في ظل قيادة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، دخلت تركيا مرحلة نشاطات ضخمة تتعلق بأعمال البناء، أثمرت ناطحات سحاب شاهقة في المراكز الحضرية، وإعادت بناء البنية التحتية العامة، الأمر الذي يسر الحياة على المواطن التركي العادي.
وحقق الاقتصاد التركي الذي اعتمد بشدة على الاقتراض من مصارف أجنبية، نمواً قوياً العام الماضي قدر بـ7 في المائة، تبعاً لما أعلنه صندوق النقد الدولي.
واليوم، ضربت هذه النشاطات المحمومة حالة من الجمود، مع بلوغ الديون المتراكمة على عاتق الشركات التركية أجل الاستحقاق.
من جانبهم، شعر المستثمرون بتوتر كبير إزاء التوجه الاستبدادي المتزايد من جانب إردوغان، الذي دفعه إلى تعزيز سلطته انطلاقاً من منصة قومية، وجعله بطيئاً حيال اتخاذ الإجراءات اللازمة لكبح جماح الاقتصاد المنفلت.
وبعد شهور من التأخير، وتراجع بنسبة 40 في المائة في قيمة الليرة التركية، سمح إردوغان الشهر الماضي للبنك المركزي برفع معدلات الفائدة. إلا أنه لم يقدم على ذلك إلا بعد أن ألقى خطبة عامة ندد فيها بهذه الخطوة، الأمر الذي خلق حول الإجراءات التركية للخروج من الأزمة غيمة من التناقضات.
وتضمن الزيادة المتأخرة في معدلات الفائدة حدوث ركود اقتصادي، حسبما يرى خبراء اقتصاديون، وستحمل بالتأكيد تداعيات سياسية يتعذر التكهن بها.
وخلال الشهور المقبلة، سيواجه الرئيس الحاجة لاتخاذ مزيد من القرارات الصعبة، بينها الحصول على إعانة محتملة من صندوق النقد الدولي، الأمر الذي سيشكل اختباراً لقدرة إردوغان على تحقيق توازن بين خطاباته الساعية لإرضاء الجماهير وحاجة اقتصاد بلاده لدواء مر.
بيد أن الخطر يكمن في أن براغماتية إردوغان بطيئة الحركة، ربما لا تفلح في التحرك بالسرعة الكافية لإنقاذ الاقتصاد التركي من حالة التداعي الراهنة.
في هذا الصدد، قال البروفسور جيفري فريدين، المتخصص في أساليب الحكم بجامعة "هارفارد"، ومؤلف كتاب "الرأسمالية العالمية": "تواجه الأنظمة الاستبدادية مشكلات عندما يقع الاقتصاد في مشكلات".
ومثلما الحال مع السلاطين العثمانيين الذين يكن لهم الإعجاب، جعل إردوغان من أعمال البناء الضخمة بصمة مميزة لحقبته. على سبيل المثال، من المنتظر أن يصبح مطار إسطنبول بعد الانتهاء منه الأكبر على مستوى العالم.
كما أن المسجد الضخم الجديد الجاري بناؤه في المدينة ذاتها سيتسع لما يزيد على 37000 مصلٍّ. وخلال السنوات الأخيرة، انتشرت شقق خاصة يبلغ سعر الواحدة منها مليون دولار، داخل أبنية يعود تاريخ بنائها إلى القرن الـ19، قائمة داخل شوارع مغطاة بالحصى داخل ضاحية غالاطة، المشهورة بوجود برج مميز فيها يعود إلى العصور الوسطى. وجرى تشييد جسر جديد عبر البوسفور.
وعلى مقربة من المراكز التجارية الثلاثة سالفة الذكر داخل ضاحية ليفينت، توجد ناطحة سحاب فاخرة تحمل اسم «الياقوت» كانت حتى وقت قريب البناء الأطول على مستوى البلاد.
مستوى المعيشة
من ناحيته، وداخل متنزه يقع بجوار مجرى مياه في ضاحية أيوب التي يقطنها أبناء الطبقة العاملة، تحدث سابان دينيزهان (40 عاماً)، عن التحول الذي طرأ على البلاد. وقال: "شهدت مستويات المعيشة تحسناً هائلاً.
