القاهرة ـ سعيد فرماوي
تشابهت حياته مع النجوم إلى حد كبير، و ظهر من العدم، وبرق بضوء لامع، ثم خفت راحلًا في هدوء، لتبق منه ومضات سريعة خلدت شاعر القصة القصيرة وفيلسوفها في وجدان الثقافة العربية بعد رحلة قصيرة في الحياة لم تطول خطواتها لتتجاوز الـ43 عامًا بأيام قليلة، ظل خلالها يحيي الطاهر عبدالله من الأسماء اللامعة التي خلقت بعدًا جديدًا في عالم القصة بعد أن نبتت مفرداتها في الأرض بقوة وبقدرة أقوى على البقاء لعقود أطول.
وحمل طينها الخصب البذرة الأولى الصعيد، لاسيما في الكرنك في الأقصر أرض القدماء والعظماء، في تكوين الطاهر عبدالله، لتمتزج عدد من العوامل والظروف لتشكل وجدانه وتختبر قدراته في ظروف قاسية ليعاني من اليتم بعد وفاة والدته في سن صغير، وحلت محلها خالته كزوجة أبيه، ليصبح ترتيبه الثاني بين ثمان أطفال، وتوالت الأعوام متشابهة لحد كبير أمام الطفل الصغير، وفتح حصوله علي دبلوم الزراعة المتوسطة الطريق أمامه للعمل في وزارة الزراعة، وهو الأمر الذي لم يدم لفترة طويلة، بعد ما قرر الهروب من سيطرة زوجة أبيه وهيمنها عليه.
وبدء الشاب النحيل ضعيف البنية بملامحه الجنوبية السمراء، رحلته للمدينة الكبيرة "قنا"، التي كانت أهم محطة، له إذ بها تعرف على عبدالرحمن الأبنودي وأمل دنقل رفيقي كفاحه، وعاش في منزل الأبنودي مدة طويلة قبل رحيلهم إلى القاهرة.
وقال عنه الأبنودي: "لم أكن أعلم أن يحيى الطاهر عبدالله لن يغادر هذا البيت إلا بعد ثلاثة أعوام، منذ أول يوم أصبح فردًا من أفراد العائلة ينادي أمي "يامه"، ويتعامل مع الشيخ الأبنودي كأنه والده واستولى مني على أخوتي".
وشكل عام 1964، مرحلة جديدة في حياة الطاهر عبد الله، بسفره إلى العاصمة الكبيرة أو أرض الأحلام التي انتقل إليها حديثًا متخذًا من منزل الأبنودي ودنقل في منطقة بولاق الدكرور "مقهي أدبي" يعج بالشعراء والمثقفين دائمًا معبأ برائحة الدخان، ثقل الطاهر الإبداعي لم يكن محملًا سوى بباكورة أعماله "محبوب الشمس" وتلالها بقصة "جبل الشاى الأخضر" في عام 1961، مكتشفًا عمقه اللغوي والإبداعي، ساعده تقديم يوسف إدريس له بمقدمة فريدة في مجلة "الكاتب" بعد أن تعرف عليه في مقهي "ريش".
وتوالى إبداع الطاهر في التدفق لم يوقفه سوى تعرضه للاعتقال بعد صدور قررات بسجن مجموعة من الأدباء والمثقفين، بالرغم من أنَّه لم يكن له نشاط سياسي بارز أو معروف في تلك الفترة ليتم إطلاق سراحه في عام 1967، وخاض بعدها تجربة الزواج من السيدة مديحة تليمة وأنجب منها أسماء وهالة ومحمد.
وقدم يحيى خلال20 عامًا في عالم الأدب، مجموعات قصصية شديدة الحيوية والتوهج، إذ قدم العديد من الأعمال الإبداعية المتميزة من أهمها "ثلاث شجيرات تثمر برتقالًا، "الدف والصندوق"، "الطوق والأسورة" عام 1975 والذي تم تقديمها في فيلم سينمائي في نفس العنوان للمخرج خيري بشارة، و"حكايات للأمير حتى ينام"، بالإضافة إلي مجموعة من الأعمال القصصية للأطفال.
وعبرت الكلمات "ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي كان يحيا كأن الحياة أبد"، التي رثت بها أمل دنقل صديقها ورفيق رحلة كفاحها، بكل ما فيه من متناقضات إنسانية وأحلام جنوبية جامحة، ونهمه للقراءة وعشقه للعقاد، في مزيج بين العبقرية والجنون كان هو أصدق من عبر عن الصعيد في قصصه القصيرة بعد أن أعطاه الصعيد سره الكبير وفتح له أبوابه الخلفية لعالمه السحري، ليرحل ويدفن في أرض أجداده بعد وفاته على أثر حادث سيارة أودي بحياته.
أرسل تعليقك