أرست المحكمة الدستورية العليا مبدأ قضائيا بأنه لا يجوز لجهة الإدارة التعلق بأعمال السيادة حال إبرام اتفاقية تتضمن التنازل على جزء من إقليم الدولة.
وقالت المحكمة، إن الأوضاع الدستورية في مصر مرت خلال السنوات القليلة الماضية بالعديد من التطورات التي تضمنتها الوثائق الدستورية منذ الإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 30/3/2011 مرورًا بالدستور الصادر عام 2012 والإعلان الدستوري الصادر بتاريخ 8/7/2013 انتهاءً بالدستور الحالى الذي جاء ليكشف في المادة (151) منه عن توجه المشرع الدستوري إلى تقييد جميع سلطات الدولة في إبرام المعاهدات والتصديق عليها بوضع المزيد من الشروط والضوابط والقيود على ممارسة هذا الاختصاص.
وأضافت المحكمة: "أن تلك المادة ميزت بين عدة فروض لإبرام المعاهدات، فجاء الفرض الأول في عموم إبرام المعاهدات ومنح الدستور رئيس الجمهورية الحق في إبرام المعاهدات إلا أنه منعه من التصديق عليها إلا بعد موافقة مجلس النواب.
ثم جاء الفرض الثانى فاشترط في معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة دعوة الناخبين للاستفتاء على المعاهدة وموافقتهم قبل التصديق عليها.
وأخيرًا منع إبرام أي معاهدة تخالف أحكام الدستور، أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، وبذلك النص أخضع المشرع الدستورى إبرام المعاهدات والتصديق عليها لنظام قانوني دقيق ومنضبط، فيتعين أن تكون إجراءات إبرام المعاهدات متقيدة بالأطر المحددة دستوريًا، وأن تراعي الضوابط والشروط المنصوص عليها.
وحاصل هذا النظام الدستوري والقانوني أن سلطة الحكومة ليست سلطة مطلقة وإنما هي سلطة مقيدة، حدد المشرع الدستوري تخومها وضبط حدودها ومداها وحد من غلوائها، وأصبح اختصاصها في هذا الشأن اختصاصًا يباشر ويمارس تطبيقًا وتنفيذًا لأحكام القانون بمعناه العام والذي يشمل الدستور والقانون، إن هي خرجت عليه وتجاوزته ووقعت في نطاق الحظر الوارد في الحالة الثالثة بأن أبرمت اتفاقية خالفت أحكام الدستور أو ترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة، أضحى عملها باطلًا وتعين على السلطة القضائية أن تستنهض ولايتها العامة واختصاصها الأصيل بمراقبة تصرفاتها، والتصدى لها، متى اتصل ذلك بها وفقًا للإجراءات والقواعد القانونية المنظمة لذلك، لتردها إلى حدود المشروعية القانونية والدستورية".
وأشارت المحكمة: إلى "أن ما يؤكد ذلك وضوح المغايرة بين نص الدستور الحالي في الفقرة الأخيرة من المادة (151) والتي نصت على أنه: (وفى جميع الأحوال لا يجوز إبرام أي معاهدات تخالف أحكام الدستور أو يترتب عليها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة) وبين نص نظيرتها في دستور 2012 – وهى المادة (145) – التي كانت تنص في فقرتها الأخيرة على أنه: (ولا يجوز إقرار أي معاهدة تخالف أحكام الدستور).
فالملاحظ أن دستور 2012 حظر إقرار المعاهدة متى كانت تخالف أحكامه، والمكلف بعدم إقرار المعاهدة في تلك الحالة هما مجلسي الشعب والشورى.
أما الدستور الحالى فقد ورد فيه الحظر على الإبرام وهو مصطلح بطبيعة الحال أوسع وأشمل من مصطلح "إقرار المعاهدات"، والحظر فيه عام؛ يمتد إلى السلطة التنفيذية فيحظر عليها كل عمل من أعمال إبرام المعاهدات الدولية بما فيها التوقيع عليها؛ كما يمتد ليشمل كل سلطات الدولة، ومن ضمنها السلطة القضائية بوصفها الرقيب على مبدأ المشروعية وسيادة القانون، الذي لا يتحقق إلا بقيام الرقابة القضائية على شرعية قرارات وأعمال السلطة التنفيذية، وإهدار مبدأ الرقابة القضائية في هذه الحالة استنادًا لأعمال السيادة من شأنه أن يهدر مبدأ المشروعية ذاته، لذلك يتعين العودة إلى الأصل الدستوري العام وهو كفالة حق التقاضي للناس كافة دون تقييد.
