القاهرة ـ سعيد فرماوي
الظواهر الثقافية، وربما الظواهر بصفة عامة، عندما تتكرر فإنها تتشابه عند تناولها من الخارج أو تحليلها بصورة عابرة لا تتعمق في المفردات الجديدة التي أفرزتها وهي تختلف بالتأكيد عن تلك المفردات التي أحاطت بالظاهرة السابقة التي تتم المقارنة معها، هناك ظاهرة جديدة في مصر تدعى زاب ثروت وهو مغني الراب أصدر 4 كتب حتى الآن، آخرها "حبيبتي" الذي بيعت منه آلاف النسخ وحملته المئات من الفتيات في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وربما التوزيع والجمهور وصلا بالاسم إلى الصفحات الثقافية التي تناولت ثروت بالنقد والتحليل وبالكثير من الهلع وكأن الثقافة كانت قبل ثروت في أفضل حالاتها .
إن تتبع ما كتب حول ثروت يضع أيدينا على عدة معطيات، معلومة تخبرنا أن جمهور ندوة ثروت في المعرض كان أكثر عدداً من جمهور أدونيس في المعرض نفسه، وبينما انتمى جمهور هذا الأخير إلى شرائح ثقافية تقليدية يطلق عليها إجمالاً "العواجيز"، فإن جمهور ثروت تتكون أغلبيته من الشباب ومن الفتيات تحديداً . أيضاً لا ينتمي كتاب "حبيبتي" إلى جنس أدبي معروف فتارة يوصف بالشعر وأخرى يلصق بالرواية، وأدى الرفض المثقفن أو الرسمي لثروت إلى إطلاق هاشتاج "ألف كأنك زاب ثروت"، أما النقاشات النخبوية التي دارت حول "ظاهرة ثروت" فقسمت المتابعين بين اعتبارها ظاهرة لا تستوجب الكثير من القلق حيث شهدتها الساحة الثقافية في الماضي، وهناك من ذهب إلى أن كتابة ثروت تعبر في مضمونها ومحتواها عن الجيل الجديد .
ولكن الجميع لم يلتفت إلى بنية الثقافة التي نعيشها الآن، ونعني هنا الثقافة النخبوية التي أفرزت من دون أن تدري مثل هذه الظواهر، لقد ظللنا خلال السنوات الأخيرة نتحدث عن النص العابر للأجناس الأدبية، الواقع على تخوم الشعر والقصة والرواية، نهلل بغموض لنصوص من هذا القبيل، نحتفي بالكتابة الإلكترونية وكل ما ينتمي إلى هذا الدجل، وترافق ذلك مع بحث آخر محموم لهثنا وراءه وتمثل في كيفية الوصول بالثقافة إلى الجمهور أو إلى أكثر شرائح اجتماعية ممكنة، وفي هاتين الحالتين المشروعتين والبراقتين في الوقت نفسه، النص المفتوح ومسألة التلقي، كان الطرف الثالث غائباً دائماً بمعنى منتج النص الجيد الذي يدرك الخط الوهمي بين كتابة ممتلئة وجديدة وبسيطة وأخرى فارغة وتدعي التجديد شكلاً وتافهة، وأضيف إلى هذا المشهد غياب الناقد كمنتج آخر للنص أو قارئ له أو مقوم لما يسود في الساحة .
وفي ظل غياب الموهبة اللافتة مصحوبة بالمتابعة والتحليل والإضاءة، إضافة إلى دعوات ظنت في الظاهر أنها تتجاوب مع التكنولوجيا الحديثة، ومعظمهم من "العواجيز"، الذين ظنوا أنهم بتعاملهم مع الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ينخرطون تلقائياً في صفوف الشباب، ومن هنا جاء الوهم الذي لازم هؤلاء حيث ادعوا أنهم يكتشفون أشكالاً إبداعية مغايرة تمثل إضافة جديدة لكل ما نعتقد أنه الثقافة حسب تكويننا وذائقتنا القديمة، لقد كان يهيمن عليهم عدة دوافع، منها الخوف من اتهامهم بالتأخر أو التراجع المعرفي، أو الدخول في جدل وصراع بين القديم والجديد لابد أن ينتصر فيه هذا الأخير، وجاءت أحداث الربيع العربي لتعقد الأمور فنصوصهم لم تكن تتجاوب مع الشارع وعاشوا لسنوات هزموا فيها أمام التيارات المتشددة، وهي نفسها السنوات التي توقفوا فيها عن وصف نص بالجيد أو الرديء .
