مع الصباح الباكر، أول من أمس، أيقظت سها عاطف ابنها عز الدين، أخبرته أنهما سيتوجهان إلى القاهرة، صحبته من المنصورة إلى منطقة مصر الجديدة، وفي حديقة الميريلاند استوقفها صاحب الاثنا عشر عامًا وسأل "ليه يا ماما أنا جاي هنا؟". فأجابته الأم "عشان أنت تعبت وأخدت علاج كتير وأنت بطل عشان كده هم عايزين يكرموك".
"عز الدين" أحد الأطفال الذين تم دعوتهم مع أمهاتهم، في حفل إطلاق حملة "ابني البدري" لدعم "الطفل المبتسر" أو المولود قبل تسعة أشهر، وترعاها –الحملة- مؤسسة "حلمنا" لرعاية الأطفال حديثي الولادة، والقائم عليها عبلة الألفي، أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة.
في السادس من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، احتفل عز الدين بعامه الاثني عشر. ذلك اليوم الذي انهارت فيه سها باكية حين أخبرها الطبيب بينما تستعد للولادة "هنعوضه المرة الجاية.. 6 شهور ده متستنيهوش" في إشارة إلى أنها ستفقد الجنين. كانت الأم في الشهر السادس للحمل عندما أتاها المخاض مبكرًا ولزم ميلاد طفلها قبل أربعين أسبوعاً، وهي فترة اكتمال نمو الطفل في رحم الأم.
بعدما فاضت عيناها من الدمع رافضة خسارة طفلها الأول، قال الطبيب للأم "خلاص كل واحد يعمل اللي عليه والباقي على ربنا". وُلد "عز الدين" بوزن ضئيل، وُضع في الحضّانة، فيما أخبر الأطباء سها، أن بقاءه سيطول في ذلك المكان.
في اليوم الثالث من الولادة احتضنت سها وليدها "عرفت دكتورة عبلة وهي عرفتني يعني إيه أهمية أني احضن ابني في الوقت ده". ضمت الأم "عز الدين" إلى صدرها، تلامس جسدها بجسده الصغير، وقتها تنفس لأول مرة مدة خمس دقائق دون أكسجين، كان الأمر بمثابة طاقة أمل للسيدة، التي ما التقت طبيب إلا أخبرها أن طفلها لن يحيا طويلاً.
وضعت سها طفلها في إحدى مستشفيات المنصورة، بينما كانت تسكن دمياط. غادرت السيدة المشفى بعدما أخبرها الطبيب أن بقاءها سيطول، فيما أمضت شهرين، تسافر يوميًا بين المدينتين من أجل احتضان ابنها وإرضاعه "مكنتش بعمل حاجة غير أني أصحى الصبح جري عشان أديله الرضعة، وأقعد معاه طول اليوم لغاية بليل".
أما الأوقات التي يغيب فيها عن نظرها، كانت كالجمر، ما إن يرن الهاتف حتى تحدث نفسها أن مكروهًا أصاب صغيرها وسيأتيها الخبر بمجرد الرد على المكالمة، وحينما أخبرها الطبيب ذات مرة أن طفلها بحاجة لنقل الدم، استشعرت الخطر عليه.
تنظر سها لـ"عز الدين" بينما يجلس جوارها ويتفاعل في المهرجان المقام للأطفال المبتسرين، تحمد الله على بلوغه تلك المرحلة بين أشقائه الثلاثة الذين لحقوا به، تستعيد اليوم الذي حملته وغادرت به إلى المنزل بعد 60 يومًا مضت عليه في الحضّانة، لم يكن يجمعهما فيها سوى ساعات "حسيت وقتها أني كده ولدت" بابتسامة تقول صاحبة الرابعة والثلاثين ربيعًا.
نحو نصف مليون طفلاً يولدون في مصر سنوياً قبل ميعادهم كما صرحت وزارة الصحة والسكان في آخر إحصاء لها، ومنذ عام 2008 وتعطي المنظمات العالمية الاهتمام بأطفال الولادات المبكرة أو "المبتسرين" في السابع عشر من نوفمبر، إذ تم اعتماده يومًا عالميًا لنشر التوعية ودعم هؤلاء الأطفال وأمهاتهم.
بين الحضور في حديقة الميريلاند، أخذت سما صالح تداعب ابنتيها كارين وكندة، تنجذب الصغيرتان للبالون الأرجواني، وهو اللون المختار للتعبير عن الأطفال المبتسرين. عام وسبعة أشهر هو عمر التوأمان غير المتطابقين، تحملهما والدتها بابتسامة بشوش، تمتن للحظات وجودهما بعدما ظنت أنها قد تفقدهما مثل أخيهما.
لم يكن الإنجاب يسيرًا على سما. بادرت السيدة العشرينية بإجراء عملية حقن مجهري عقب مضي 10 أشهر من زفافها، بعدما علمت بوجود مشاكل ظهرت بعد الزواج، نجحت العملية وحملت سما، علمت أن في أحشائها ثلاثة أجنة، بنتين وولد.
سعادة الدنيا كانت تتملك سما كلما وضعت يداها على بطنها، "كنت عارفة مكان كل حد فيهم لأنهم مكنوش بيتحركوا عن مكانهم"، لكن الحال تبدل مع الشهر الثالث للحمل؛ أصاب سما نزيفًا حادًا حتى أخبرها الطبيب أن احتمال فقدها لأطفالها كبير، لكن بعد 15 يومًا خرجت الأم بصغارها، وأما النزيف لم يتوقف "بقى الموضوع عادي.. كنت تقريبا أكح أنزف لكن أخد الحقن أبقى كويسة" تقول سما بينما تبتسم على استحياء.