وعلى المحاكم وهي بصدد تكييف تلك الأعمال الشاردة عن اختصاصها، أن تراعي أن ذلك الحق هو حق دستوري أصيل وما عداه يكون استثناء وعلى هذا الأصل يجب عدم التوسع فيه، وأنه الملاذ الأخير للمواطنين لبيان وجه الحقيقة وهو الذي يكفل تقييد السلطة التنفيذية بقواعد القانون كما يكفل ردها إلى حدود المشروعية إن هي جاوزت تلك الحدود".
وتابعت المحكمة أنه لا يجوز للسلطة التنفيذية أن تتمسك بأعمال السيادة متى وقعت في المخالفة التي حظرتها الفقرة الأخيرة من المادة (151) المشار إليها، فعلى سبيل المثال إذا تم إعلان إبرام معاهدة من غير مختص أو بالمخالفة للإجراءات التي نص عليها الدستور أو بالمخالفة للدستور ذاته أو تضمنت تنازلًا عن جزء من إقليم الدولة.
وحكم القضاء في تلك الأحوال بعدم الاختصاص باعتبارها من أعمال السيادة فإن أثر حكمه على المجتمع لا يختلف عن الأثر المترتب في حالة إنكار العدالة بعدم الحكم في الدعاوى، فيضيع العدل، وتهدر الحقوق، ويعجز الأفراد عن مواجهة آثار تلك المعاهدات لغياب الحماية القضائية.
وذكرت أنه إذا كان الدستور في الفقرة الأخيرة من المادة (151) حظر على السلطة التنفيذية إبرام اتفاقيات من شأنها التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة فإن قيام الحكومة بالتوقيع على اتفاق يتضمن ذلك لا يعد عملا من أعمال السيادة وإنما هو عمل من أعمال الإدارة مما يختص القضاء بنظر الطعن عليه التزاما بحكم المادة (97) من الدستور والذي حظر تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء، ومن ثم فإن تقدير مشروعية توقيع الحكومة المصرية على الاتفاقية المشار إليها يدخل في ولاية هذه المحكمة طبقا لنص المادة (190) من الدستور ونص البند(14) من المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة.
وأنه لا يجوز القول إنه سبق لمحكمة القضاء الإداري أن قضت بعدم اختصاصها ولائيا بنظر الدعوى في دعاوى مشابهة، باختلاف النظام القانونى والدستورى، واستحداث حكم جديد حظر بموجبه حظرًا مطلقًا التنازل عن أي جزء من إقليم الدولة بحكم خاص، بالإضافة إلى تفرد كل دعوى عن الأخرى في وقائعها وأسبابها، يجعل الاستناد إلى سوابق الأحكام غير مفيد لجهة الإدارة في هذا الشأن.
والتطور الدستوري الحاصل بوضع ضوابط وقيود على اختصاص السلطة التنفيذية بإبرام المعاهدات والتصديق عليها ينبغي أن يقابل من جانب القضاء باجتهاد جديد يتوافق مع هذا التطور لضمان تحقيق قصد المشرع الدستوري المتمثل في توفير المزيد من الحماية لأحكام الدستور ولإقليم الدولة على وجه يحد من إساءة استعمال السلطة التنفيذية لاختصاصها في هذا الشأن، وعدم إخضاعها لرقابة القضاء يترتب عليه نتائج غير منطقية وتؤدي إلى تأييد ما قد يلحقها من مخالفة الدستور.
كما لا يجوز القول إن أحكام المحاكم قد استقرت على أن المعاهدات الدولية تدخل بطبيعة الحال ضمن أعمال السيادة حيث إن ذلك مردود عليه بما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا من:" إنه وإن كانت نظرية "الأعمال السياسية" – كقيد على ولاية القضاء الدستوري- تجد في ميدان العلاقات والاتفاقيات الدولية معظم تطبيقاتها بأكثر مما يقع في المجال الداخلي، نظرًا لارتباط ذلك الميدان بالاعتبارات السياسية وسيادة الدولة ومصالحها العليا.
إلا أنه ليس صحيحًا إطلاق القول إن جميع الاتفاقيات الدولية- أيا كان موضوعها- تعتبر من "الأعمال السياسية".
كما أنه ليس صحيحًا أيضا القول إن الاتفاقيات الدولية التي حددتها الفقرة الثانية من المادة 151 من الدستور واستلزمت عرضها على مجلس النواب وموافقته عليها، تضحى جميعها- وتلقائيا- من "الأعمال السيادية" التي تخرج عن ولاية القضاء الدستوري، ذلك أن كلا القولين السابقين يتناقض والأساس الذي تقوم عليه اعتبارات استبعاد هذه الأعمال من الرقابة القضائية على دستوريتها، وهي اعتبارات ترجع إلى طبيعة الأعمال ذاتها وليس إلى طريقة أو إجراءات إبرامها والتصديق عليها.
أرسل تعليقك