كشفت وثائق سرية بريطانية عن أن البريطانيين سعوا جاهدين إلى الحفاظ على مكانة حسني مبارك، كنائب للرئيس المصري، حتى يتمكن من خلافة الرئيس أنور السادات، أملاً في مساعدتهم على إبرام صفقات سلاح. ووفق الوثائق، فإن التقييم البريطاني للرئيس المصري الأسبق مبارك، عندما تولى الرئاسة، هو أنه كان مستقيمًا ولم يكن قابلاً للإفساد في المنصب"، وأنه تولى الرئاسة على مضض.
وأشارت الوثائق، التي حصلت عليها "بي بي سي العربية" حصريًا، بمقتضى قانون حرية المعلومات، إلى أن بريطانيا كثفت اهتمامها بمبارك عقب توليه منصب نائب الرئيس، في 16 أبريل / نيسان 1975. وتولى مبارك رئاسة مصر في 14 أكتوبر / تشرين الأول 1981، بعد أسبوع من اغتيال السادات، وظل في هذا المنصب حتى أطاحت به ثورة 25 يناير / كانون الثاني 2011. وفي آخر زيارة لمبارك، كنائب للرئيس، إلى لندن، في سبتمبر / أيلول 1980، تقرر عدم المبالغة في الاهتمام به، كي لا يوغر ذلك صدر السادات عليه. وحذرت السفارة البريطانية من تبعات إبداء اهتمام لافت للأنظار بالزيارة، حرصًا على مصلحة ومكانة مبارك.
وقالت السفارة، في برقية سرية وشخصية إلى إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، في وزارة الخارجية البريطانية: "إن أحد أسباب محاولتنا إثارة ضجيج بشأن مبارك، نائب الرئيس، عندما يزور بريطانيا الشهر المقبل هو، كما تعلمون، أنه الخليفة الأكثر احتمالاً للرئيس السادات، في حالة حدوث أي شيء للأخير". ونبهت إلى ضرورة لفت انتباه المتحدثين الإعلاميين البريطانيين لكي لا يتحدثوا لوسائل الإعلام بحماس عن زيارة مبارك المرتقبة. وأضافت البرقية، التي أرسلها السفير سير مايكل وير: "سأترك لكم تقدير الخطر (الذي ينطوي عليه مثل هذا الاهتمام)، لأن الرئيس السادات قد يفهم الأمور خطأ بشكل كبير لو حدث هذا الضجيج، وإن كان بريئًا".
وخلصت إلى أن قوة موقع مبارك تكمن، حتى الآن، في قدرته على مساندة الرئيس في كل المناسبات، من دون أن يبدو بأي حال أنه تهديد، ولو شعر الرئيس بأن مبارك يكتسب قاعدة قوة مستقلة، فربما يقرر تحجيمه. وجاءت توصية السفير البريطاني رغم إصرار نظيره المصري في لندن، حسن أبو سعدة، وهو فريق سابق في الجيش المصري، على أن يُستقبل مبارك استقبالاً رفيع المستوى. واجتمع أبو سعدة مع مسؤولين في وزارة الخارجية، بعثوا لاحقًا ببرقية إلى رئاسة الوزراء تقول: "السفير حريص على جعل الزيارة مهيبة، وأكد أن مبارك يتوقع أرفع معاملة"، لكن إدارة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا وجدت صعوبة في الاستجابة لطلب السفير. وقالت في برقية سرية: "نحن نخشى أنه ربما يرفع السفير توقعات مبارك بقدر أعلى من الممكن".
وبحكم تاريخه العسكري، كان مبارك حريصًا، عندما كان نائبًا للرئيس، على زيارة معرض فارانبره البريطاني لصناعات الطيران الحربي، ذي الشهرة العالمية. وزار المعرض في عامي 1974 و1976. وفي الزيارة الثانية كان متسترا (أي لم تكن الزيارة رسمية ولم يعلم بها أحد من البريطانيين)، كما قال السفير البريطاني في برقية إلى الخارجية. واقترح وير، بإصرار، توجيه دعوة رسمية لمبارك كضيف على الحكومة البريطانية لزيارة المعرض في شهر سبتمبر / أيلول 1980. وقال، ناصحًا حكومته في برقية سرية، إنه من المثالي أن آمل أنه سيكون من الممكن توجيه الدعوة لمبارك للقيام بزيارة رسمية لبريطانيا في فترة إقامة معرض فارانبره الجوي، سواء من جانب رئيسة الوزراء أو وزير الدفاع، مع ترتيب لقاءات مع وزير الخارجية ورئيسة الوزراء ووزير الدفاع. وبرر سير مايكل إصراره بالقول: "على المدى الأبعد، يزداد موقع مبارك كخلف محتمل للرئيس السادات قوة باستمرار".
