القاهرة ـ سعيد فرماوي
يعد المفكر د . سمير أمين أحد خبراء الاقتصاد التقدميين في مصر والوطن العربي، شارك خلال حياته العلمية في تأسيس عدد من مراكز البحوث، التي تهتم بالتنمية البشرية، ومنها "المجلس الإفريقي لتنمية البحوث الاجتماعية والاقتصادية، ومنتدى العالم الثالث، والذي ترأسه لسنوات طويلة" .
اهتم د . أمين في دراساته المتعددة منذ أكثر من خمسين عاماً بتقريب الهوة ما بين المركز والأطراف، وإعادة قراءة المادية التاريخية في سياقاتها المعاصرة، وعلاقتها بأنماط الإنتاج المختلفة .
كما اهتم بالتنمية في القارة الإفريقية، حيث عمل لسنوات طويلة مستشاراً اقتصاديا في مالي ومدغشقر والكونغو، وتصدى لأفكار اقتصادية مغايرة لأفكاره التي عمل من أجلها طوال سنوات بحثه الطويلة .
وعبر مؤلفاته العديدة قدم د . أمين رؤية اقتصادية وفكرية متكاملة حول مستقبل المنطقة وعلاقتها بالتحولات العالمية، ومنها "التراكم على الصعيد العالمي" ،1973 و"التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة" ،1974 "الطبقة والأمة في التاريخ وفي المرحلة الإمبريالية، والاقتصاد العربي المعاصر، أزمة الإمبريالية أزمة بنيوية" "في نظرية الثقافة" ،1989 و"حوار الدولة والدين" ،1996 "وفي نقد الخطاب العربي الراهن" 2009 .
في كتاباته ودراساته اتجه د . سمير أمين إلى وضع تصورات عقلانية من أجل إيجاد حلول موضوعية للأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية التي يمر بها الإنسان المعاصر، خاصة في منطقة الشرق الأوسط عبر رؤية حداثية متعددة الأبعاد، مؤكداً الجوهر الإنساني في الحداثة، وهذا ما يشير إليه قائلاً: نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن الطابع الميتافيزيقي، وحين تخلى عن هذا الإرث دخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وصارت ممارسات الفكر العقلانية تنعتق عن الحدود المفروضة عليه سابقا، فأدرك الإنسان منذ هذه اللحظة أنه هو صانع تاريخه، انطلقت الحداثة إذن عندما أعلن الإنسان انعتاقه من تحكم النظام الكوني، وأرى أن هذه القطيعة كانت أيضا لحظة تبلور الوعي بالتقدم، فالتقدم في مجال إنماء قوى الإنتاج أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية ظاهرة موجودة منذ الأزل، ولكن الوعي بالتقدم أي الرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة، من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفا للتحرر والتقدم .
وقد أكد د . أمين منذ الستينيات ضرورة تجاوز العقل العربي لأزماته، وتحديث الفكر الاجتماعي، وقد طرح وقتها أسئلة عدة ومنها: من هو الفاعل الذي يصنع تاريخ الحداثة، هل هم الأفراد كلهم أو بعضهم، الطبقات الاجتماعية، الجماعات والفئات ذات الهوية المحددة المتباينة الوضع، الأمم، أم المجتمع المنظم في إطار الدولة السياسية؟ وكيف يصنع هذا التاريخ، وما الوقائع التي يقوم صانعو التاريخ بتعبئتها؟ وما الاستراتيجيات التي يطورونها ولماذا؟
وأشار د . أمين إلى أن حركة التاريخ ليست بمثابة التنقل على خط مستقيم، له اتجاه معروف مسبقاً، بل تتكون هذه الحركة من لحظات متتالية، بعضها يمثل خطوات تقدم في اتجاه معين .
ويضيف د . أمين قائلا: يقال كثيرا في أيامنا إن الحداثة أصبحت مفهوما تخطاه التاريخ، وأزعم أن هذا القول لا معنى له من حيث المبدأ، فإذا كان تعريف الحداثة هو أن "الإنسان" يصنع تاريخه فإن هذه المقولة غير قابلة للتجاوز بالمرة .
الحداثة لا نهاية لها، وستظل طالما استمرت الإنسانية تعيش، علما بأن الحداثة القائمة في لحظة تاريخية معينة تعاني الحدود الخاصة بهذه اللحظة، وفي المرحلة الراهنة يتطلب تقدم مفاهيمها تجاوز حدود العلاقات الاجتماعية الخاصة بالرأسمالية .
إن معنى الاستقطاب هذا هو أن أغلبية جيش العمل الفاعل تتواجد في المراكز، بينما أغلبية احتياطي هذا الجيش تتراكم في المحيط، حيث يبلغ عدد العاطلين ونصف العاطلين الحضريين أضعاف عددهم في المراكز، وحيث ترتفع نسبة العاملين غير الأجراء في القطاعات ذات الإنتاجية المنخفضة أي في الزراعة وفي القطاعات غير الشكلية في الحضر .
ويؤكد د . أمين أن هذا الوصف السابق ذكره ينطبق فقط على بعض مناطق العالم الثالث، وبالتحديد على تلك المناطق التي فشلت إلى الآن في محاولاتها التنموية، بينما لا ينطبق على الدول "نصف المصنعة"، التي ظهرت في المرحلة الأخيرة للتوسع الرأسمالي، وأعتقد أن التناقض بين المراكز والأطراف لن يجد حلا في إطار التوسع الرأسمالي .
ويرى د . أمين أن ملامح النظام العالمي الجديد، تؤكد أن التوسع الرأسمالي يؤدي إلى اشتداد التناقضات الاجتماعية والنزاعات القومية، ولما كانت وظيفة الخطاب الأيديولوجي الليبرالي السائد هي بالتحديد إلقاء قناع على هذه التناقضات يصبح لزاماً على قوى اليسار أن تطرح بديلا للمشروع الهمجي على صعيد عالمي، ولابد أن يبذل المجهود لكي يكسب هذا البديل شرعيته .
ويطرح د . سمير أمين حلولاً عدة للخروج من الأزمة: أولها أن خيار إعادة بناء عالم متعدد الأقطاب هو الخيار الاستراتيجي الوحيد الذي يضمن احتمال إقامة أهمية شعبية مستحدثة تجمع شعوب القطاعات الثلاثة للعالم أي العرب والشرق والجنوب .
ثانياً: إخضاع العلاقات الخارجية لاحتياجات التنمية الداخلية، بدلاً من تكيف التنمية الداخلية لاحتياجات القوى المهيمنة عالمياً من خلال النظام الوطني الشعبي .
ثالثاً: فيما يخص العالم الثالث تقوم هذه الاستراتيجية على تفضيل مبدأ التقدم في تنظيم قوى الإنتاج على مبدأ السعي وراء قدرة تنافسية عالمية مباشرة، فهي استراتيجية تدعو إلى إعطاء أولوية لإنجاز ثورة زراعية قائمة على أكبر قدر ممكن من المساواة الاجتماعية من أجل تفادي الهجرة إلى الحضر، ومن أجل تحويل الأنشطة غير الشكلية من موقفها الخاضع والمستغل إلى اقتصاد شعبي، كما تدعو هذه الاستراتيجية إلى الجمع الفعال بين التخطيط والاعتماد على السوق و"دمقرطة" السياسة على أساس إنجازات اجتماعية تقدمية .
وما يطرحه د . سمير أمين عبر هذه التصورات يرجعه إلى ضرورة إقامة ظهير شعبي لتحقيق استراتيجية التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهذا لن يتم إلا بالوعي الحقيقي بالتحولات الراهنة في العالم .
أرسل تعليقك