يُقارَن غالبا الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بشخصيات سياسية داخل الولايات المتحدة، بما في ذلك الرؤساء ريتشارد نيكسون، ووارن هاردينغ، لكن مِن غير المألوف مقارنته بشخصية سياسية أجنبية، حيث الرئيس الروسي الأسبق، بوريس يلتسين، أوّل رئيس لروسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
تشابه ترامب وبوريس يلتسين
وهناك عدة عوامل مشتركة بين ترامب ويلتسين، إذ اعتاد الأخير إشراك ابنته في السياسة وجعلها مستشارة له، وأقال سلسلة كبيرة من أعضاء الحكومة، واعتمد على رجال القطاع الأمني وحلفائه الأثرياء، كما أن عمله في القوة النووية أثار انزعاج المراقبين الدوليين والمحليين.
واعتاد مشاركة بلاده في الأعمال العسكرية ليواجه موجة الفضيحة المتصعدة في بلاده، إذ رآها البعض محاولة لإبعاد منتقديه عن مشاكله، كما أن الفضل لفوزه في الانتخابات يعود إلى نفوذه خلف الكواليس، حيث دولة قوية تحاول استدام رئيسها كدمية لتقدم مصالحها الخاصة.
واحتل يلتسين الكرملين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وتركه عام 1999، إذ تنحى لصالح الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، ومثله مثل ترامب، كان يلتسين شخصة مثيرة للانقسام، وهو مقاتل سياسي في الشارع نجا من خلال اللعب ضد الأفراد والفصائل ضد بعضهم البعض، وكذلك من خلال علاقته المعقدة مع شخصيات داخل وخارج الحكومة.
تجمعهما الخطابات الحماسية ومزاعم الإصلاح
كان يلتسين السياسي صاحب الكارزمة وغير التقليدي الذي بدا كأنه يستمتع بالدراما السياسية والمظاهر العامة المسرحية مثل خطابته، والتي كان أشهرها حين وقف على قمة الدبابة بعدد الانقلاب الفاشل من قبل المتشددين السوفيت في أغسطس/ آب 1991.
وبدأ يلتسين بالظهور إلى معجبيه بالتزامن مع الإصلاحات الجذرية للنظام السياسي والاقتصادي الفاسد وغير الكفء، وبدلا من ذلك، انتُقدت سياسات حكومته بسبب استفادة الأغنياء منها على حساب الناس العاديين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى تقويض العملية الديمقراطية لجمهوره المحلي وتقليص وضع روسيا ورعايها في الخارج، وهو ما يحدث الآن مع ترامب، وسط توقع مماثل لمستقبل أميركا السياسي.
اختلافات بسيطة بينهما
ويجب التعامل مع المقارنات التاريخية بحذر، فبالتأكيد هناك حدود واضحة على أوجه التشابه بين يلتسين وترامب، ويبدو أن سلوك ترامب الفضفاض والانتباه المتقلب للعمل الجاد المتمثل في كونه رئيسا قد تأصل في ماضيه كرجل أعمال مشهور، وكذلك في افتقاره التام للتجربة السابقة للحكومة، وفي المقابل، كان يلتسين سياسيا يتمتع بمهارات عالية، ولديه أعوام من الخبرة في التفاوض على تعقيدات السياسة السوفييتية، لكن قدرته على الحكم دُمرت بسبب آثار إدمانه على الكحول، وبالتالي الكحول ليست من بين أوجه التشابه بين الرئيسين، ولكن يُقال إن ترامب يطلب البيتزا في وقت متأخر من الليل، كما ورد أنه فعل ذلك أيضا حين زار يلتسين واشنطن في عام 1994.
والأهم من ذلك أن الهياكل السياسية الأميركية ليست مثل تلك التي في تسعينات القرن الماضي، حيث كان إطار العمل الدستوري والنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، في فوضى حين وصل يلتسين إلى الحكم، بجانب الفساد وعدم الكفاءة، والاستبداد، والذي كانت رئاسة فلاديمير بوتين بمثابة مخرجا منها ليلتسين.
وعلى الرغم من المخاوف من الضرر الذي لحق بالدستور الأميركي والحياة السياسية بفعل ترامب فإن الأنظمة السياسية القانونية الأميركية لا تزال قوية، ويبقى المجتمع المدني والحريات الإعلامية قوية بشكل استثنائي.
التشابهات أقوى من الاختلافات
في حين أنه من السهل تحديد الاختلافات بين وواشنطن وموسكو قبل عشرين عاما، إلا أن أوجه الشبه لا ينبغي تجاهلها، وهذا يتعلق بشكل خاص بالتأثير الدولي على الرئيسين، ويتمثل ذلك في قرار ترامب بشن ضربات جوية على سورية وكذلك الانسحاب من الصفقة النووية الإيرانية، حيث حينها رغب في تشتيت الانتباه عن مداهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي لمكتب محاميه مايكل كوهين، وكان نفس قرار يلتسين حيث أمر بشن حرب صغيرة على دولة الشيشان المجورة، لمواجهة الأزمة السياسية الداخلية، ولكن الحقيقة أن الحرب لم تكن صغيرة ولم ينتصر فيها.