في وقت مضى لم نكن نستطيع حتى مجرد الجلوس هنا بسبب رائحة المياه. الآن، انظر إلى الناس ستجدهم يصطادون السمك". وإلى الجوار، كان طاقم من عمال البناء يضعون الأساس لمحطة مترو أنفاق جديدة، ستمكن سكان المنطقة من الوصول إلى المستشفى الرئيسي، دون الاضطرار لخوض غمار المرور المزدحم بالمدينة.
وتشكل الخدمات الصحية واحدة من المجالات التي ترك إردوغان عليها بصمة مميزة. اليوم، لم يعد الأتراك مضطرين للوقوف منذ الرابعة أو الخامسة صباحاً في صفوف على أبواب المراكز الصحية، على أمل الحصول على رعاية صحية بعد ساعات. بدلاً من ذلك، أصبح بمقدورهم حجز مواعيد لهم عبر الإنترنت أو الهاتف.
بوجه عام، نجح الملايين في الفرار من براثن الفقر خلال حقبة إردوغان، وارتفع الناتج الاقتصادي بالنسبة للفرد لمستوى يقارب الضعف، تبعاً لما أفاد به صندوق النقد الدولي.
إلا أنه مع ارتفاع مستوى جودة الحياة، غرس إردوغان بذور الأزمة الحالية، ذلك أنه بدلاً من الاستثمار في المصانع - السبيل التقليدي لأي اقتصاد ناشئ نحو الازدهار - ركزت تركيا اهتمامها على التشييد والبناء.
منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، انكمش التصنيع من أكثر من 22 في المائة من الاقتصاد إلى نحو 16 في المائة، حسبما أفادت به إحصاءات حكومية. في المقابل، نمت أعمال البناء وقطاع العقارات خلال الفترة ذاتها بسرعة، وأصبحت تشكل نصيباً كبيراً من الناتج الوطني مثل الصناعة.
وبدوره، تطلب كل هذا البناء تدفقاً مستمراً من الاقتراض الأجنبي. ويدين كبار المقاولين في تركيا بنحو 56 مليار دولار في صورة قروض بعملات أجنبية. ويرتبط جزء كبير من هذه الأموال بالمشروعات الكبرى التي تزعمها إردوغان، والتي تحظى بضمانات مالية حكومية.
ويرى محللون أن إردوغان والمعنيين بمجال التشييد والبناء - أحدهم صديق مقرب إلى إردوغان منذ أيام الدراسة الثانوية - طورا فيما بينهما علاقة تكافل شديدة الخطورة.
عن ذلك، قال أحد المحللين الماليين رفض كشف هويته، خشية إثارة غضب الحكومة: "كان المعنيون بالتنمية العقارية وشركات البناء بجانبه منذ اليوم الأول. وتتألف الحاشية المقربة منه بدرجة كبيرة من مقاولين كبار. وبغض النظر عن أي إجراء يتخذه، يجب أن يعمل على الحفاظ على رضاهم".
ديون الشركات بالدولار وعائداتها بالليرة
المشكلة القائدة حالياً تتمثل في وجود عدم توازن بين الديون التي تحملها الشركات التركية على عاتقها والعائدات التي تجنيها، وذلك بعدما اقترضت بالدولار في وقت يدفع فيه عملاؤها بالليرة. وكي تحصل على الدولارات اللازمة لتسديد ديونها، يجب عليها الحصول على مبالغ أكبر من الليرة.
من ناحيته، أشار الخبير الاقتصادي أنتيلا يسيلادا، الذي يعمل لدى مؤسسة "غلوبال سورس بارتنرز" إلى أن ديوناً بقيمة نحو 25 مليار دولار ستتطلب إعادة تمويل قريباً.
وأكد دورموس يلمظ، المحافظ السابق للبنك المركزي: "هنا تكمن جذور المشكلة التي نمر بها الآن. ويزداد الوضع سوءاً يوماً بعد آخر".
في شوارع إسطنبول، تبدو مبالغات صناعة التشييد والبناء ظاهرة للعيان. وفي الوقت الذي تعاني فيه إيجارات المكاتب في إسطنبول حالة من السقوط الحر، يجري العمل على بناء مساحات تجارية جديدة، تبعاً لما أفادت به شركة "جونز لانغ لاسال" المعنية بالخدمات العقارية.
وبينما تلوح في الأفق الرافعات الضخمة في شوارع جانبي البوسفور، تنهار أعداد تصاريح البنايات الجديدة. وحذر يسيلادا من أن كثيراً من شركات البناء التركية في طريقها نحو الإفلاس.
