مما جعلنا نشك في ذلك". كانت الرائحة لاذعة، مثل اللحم البشري أو الشعر، قال ذلك لجريدة "التلغراف" من السويد، حيث يسعى الآن الى اللجوء. وقال "كان هناك الكثير من الجثث المحروقة كل اسبوع، واضاف "لهذا السبب اعتقد انهم كانوا يرسلون المعتقلين الى محرقة".
وقد ساورت شغري تلك الشكوك لسنوات عديدة، ولكنه لم يكن أمرًا مؤكدًا حتى الشهر الماضي، حين أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن السلطات السورية تحرق جثث الآلاف من السجناء القتلى في صيدنايا، وهو سجن خارج دمشق، يقوم السجان السوري بذلك في محاولة للتغطية على حجم عمليات القتل والتخلص من الأدلة التي يمكن استخدامها لمقاضاة مرتكبي جرائم الحرب. واشار بعض المسؤولين أن تلك المحرقة موازية لمحرقة اليهود في ألمانيا النازية. وقال نيكي هالي، السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة، إن "محاولة تغطية عمليات القتل الجماعي في محرقة الأسد تذكرنا بأسوأ الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في القرن العشرين".
وتعتقد ادارة الدولة ان المحرقة بنيت داخل مجمع السجن فى اوائل عام 2013. كما انهم نشروا صور التقطت بواسطة الأقمار الصناعية أظهرت المباني التي تغطيها الثلوج - باستثناء واحد، مما يشير إلى أنه يوجد به مصدر حرارة داخلي كبير. وقال ستيوارت جونز مساعد وزير الخارجية بالانابة "ان ذلك سيكون تفسيرا متسقا مع رواية حرق الجثث". وأضاف المسؤولون أن المدخنة، التي تظهر في المكان والدخان المتصاعد منها كلها أمور تشير إلى أن السجن مكان لحرق الجثث.
وقد دحضت الحكومة السورية هذه الادعاءات، مشيرة إلى أن تلك العملية للتخلص من الجثث "غير إسلامي". وانها لا تقوم بذلك. ويعتبر الحرق "حرام"، وهو أمر محظور في الإسلام. كما ان التعاليم الإسلامية بشأن الموتى تتطلب أن يتم تنظيف المتوفى، ويتم الصلاة عليه ويدفن في الأرض. وأي امور اخري، بما في ذلك حرق الجثث، يعتبر عملا من الاحتقار للموت وخطيئة كبري.
وقد سمي صيدنايا ب "مجزرة بشرية" حيث ان التعذيب والحرمان والازدحام الشديد لدرجة ان الامم المتحدة قالت انها تعد "ابادة". وقد اختفى الآلاف داخل جدران السجن منذ اندلاع الانتفاضة ضد الرئيس بشار الأسد في عام 2011. كما توفي أكثر من 17000 شخص في الحجز في جميع أنحاء البلاد بين مارس/آذار 2011 وديسمبر/كانون الأول 2015، وفقا لمنظمة العفو الدولية. ولكن العدد الكبير من المفقودين يعني أن الرقم الحقيقي من المرجح أن يكون أعلى بكثير.
وكان شغري يبلغ من العمر 17 عاما عندما ألقي القبض عليه في منزله في محافظة طرطوس الساحلية السورية في تشرين الثاني/نوفمبر 2012. وكان قد شارك في احتجاجات مناهضة للحكومة ولكنه اعتبر أن الأجهزة الأمنية استثنته بشكل خاص لاسمه السني. قضى ثلاث سنوات في 10 سجون مختلفة، 10 أشهر منها في صيدنايا في زنزانة لا تزيد مساحتها عن 7 اقدام بطول 7 اقدام مع ما يصل إلى 11 آخرين من السجناء.