وحذر السفير من تجاهل نصيحته خدمة لمصلحة بريطانيا. وقال:" قد يبدو هذا تدليلاً مبالغا فيه لمبارك، غير أنني أجزم بأن الأمر ليس كذلك، وبالتعبيرات المصرية مبارك يميل كثيرًا إلى بريطانيا، أما لماذا حرص السفيرعلى ضرورة حضور مبارك المعرض العسكري الشهير هذه المرة بشكل رسمي، فتجيب البرقية: "رغم أنه ليس معنيًا مباشرة بسياسة مشتريات سلاح الجو المصري، فإن له تأثيرًا هائلاً على السلاح الجوي المصري، ويحتفظ بصلات بزملائه السابقين في الخدمة، الذين مازالوا في أماكنهم. ونبهت البرقية إلى احتمال أن يخطف الفرنسيون اهتمام مبارك ويستحوذون عليه. فقالت منبهة متخذي القرار في لندن إلى إنه يزور معرض باريس الجوي بانتظام. وتؤكد برقية أخرى أن علاقة مبارك بالجيش المصري، باعتباره قائدًا سابقًا للقوات الجوية في حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973، كانت سببًا رئيسيًا في الاهتمام بمبارك النائب.
وفي هذه الوثيقة، طُرحت أسباب دعوة الحكومة البريطانية مبارك رسميًا ليكون ضيفًا عليها خلال زيارته لبريطانيا، بهدف حضور معرض فارانبره. وتقول البرقية التي كتبتها وزارة الخارجية: "غرض الزيارة مزدوج، الأول تمكين مبارك، وهو قائد سابق للسلاح الجوي المصري، من زيارة معرض فارانبره الجوي، والثاني تهيئة فرصة لنا للتقرب من أكثر المصريين نفوذًا بعد الرئيس السادات، فيشاع بقوة أن السيد مبارك سيكون خليفة الرئيس السادات، ويجب علينا أن نظهر له كل اهتمام". ولم يكن يقصد البريطانيون، كما توحي الوثائق، أنه يمكن اقناع مبارك بالقيام بدور في إبرام صفقات سلاح مقابل استفادة مالية، فقد اعتقد البريطانيون، في ذلك الوقت، بأنه لا يمكن التعامل مع مبارك بهذا الأسلوب.
وضمن سيرة ذاتية لمبارك، أعدت عندما تولى الرئاسة، استبعدت أجهزة جمع المعلومات البريطانية ميل مبارك للفساد. وقالت السيرة، التي أعدت بناء على طلب رئاسة الحكومة: "الترقية غير المتوقعة لمبارك إلى منصب نائب الرئيس، في نيسان 1975، جاءت مفاجأة كبيرة رغم أن أسلوبه العسكري المنضبط وكفاءته الإدارية جعل الوظيفة وكأنها خلقت له، ثم إن سمعته الآن أنه واحد من الذين لا يمكن أن يفسدوا في المنصب". وبعد أربعة شهور فقط من توليه منصب الرئاسة، زار مبارك بريطانيا في فبراير/ شباط 1982. وطلبت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية حينئذ، معلومات إضافية عنه قبل مثولها أمام البرلمان للرد على أسئلة النواب. وفي التقرير المعلوماتي، قالت السفارة البريطانية في القاهرة إن اغتيال الرئيس السادات، في تشرين الأول 1981، جاء بمبارك إلى السلطة على مضض منه.
وأضافت أنه رغم أن كونه الخيار الواضح للوظيفة، في الوقت المناسب، فإنه لم تكن لديه فيما يبدو رغبة في توليها بهذه السرعة. ووصفت الوثيقة مبارك حينها بأنه ليس عميق التفكير، غير أنها قالت إن طريقته في الحكم هي بحث كل النقاط وأخذ آراء الأغلبية. وقالت تقارير أجهزة جمع وتقييم المعلومات البريطانية عن مبارك إنه أصاب في تحديد إحباطات المصريين البسطاء، ووعود السادات التي لم ينفذها، وعدم مساواة المتنامية بين الأغنياء والفقراء، والفساد في المواقع العليا، وظروف المعيشة المروعة في العشوائيات الحضرية.