وقال سولي أوزيل، بروفسورة العلاقات الدولية بجامعة «قادر هاس»: «يعتمد الاقتصاد السياسي للنظام بشدة على علاقات التحيز والمحاباة. وتحمل مسألة إنقاذ المقاولين أهمية سياسية واقتصادية، خاصة أن صناعة البناء شكلت المحرك الحقيقي للنمو والتوظيف».
إردوغان يشدد قبضته
على بنايات في قلب المدينة، توجد ملصقات تحمل صورة إردوغان متجهماً وعليها عبارة: "تركيا الكبيرة تستحق زعيماً قوياً". فمنذ اشتعال مظاهرات ضخمة عام 2013 ضد الحكومة، سعى إردوغان لحشد مزيد من السلطات في قبضته، عبر إجراء تغييرات دستورية خلقت منصباً رئاسياً قوياً. كما استغنى عن مسؤولين اقتصاديين مستقلين، مقابل الاستعانة بآخرين موالين له، مثل زوج ابنته بيرات البيرق، وزير المالية.
في يونيو/ حزيران، فاز إردوغان بفترة رئاسية جديدة تستمر خمس سنوات، كأول رئيس تنفيذي لتركيا، ليحل صانع قرار يحظى بسلطات واسعة محل النظام البرلماني الذي ظل قائماً طيلة قرن تقريباً. وتسبب أسلوب حكم إردوغان الذي اعتمد على فكرة الزعيم القوي، في إصابة المعارضة بالشلل، وقوض المؤسسات المستقلة. وعلى مدار العامين الماضيين، احتلت تركيا المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الصحافيين المسجونين. وفي الأيام الأخيرة، عين إردوغان نفسه رئيساً لصندوق الثروة السيادية التركي، وطرد كامل مجلس إدارته.
من جانبهم، حذر بعض الخبراء من أن الإحصاءات الاقتصادية الصادرة عن الحكومة، مثل نسبة القروض المصرفية التي أصبحت معدومة، لم يعد من الممكن الوثوق بها. وفي هذا الصدد، اشتكى يلمظ من أنه: "لا نعرف حقيقة الوضع القائم".
الملاحظ أن إردوغان أدار الاقتصاد على نحو يتنافى مع الفكر الاقتصادي التقليدي، وألقى اللوم على عدوان أجنبي عن المشكلات الاقتصادية التي تعانيها بلاده، وأصر على نحو يتعارض مع جميع الدلائل القائمة على أن معدلات الفائدة المرتفعة تسبب، وليس تعالج، التضخم، أمر شبيه بالتأكيد على أن المضادات الحيوية تسبب العدوى. وكثيراً ما يتهم كياناً مبهماً يطلق عليه "لوبي معدلات الفائدة بالسعي نحو تقويض الاقتصاد التركي".
وفي الوقت الذي يفر فيه المستثمرون الأجانب بعيداً عن الليرة المنزلقة نحو الغرق، رفض إردوغان لشهور الدعوات المطالبة برفع معدلات الفائدة أو طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي، مثلما فعلت تركيا خلال أزمة عام 2001.
شراء عقار لنصرة تركيا
في أغسطس/آب، حاولت السلطات الإبقاء على حالة الازدهار الاقتصادي عبر إقرار مسكنات قصيرة الأجل، مع تشجيع الشركات والمستهلكين على الاستمرار في الإنفاق. ومن أجل دعم سوق العقارات، نشرت الحكومة إعلانات ضخمة في الصحف تروج لرهون عقارية لامتلاك منازل بنصف السعر، في مشروعات تنمية عقارية تدعمها الدولة. وحملت الإعلانات عنواناً يقول: "حان الوقت لتنتصر تركيا".
كما حثت تركيا كبار المقاولين لإظهار شجاعة أمام الرأي العام، في تعليقهم على السوق المنهارة، حسبما ذكر أحد الخبراء الاقتصاديين رفض كشف هويته، خوفاً من إثارة غضب الحكومة ضده.
من جهتها، قالت مونيكا دي بولي، الزميلة البارزة لدى "معهد بيترسون للاقتصادات الدولية": "لا أعتقد أن ما يحدث حالة فريدة. لقد سبق وأن شهدنا أزمات مشابهة، ليس في أماكن أخرى من العالم فحسب، وإنما في ماضي تركيا ذاتها أيضاً".