لم يكن هناك نوافذ مع عدد قليل من الشموع لإضاءة الممرات، وشهد السيد شوغري قليلا من محيطه. ولم يسمح لهم أبدا بمعالجة الحراس مباشرة أو النظر إليهم في العين. تعرض للضرب مرات لا حصر لها، ولكن الآخرين راوا تعذيبا أسوأ بكثير. وقال إن السجناء يُأمرون أحيانا بقتل بعضهم البعض، وإذا رفضوا هُددوا بقتل أفراد أسرهم المحتجزين في السجن.اشار الي انه قضي مرة 10 أيام دون طعام أو ماء وقال البعض الآخر أصبحوا يائسون جدا وبدأوا شرب البول الخاصة بهم.
وعندما أطلق سراحه في يونيو/حزيران 2015، كان وزنه ضعيف جدا وفقد كل شعره. وتحدث شوغري، وعدد من السجناء السابقين الآخرين الذين تحدث معهم الي صحيفة التلغراف، عن رؤيتهم لعشرات الجثث أثناء احتجازهم. وقد مات بعضهم بسبب المجاعة، والبعض الآخر من آثار التعذيب الشديد أو المرض. استخدم شوغري اسم أبو خالد لحماية هويته، وقال انه يتذكر في ربيع عام 2013 طلب منه المساعدة التخلص من 15 جثة.
وقال أبو خالد، 43 عاما، من حماة، الذي اعتقل في عام 2012: "قبل أن يأخذني مع المحتجزين الآخرين إلى صيدنايا، طلب ضابط شرطة مساعدتنا في ترتيب الجثث في أكياس بلاستيكية". وصلنا إلى تشرين (المستشفى العسكري بالقرب من دمشق) حيث بلغ مجموعهم 17 شخصا، خرج اثنان فقط على قيد الحياة. لقد حصلنا جميعا على عدوى في المعدة، ولكن لأن معظم الآخرين أصيبوا بجروح بسبب التعذيب لم ينجوا". ويعتقد أنه تم نقل الجثث بعد ذلك إلى المحرقة.
وقال إن عدد الوفيات داخل السجون بدأ في الارتفاع في عام 2013، عندما بدأت القوات الحكومية في تنفيذ عمليات اعتقال واسعة النطاق ضد نشطاء المعارضة وأي شخص ينظر إليه على أنه متعاطف مع التمرد. ونقل تقرير صادر عن لجنة التحقيق التابعة للامم المتحدة فى العام الماضى عن احد المنشقين من وكالة المخابرات قوله ان الضباط امروا باعتقال المتظاهرين الذكور الذين تتراوح اعمارهم بين 16 و 40 عاما. وقال العديد من المعتقلين السابقين إن عددا قليلا منهم قد جعلهم من صيدنايا على قيد الحياة للإدلاء بشهادتهم منذ عام 2013.
وقال أحمد الأحمد، الطيار السابق للقوات الجوية من حلب الذي انشق وأمضى 13 عاما في السجن قبل إطلاق سراحه في عام 2011: "إن العدد الذي تم إطلاق سراحه حيا منذ ذلك الحين يمكن عدهم على الأصابع". "معظم هؤلاء الذين يشمون أو يشهدون أي علامة على المحرقة ومن المحتمل أن يكونوا في الحبس الانفرادي بانتظار إعدامهم. ومن المحتمل ان يكونوا قد لقوا حتفهم منذ فترة طويلة، وان الحقيقة قد توفيت معهم ". قد يكون عدد الوثائق المتعلقة بجرائم نظام الأسد خلال حرب الست سنوات أكبر مما كان عليه في أي صراع قبله.
بيد أن الجناة ما زالوا طليقين ولا يوجد طريق واضح لتقديم الأدلة أمام المحكمة. يحاول السيد أحمد تشكيل نقابة من سجناء صيدنايا السابقين حتى يتمكنوا من تبادل أي معلومات لديهم حول الجرائم المحتملة ضد الإنسانية التي شهدوها. وقال "آمل ان يؤدي ذلك الى شكل من أشكال العقاب"، لكنه لا يعتقد.
أرسل تعليقك