القاهرة - مصر اليوم
استعاد «متحف الفن المصري الحديث» بريقه أخيراً بعد الانتهاء من تطويره وتجديده وافتتاحه أمام الزوار مجدداً، ليعود إلى المشهد التشكيلي المصري بعد غياب طويل، فهو يوثق إبداعات رواد التشكيل المصري، على مدار ما يزيد على قرن من الزمان، ففي بداية القرن العشرين تحديداً عام 1908، شهدت مصر إنشاء أول مدرسة للفنون الجميلة تماهياً مع مناخ تنويري وليد شهد ظهور عمالقة في النحت والتصوير، قدموا روائع فنية زينت جدران القصور وبيوت الأسر العريقة، لكن كان هناك من يرى أنّ الفن ليس للنخبة وحدها، وأنّ من حق الجمهور من كافة فئات المجتمع أن ينهل من جماليات وأفكار هذه الروائع، ومن هؤلاء الفنان محمد محمود خليل الأب الروحي للفنون المصرية ورئيس جمعية محبي الفنون الجميلة الذي وضع مجموعته المتحفية في إحدى غرف الجمعية ليراها الجميع، ونجح عام 1927 في إقناع السراي بإصدار مرسوم ملكي بتشكيل لجنة لرعاية الفنون، وأوصت بإنشاء المتحف، الذي انتقل مقره إلى عدة أماكن في القاهرة إلى أن استقر داخل ساحة الأوبرا المصرية.
يضمّ المتحف 10 قاعات موزعة على ثلاثة طوابق، بالإضافة إلى عرض في الهواء الطّلق لأعمال النّحت كبيرة الحجم، ويحتوي ما يزيد على 15 ألف عمل فني. وفي عام 2010 أُغلق بهدف التجديد، وبعد افتتاحه جزئيّاً عام 2014 أُغلق مرّة أخرى لتعيد وزيرة الثّقافة دكتورة إيناس عبد الدايم افتتاحه أخيراً بكامل مساحته.
وشملت أعمال تطوير المتحف تحديث سيناريو العرض المتحفي الذي أشرفت عليه لجنة متخصصة ضمّت نخبة من الخبراء والفنانين، كما شمل التّطوير أعمال التّوصيف والتّسجيل الدقيق دفترياً وإلكترونياً، وتحديث منظومة الكهرباء والأمن والمراقبة.
وفي مقدور الزائر الآن أن يتواصل مع ذاكرة الفن المصري عبر هذا المتحف التوثيقي الفريد من نوعه على حد تعبير الفنان الدكتور مصطفى الرزاز قال: «يمثل المتحف بانوراما متكاملة عن الفن المصري منذ القرن التاسع عشر حتى الآن، ويضمّ أعمالا للفنانين المصريين و(المتمصرين) الذين جاءوا وعاشوا في مصر مثل الأرمن والإيطاليين والفرنسيين» مضيفاً «هو كان وسيبقى ليس له مثيل في المنطقة، مهما بُنيت متاحف فنية ذات إمكانيات مادية عالية، قد يمكنها اقتناء لوحة بملايين الجنيهات، لكن لا يمكنها منافسة المتحف المصري، الذي يتضمن أعمال خمسة أجيال على طريق الحركة الفنية في مصر منذ نشأتها، وهي لفنانين لم يعد من الممكن شراء أعمال لهم لأنّها غير متاحة من الأصل في أي مكان في العالم إلّا نادراً، وهي تمثل إرثاً حضاريّاً وفنيّاً وجزءاً من تراث الإنسانية».
وإلى جانب اللوحات والمنحوتات يضمّ مقنيات ووثائق وصورا ومستندات نادرة وفق الرزاز، الذي كشف عن بعضها قائلاً: «منها المجموعة القيمة للزعيمة هدى شعراوي، ومن أندر ما تتضمنه مجموعة بلاطات والأواني الخزفية من إنتاج أوّل مصنع للخزف في مصر والمنطقة، وتروي حكاية شعراوي مع الفنان العم صابر حين أرسلته إلى أوروبا لتعلم أحدث الأساليب الفنية في مجال الخزف حينئذ، ومن ثمّ جاء ليطبقها بطرز عربية أصيلة، إضافة إلى مقتنيات نادرة أخرى في المخازن، وتمثل مرجعاً بحثيّاً مهماً للحركة الفنية المصرية».
وحين ينتقل الزائر إلى القاعات يلتقي بروائع فنية تمتد على مدى حقب زمنية مختلفة ما يرفد المتلقي بجرعة إبداعية مكثفة، ومن ذلك جيل الرواد الذين أرسوا أسس الفن الحديث، ومعه أرسوا قواعد التنوير والتمسك بالهوية. وفي مقدمتهم المثال محمود مختار فنشاهد بعض تماثيله الرخامية والبرونزية، ومنها تمثال إيزيس في الساحة الكبيرة الذي يكشف عن بعض ملامح أسلوبه الفني ومنها التّضافر بين الرومانسية والتّأثر بالتّاريخ الفرعوني، ومنه إلى رواد آخرين مثل محمود سعيد الذي يبهر الزائر بلوحته الشهيرة «المدينة»، ومن بنات بحري إلى الأسلوب الكلاسيكي الرّصين في لوحات الفنان أحمد صبري، وقلب القرية المصرية عند راغب عياد، إلى «أبو التأثيرية المصرية» يوسف كامل الذي ننتقل عبر أعماله في المتحف إلى أسواق القاهرة القديمة وأحيائها، وغير ذلك من الأعمال.
وأثناء جولة الزائر للمعرض يمكنه أن يتعرّف على أعمال نادرة لجماعات فنية لعبت دوراً محورياً في المشهد التّشكيلي المصري، ومن ثمّ حققت حراكاً عظيماً في الفن العربي في مراحل لاحقة، فنلتقي بأعمال أعضاء جماعة «الفن والحرية» أمثال الفنانين رمسيس يونان وفؤاد كامل، ونتعرف على دورهم في تحرير الفن المصري من سيطرة الكلاسيكية، لتفتح الطريق على مصراعيه أمام الأساليب الجديدة.
ويضمّ المتحف باقة أخرى فريدة تضع الزائر وجها لوجه أمام التّعبيرية المصرية، وذلك حين يتأمل الأعمال الخاصة بجماعة «الفن المصري المعاصر» ومن ضمنها أعمال المبدعين عبد الهادي الجزار وحامد ندا وسمير رافع، فمن خلالها يتتبع المتلقي تحول الفن من رسم موضوعات الصالون إلى رسم المصريين البسطاء في حياتهم اليومية عبر لوحات تبتعد عن «التناول الاستشراقي» للبيئة المصرية بمعالجته الفنية المتعالية.
ويغوص الزائر في أعمال الأجيال المختلفة ومن أهمها جيل الستينات بكل زخمه، حتى يستطيع قراءة ملامح هذه الفترة ما بين الاقتراب من التجريدية والتعبيرية الخيالية مثل أعمال صلاح طاهر وسيف وأدهم وانلي، وأحمد فؤاد ومصطفى عبد المعطي، والبيئة الشعبية والفولكلور مثل أعمال زكريا الزيني وممدوح عمار، إلى جانب الروائع النحتية.
وقد يهمك أيضًا:
المصريون يطالبون بعودة حجر رشيد إلي مصر
حفيد شامبليون يقدم قصة فك رموز حجر رشيد
أرسل تعليقك