جدير بالذكر أنه في ثمانينات القرن الماضي، شهدت دول أميركية لاتينية، مثل البرازيل والأرجنتين، طفرات سريعة في النمو، أعقبتها حالات تراجع حادة ومفاجئة، الأمر الذي أصبح ملمحاً مألوفاً من ملامح الدول التي تحكمها أنظمة شعبوية أو استبدادية.
وحذرت دي بولي من أن الحكومات القومية اليمينية القائمة اليوم في المجر وبولندا، ربما تواجه العواصف الاقتصادية ذاتها قريباً.
في المقابل، أكد الخبير الاقتصادي أور دادوش، الذي يعمل لدى منظمة "بروغيل" الفكرية في بروكسل، أنه رغم ذلك تظل الحقيقة أنه ليس ثمة صلة مؤكدة بين الاستبداد والنتائج الاقتصادية الرديئة، مشيراً إلى أن دولاً مثل سنغافورة والصين ازدهرت اقتصادياً، في ظل قيادة حكومات غير ديمقراطية.
واستطرد موضحاً: «المشكلة تظهر عندما يوجد نظام استبدادي وسياسات اقتصادية رديئة ومجموعة من القناعات الخاطئة، خاصة إذا غلفتها هالة من القومية». وأضاف أن هذا ما يجعل حكاماً مثل إردوغان «يترددون كثيراً إزاء طلب العون من صندوق النقد الدولي».
- رسوم ترمب الجمركية
بدأ هبوط الليرة هذا الربيع؛ لكنه تفاقم في أغسطس، عندما ضاعف الرئيس دونالد ترمب التعريفات على الواردات الأميركية من الصلب والألمنيوم التركي. وجاءت هذه الخطوة في أعقاب انهيار المحادثات لإطلاق سراح القس الأميركي أندرو برونسون، الذي سجنته السلطات التركية. وأطلق ترمب «تغريدة» تعليقاً على هذا الموقف، قال فيها: «علاقاتنا بتركيا ليست جيدة هذه المرة!».
وجاء هذا التدخل من جانب الرئيس الأميركي، ليعزز ادعاء إردوغان بأن قوى أجنبية تقف وراء المشكلات الاقتصادية التي تعانيها بلاده. والملاحظ أن محاولات إردوغان استثارة المشاعر القومية، وتحذيراته من أن الولايات المتحدة ترغب في دفع تركيا لأن «تجثو على ركبتيها» تجد أذاناً صاغية بين كثير من الأتراك، البالغ إجمالي عددهم 81 مليون نسمة.
ورغم أن ادعاءات إردوغان تبقى دونما دليل يدعمها، فإن ثمة قوى خارجية بالفعل مهدت الساحة عن غير قصد، لحالة التردي السياسي والاقتصادي التي تعانيها تركيا اليوم.
من خلال إبقائه معدلات الفائدة قرب الصفر على امتداد ما يقارب العقد، بعد الأزمة المالية العالمية، جعل بنك الاحتياطي الفيدرالي من السهل أمام الشركات من مختلف أنحاء العالم تحمل ديون هائلة على عاتقها. يذكر أنه بحلول مايو (أيار)، بلغت ديون شركات تركية غير مالية بعملة أجنبية 336 مليار دولار، معظمها بالدولار، تبعاً لما كشفه البنك المركزي.
كما اضطلع الاتحاد الأوروبي بدور هو الآخر، عندما أدار ظهره لطموحات تركيا لنيل عضويته، الأمر الذي قضى على حافز لإعادة هيكلة البلاد ديمقراطياً.
ومع مضي إردوغان في طريقه، تتصاعد المؤشرات على الأضرار الاقتصادية. وشهدت ثقة المستهلكين تراجعاً في الوقت الذي أرجأت فيه شركة «أمازون» دخولها إلى السوق التركية. وتدفع بعض الشركات التركية فائدة بقيمة 39 في المائة على القروض قصيرة الأجل.
اللافت أن كثيراً من العوامل في أغسطس، منها العلاوات الحكومية الموجهة إلى 12 مليون متقاعد وعسكري الذين يشكلون واحداً من بين كل خمسة أتراك بالغين، نجحت في حماية المواطنين من الضربات الأشد قسوة. أما اليوم، فقد بدأ تأثير هذه المحفزات الاقتصادية المؤقتة في التلاشي، ما يعني أن الحياة ربما تصبح أشد قسوة أمام الأتراك.
أرسل تعليقك