ويبدو أن يلتسين لجأ إلى الولايات المتحدة في عام 1996 أثناء حملته الانتخابية، وحينها قدم الرئيس الأميركي بيل كلينتون، نوعا آخر من الدعم، حيث التأخير في الإعلان عن توسيع حلف الناتو، والذي لا يحظى بشعبية كبيرة في روسيا، والضغط من خلال المساعدات الدولية واسعة النطاق، ومهما كانت حقيقة هذه الادعاءات فإن شيئا مماثلا حدث في الولايات المتحدة، حيث التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، والتي فاز بها ترامب، وكان فوزا كارثيا لأميركا والعالم، وهو ما ضر بسمعة واشنطن، كما ضر بسمعة موسكو آنذاك.
وتعززت هذه الشكوك بسبب تصريحات ترامب المثيرة، والتي أبدى فيها إعجابه ببوتين، ورغبته الواضحة في تحسين العلاقات، على الرغم من تصرفات روسيا في أوكرانيا وسورية، ومن بين أحدث الأمثلة، قرار ترامب بالتراجع عن فرض مزيد من العقوبات على روسيا، والذي أعلنته سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، نيكي هالي، ولم ينفذه ترامب، وكذلك رغبته الظاهرة فقط بمعقابة موسكو على ما فعلته في تسمم عميل الأعصاب الروسي، في بريطانيا، حيث طرد دبلوماسيين روس من واشطن.
والأخطر من ذلك كله هو موقفه تجاه حلف شمال الأطلسي، الذي ربما يكون الهدف الرئيسي لغضب الحكومة الروسية وشكوكها، وخلال حملته الانتخابية، قال ترامب إن الناتو "عفا عليه الزمن"، وأشار إلى أنه إذا تعرضت إحدى الدول الأعضاء لهجوم روسي، لن يتبع مبدأ الدفاع الجماعي القائم عليه الحلف، إلا إذا أوفى الأعضاء الآخرون بألتزامهم للولايات المتحد، عن طرق سداد المدفوعات.
وعلى الرغم من عدم تراجع الولايات المتحدة عن دعمها للتحالف في الوقت الحالي، لا يزال هناك شك بشأن التزام ترامب تجاه الناتو، وبعبارة أخرى، حتى الآن يمكن لأعضاء الناتو الوثوق بأن الولايات المتحدة ستقف بجانبهم، إذا تعرضوا لهجوم، ولكن عدم اليقين وفقدان الثقة بين الحلفاء أمر يثير القلق، وبخاصة خلال فترات التهديد العالمي المتزايد، وبالتالي يظهر سوء الفهم وخطأ التقدير، ويثير احتمال البحث عن طرق بديلة للدفاع عن النفس، خارج هيكل التحالف الرسمي، مما يخلق المزيد من المخاطر، وهي نفس الظروف التي اندلعت فيها الحروب الكبرى في الماضي.
دستور أميركي قوي
ونظرا لقوة الدستور الأميركي، يفتقر ترامب للسيطرة الكاملة على إدارته وكذلك على نفسه، عكس الوضع في عهد يلسين، ويرجع ذلك إلى الدور الفريد الذي تلعبه الولايات المتحدة على الساحة السياسية الدولية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فهي الدولة الديمقراطية الرائدة، ومهندس النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي، وضامنة أمن الحلفاء، ومنذ نهاية الحرب الباردة كانت الدولة الأقوى سياسيا واقتصاديا وعسكريا في العالم، وعلى الرغم من الأضرار التي سببها العراق والعديد من المغامرات السياسية الخارجية، حافظت واشنطن على درجة عالية من النفوذ والقوة الناعمة، في ما يتعلق بعلاقتها مع الدول الأخرى وسكانها، واعتمد هذا النفوذ على مصداقية الولايات المتحدة في حالتين، القيادة الأميركية في الشؤون الدولية وقدرة الرئيس على الحكم الفعال في الداخل، وحين يصبح كلاهما موضع تساؤل، كما هو الحال الآن، يتضاءل تأثير أميركا، وهذا ليست له تداعيات على تحالفات مثل حلف الناتو فحسب، بل إنه يخلق حالة من عدم اليقين العالمي ويزيد من خطر المغامرة في السياسة الخارجية من قبل الدول التي تستمتع بفرصة تقليص مكانة أميركا العالمية.
وتزايدت توقعات نهاية الهيمنة الأميركية قبل فترة طويلة من رئاسة ترامب، ولكن بالنسبة إلى الكثير من المراقبيين غير الأميركيين، لا يبدو الأمر سيئا، ولكن سرعة ومسار الانخفاض الذي لا يمكن التنبؤ به في موقف الولايات المتحدة الدولي تحت حكم ترامب، عجل العملية وسط نوع من عدم الاستقرار والأمن.
ومرّ الاتحاد السوفييتي في خمسينات القرن الماضي بعملية التخلص من الستالينية، وتصحيح عيوب الماضي، وتحتاج واشنطن وبشكل عاجل للتخلص من نفس المرحلة، قبل إلحاق الضرر بموقف الولايات المتحدة الدولي، ولكن في الوقت الحالي، احتمالات حدوث ذلك بعيدة.
أرسل تعليقك