وأشارت البرقية إلى أن تاتشر شددت لمبارك على أن هناك حزمة مالية محسنة (ائتمان مالي في شكل قرض لتمكين مصر من قبول العرض) متاحة الآن. وقال الرئيس مبارك، الذي بدا وكأنه لم يُطلع على المسألة، إن مصر تحتاج إلى وقت لدراسة العرض. وأرسل سكرتير تاتشر نسخة من برقيته ومحضر المباحثات بين الوفدين إلى وزارتي الدفاع والتجارة، وشدد على الالتزام بأن لا توزع إلا في نطاق ضيق للغاية. وأثارت تاتشر موضوع التسلح بناء على تقرير أعدته السفارة البريطانية في القاهرة، قبل زيارة مبارك بثمانية أيام.
وسرد التقرير ما قال إنه مجالات رئيسية يمكن استثمار زيارة مبارك لتحقيق الاستفادة فيها. وشملت هذه المجالات البحرية، والدفاع الجوي، والدبابات، والمدفعية، والتحكم والسيطرة، والاتصالات. ويكشف التقرير عن علم السفارة بأن سلاحي الجو والبحرية المصريين يجريان عملية استعراض لمشترياتهما، كما يكشف عن زيارة أخيرة لفريق قوي من وزارة الدفاع البريطانية لمصر، وزيارة أخرى خلال شباط (الشهر الذي زار فيه مبارك لندن) من جانب فريق قوي آخر من وزارة الدفاع البريطانية، يرافقه ممثلون عن شركات صناعة الأسلحة، غير أن التقارير نبهت إلى أن مبارك يفتقد رؤية السادات، ويظهر أنه ليس لديه مفهوم شامل لمصر التي يود أن يراها.
ورغم أن مباحثات مبارك وتاتشر، خلال هذه الزيارة، تناولت فقط قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها الصراع العربي الإسرائيلي، فإن رئيسة الوزراء البريطانية أثارت مسألة صفقات السلاح في نقاش خاص، حضره أسامة الباز. ووفق برقية صادرة عن السكرتير الخاص لرئيسة الوزراء، فإن تاتشر تحدثت مع مبارك بالتحديد عن عرض شركة فوسبير ثورنيكروف البريطانية (التي يملكها أميركيون الآن) بشأن قوارب مراقبة بحرية قادرة على حمل صواريخ أو فرقاطات لمصر. وفيما يتعلق بالتمويل في ظل مشاكل مصر الاقتصادية في ذلك الوقت، قال التقرير: "لو تحسنت العلاقات المصرية السعودية، فإن المال السعودي سيصبح متاحًا مرة أخرى لمشاريع الدفاع المصرية".
وأوصت السفارة بضرورة إتاحة تسهيلات ائتمانية لتمكين مصر من شراء السلاح من بريطانيا، ومنح العقود لشركاتها. وقالت: في هذه الأثناء (أي لحين توفر المالي السعودي لمصر)، وبينما يجري نقاش بشأن المبيعات المباشرة، فإن توفير شروط مالية ائتمانية تفضيلية (من جانب وزارتي الدفاع والتجارة البريطانيتين) أمر حاسم". وبعد عام من هذه الزيارة، أجرت بريطانيا تقييمًا جديدًا لطريقة حكم مبارك. وأشار التقييم، الذي أعد بمناسبة زيارة لمبارك إلى بريطانيا، في أوائل شباط 1983، إلى بعض ملامح حكمه. وقال التقييم، الذي أعدته السفارة البريطانية في القاهرة ، إنه بعد 15 شهرًا في المنصب، يظل أكبر إنجاز متفرد لمبارك هو التغيير العميق الذي أدخله على أسلوب الرئاسة، ومن ثم على المناخ السياسي في البلاد.
وأوضح أن نهج مبارك فيما يتعلق بالحكومة هو البرغماتية، وفوق كل ذلك، الحذر. والأسلوب الجديد له مزاياه، فالخطابات باتت أقصر وأقل عددًا من خطابات السادات، وخالية من النبرة الخطابية والوعود الفارغة، وهو يتشاور بشكل واسع ومنتظم، واستقامته الشخصية ليست محل أي شك. ولم تنعكس "استقامة" مبارك، وفق رؤية البريطانيين، على طريقته في مكافحة الفساد، حيث فشل في مكافحة الفساد الذي كان المصريون يشكون منه دائمًا، وفق التقييم، الذي جاء فيه: "حظيت حملته ضد الفساد، خصوصًا محاكمة شقيق السادات، بموافقة عامة، لكن تأثيرها كان ضئيلاً في تبديد الشك، فالحملة تؤكد أن الأسماء الكبيرة لا تُمس".
أرسل تعليقك