تستعيد سما تبدل الحال بصغارها بينما تنظر لهما. تتذكر اليوم كأنه يمر أمامها "كان تاني يوم شم النسيم، التلات بليل كنت هبدأ الأسبوع التلاتين في الحمل". أصاب سما النزيف مرة أخرى، ظنت أنه كالمرات السابقة، يتوقف بتناول الدواء، لكن المفاجأة "كانت أعراض ولادة".
في الثالثة فجرًا ذهبت سما إلى المستشفى، وضعت الأم مواليدها وبعدما فاقت لم تجدهم، كان الثلاثة في الحضّانة، ولم تكن طمأنتها مجدية "دكتور الرعاية قال لي أنتِ جبتي أطفال جمال جدا ميتوصفوش"، لكن كلما سمعت مثل تلك الكلمات حدثت نفسها "خلاص كده هم راحوا لأنهم مش موجودين". ظلت سما في هواجسها حتى ألحت لرؤيتهم بعد يومين من الولادة.
داخل الحضّانة كان اللقاء الأصعب والأقسى على نفس سما، صغارها الثلاثة في أسرة مغلقة، يكاد لا يُرون من كم الأنابيب الطبية المعلقة في أعناقهم وممدودة إلى أفواههم، فيما لا تتجاوز أجسادهم حجم الكف، تبسط الأم يدها وتقول "كندة كان وزنها 750 جرام وكارين 900 جرام".
انهارت سما حين رأت صغارها بهذه الحالة "قلت خلاص مش هيعيشوا"، لكنها لم تنقطع عنهم، في اليوم التالي زارتهم، لكن لم يكن وقتًا عاديًا؛ ترددت سما كثيرًا عليهم، أخذت تُمعن النظر لـ"حمزة" -كما اسمته، توقن الأم أنه كان ينظر إليها، حتى أنها تعجبت ولم تعتبره أمرًا عابرًا.
حتى فجر الجمعة راود سما القلق، شعرت الأم أن خطبًا ما سيقع، ولت وجهها إلى الله وأخذت تدعو "يارب أنت دخلتني بيهم المستشفى كذا مرة وخرجت بيهم.. يارب أنا عايزة أخرج بيهم تاني"، لكن القدر كان له ترتيب آخر؛ في الصباح ارتبك المشهد؛ ممرضات يعطونها المهدئات رغم عدم حاجتها لها، ووالدتها تأتي وتذهب في حركة مريبة، فيما كان الرفض إجابة طلبها بالذهاب إلى الحضّانة، وبعد إلحاح وقع الخبر "حمزة مات".
لم تكن صدرت بعد شهادة ميلاد للصغير صاحب الأيام الثلاثة في الحياة، سجل والده شهادتي ميلاده ووفاته في اللحظة ذاتها بعد قضائه يومًا في ثلاجة موتى المستشفى. أرادت سما أن تلقي نظرة الوداع على صغيرها لكن زوجها خشى من ذلك اللقاء، فاكتفت بحمله واحتضانه حتى المدافن في منطقة 15 مايو التابعة لحلوان.
في الطريق إلى الدفن، حدثت سما وليدها بما لم تستطع أن تُسمعه قبلاً ولن تفعل بعد ذلك "سلم على ستنا سارة هي اللي هتربيك وسيدنا إبراهيم هو اللي هيحفظك قرآن ولما تكبر شوية مش هعرفك ابقى تعالى أنت سلم عليا".
بعدما أودعت سما صغيرها حمزة في المقابر، عادت لرعاية صغيرتيها، يوميًا تذهب إلى المستشفى، تمنحهم الحنان ولا يغيب عنها شقيقهما الراحل، حتى خرجت كارين بعد 39 يومًا، لكن فرحة سما كانت منقوصة، أمضت توأمها كندة في الحضانة 48 يومًا، وطيلة تلك الأوقات لم تطرد عنها القلق من فقدهما "كنت خايفة أحبها أوي وأقرب منها لتموت"، لكن الأيام مرت واجتمع شمل الأسرة، وإن لم ترحل عنهم الصعاب.
لم تكن المواقف المادية فقط ما تؤذي سما. "كان عندهم 4 شهور والناس تقولي إيه ده كأنهم لسه مولودين اهتمي بيهم شوية" بأسى تقول سما عن التعليقات التي مازالت تأتيها عن جهل بحالة صغارها، فرغم اقترابهم من عامهم الثاني لكنهم يرتدون ملابس مواليد في عمر 9 أشهر، لكن عزاء الأم دومًا في تذكر أوقاتها داخل المستشفى "كنت أشوف أطفال عندهم قلب مفتوح وأمراض تاني فأقول الحمد لله أنهم خرجوا سلام".
لبت سما دعوة الطبيب المتابع لحالة ابنتيها لحضور إطلاق حملة "ابني البدري"، كما فعلت والدة "عز الدين". استشعرت الوالدتان الحماس في حضرة غيرهما من الأمهات، شاركت سها خبرتها مع ابنها، خاصة في مرحلة الدراسة، إذ يعاني صعوبة في التعلم. وجدت السيدتان في اللقاء فرصة لاستمداد القوة وإخبار الجميع أن ثمة أشخاص تعاني في صمت وتتمسك بحياة أطفالها حتى الرمق الأخير.
أرسل تعليقك