لقد كانت هذه الثقافة تعاني فكرياً أزمة طاحنة وتمر في نفق نهايته مسدودة وعندما ظنت أنها تداعب أو تنافق جيلاً يمتلك ثقافة "أخرى مغايرة تماما" لترشده وتوجهه وتشذب إبداعه وفق المعايير القديمة وقعت في الفخ، حيث لم يلتفت إليها هذا الجيل وأنتج ثقافة مختلفة .
زاب ثروت ليس ظاهرة ستأخذ وقتها وتنتهي، فالمقارنة هنا ليست بين نجيب محفوظ وإسماعيل ولي الدين الذي كانت توزع رواياته في السبعينات أضعاف محفوظ، وهو نموذج أورده الكثيرون ممن تناولوا ظاهرة ثروت، فالبقاء وفقهم كان للأفضل، نقول ثروت ليس ظاهرة ولكنه يمثل ثقافة جديدة في طور النشأة ثم الهيمنة خلال سنوات قليلة مقبلة، فهناك العشرات غيره ينتمون إلى جيل تعلم وفق ثقافة الملخصات الدراسية والتدريب على الامتحانات، وتطلع في شاشات فضائية يستطيع أن يتقلب بينها في ثواني معدودة، وتنزه في المول، حيث الأماكن المجمعة المصغرة وجلس في المقهى الذي يقدم القهوة السريعة وفي وسط شباب يتحدث أكثر من لغة تتداخل حروفها وتتعدد اختصاراتها، وتناول الأطعمة "تيك أواي"، ولُخص العالم بالنسبة إليه في مجموعة من الصور، هذا بخلاف التكوين الاجتماعي لشرائح هذا الجيل والذي يختلف عن السابق إن لم يكن في جوهره، فهو مغاير في مظهره وتجلياته، كل هذا أثر بقوة في طبيعة العلاقات والتعاطي مع الأماكن وتفهم المفردات المحيطة . فهل نحن أمام مرحلة جديدة ستختلف فيها بنية الثقافة نفسها؟ وهو ما دفع الروائي البيروفي الفائز بجائزة نوبل للآداب بارغاس يوسا إلى القول إن العالم مقبل على حقبة انحطاط ثقافي طويل، هذا من وجهة نظر الثقافة القديمة/ المكرسة/ النخبوية . . الخ .
الظاهرة الثقافية الجديدة أو "الثقافة الجديدة"، ستفرض علينا أن نتوقف في القريب العاجل عن تناول قضايا قديمة، وفي الحقيقة مملة، مثل: المقارنة بين الكتاب الورقي والإلكتروني أو التطرق إلى معدلات القراءة فالآن تطرح الوسائل الإلكترونية فضاءاتها، فمعدلات "الاطلاع" تزايدت ولكن متابعة الملخصات هي السائدة، حيث قراءة فقرات واقتباس جمل توضع على الصفحات الشخصية، وكذلك هناك ضرورة للخروج من جدل النثر والعمود والرواية والقصة فهناك الشكل السردي الجديد والذي يخاطب العقل والمشاعر مباشرة من دون لف أو دوران أو دلالات ومرموزات، وهناك الغرافيتي كبديل التشكيل و"الجود ريدز" والذي بات يأخذ مقعد النقد الشاغر وغيرها من سمات علينا أن نلتفت إليها ونوليها قدراً أكبر من الأهمية .
زاب ثروت وغيره لا يمثلون ظاهرة عابرة وإنما يعبرون عن ثقافة جديدة وربما مغايرة تماماً نشهد الآن بداياتها وتستوقفنا مخاضاتها، ولا يهم هنا قبولنا أو رفضنا لها ولكنها تفرض نفسها بالفعل .
أرسل تعليقك