الرياض ـ وكالات
يبدو أن الربيع العربي تجاوز السعودية، بالرغم من الانتقادات الموجهة الى سجلها في مجال حقوق الإنسان وارتفاع معدلات البطالة، والسلطات المطلقة التي تتمع بها العائلة الحاكمة. ولكن مراسل بي بي سي للشؤون الأمنية فرانك غاردنر، الذي كان قد أصيب بجراح خطيرة خلال هجوم لمسلحين قبل تسع سنوات، يتحدث في هذا المقال عن علامات تشير إلى تغير طرأ على المملكة السعودية.في مثل هذا الوقت من المساء في الرياض حيث أنا الآن، تعرضنا لهجوم هنا قبل تسع سنوات. حاولت ألا أفكر في هذا الأمر أثناء خروجي على مقعد متحرك من الطائرة إلى صالة الوصول في مطار العاصمة.
بإمكاني أن ألاحظ اختلافا واضحا عما كان عليه الحال خلال زيارتي الأخيرة. ففي صالة الوصول مقاه عالمية، وسائحون أجانب يلبسون سراويل قصيرة. بل إن عينيَّ ضبطت أحد مسؤولي الجمارك وهو يبتسم.لقد دحرت إلى حد كبير حركة التمرد الدموية التي حصدت أرواح الكثيرين في منتصف العقد الماضي، وكان من بينهم المصور الذي صاحبني خلال تلك الرحلة. فقد قُتل المسلحون الضالعون في تلك الحركة، أو ألقي القبض عليهم، أو اضطروا إلى مغادرة البلاد عبر الحدود الصحراوية إلى اليمن.كان الظلام قد خيم على المدينة بينما كنت في سيارة الأجرة في الحي التجاري في الرياض حيث سألتقي بقية أعضاء الفريق تحت برج الفيصلية الشاهق، وهو ناطحة سحاب مبنية على هيئة قلم، أصبح من معالم الرياض الحديثة. تحت البرج لافتة مضيئة لأحد أفرع متاجر هارفي نيكولز.
داخل الردهات المكيفة زوجات وأزواج سعوديون يتجولون بين متاجر تعرض أزياءً وملابس داخلية فاخرة. إحدى نوافذ العرض تظهر مجموعة من الملابس الغربية.وجوه تماثيل العرض مشوهة، امتثالا لفتاوى رجال الدين الذين يرون التماثيل التي تضاهي صورة الإنسان أمرا مخالفا للإسلام.
المشهد في مجمله كان، بصورة ما، تجسيدا للتناقضات التي تواجه هذا البلد.معظم المواطنين يكنون مشاعر حب استثنائية لمليكهم
السعودية أكبر منتج للنفط في العالم، ولهذا فإنها من الدول التي تحظى بدخل مرتفع، إلا أن هذا لا يمكنها من توفير ما يكفي من الوظائف لمواطنيها.
ويحاول حكام البلد الذين يتداولون الحكم بالوراثة ايجاد توازن دقيق بين قوى الحداثة والتقدم التي تتوق إلى رؤية البلاد أكثر انسجاما مع باقي دول العالم، والمحافظين المتدينين الذين يرتابون في أي دعوة للتغيير.من الأسرار التي باتت معروفة في المملكة أن الملك عبد الله الطاعن في السن يرغب في رفع الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارات، ولكنه يخشى رد فعل غاضب في أوساط رجال الدين.كيف إذن تمكن آل سعود الذين ما زالوا يحتفظون بمقاليد السلطان في أيديهم من مقاومة عاصفة الربيع العربي العاتية؟بمجرد الإطاحة برئيسي مصر وتونس قبل عامين، جاء رد فعل ملك السعودية سريعا بصورة مدهشة، إذ أعلن الملك عن حزمة بمليارات الدولارات لمواطني دولته.ويقول المعارضون إنه ببساطة يشتري ولاء المواطنين بالمال. ولكن الحقيقة أكثر تعقيدا من هذا.فمهما انتقد السعوديون حكومتهم متهمين إياها بالفساد والبذخ، وهما الاتهامان الرئيسيان، فإن معظم المواطنين يكنون مشاعر حب استثنائية لملكهم.ويتزعم الملك عبد الله أكثر القبائل قوة في البلاد باعتباره واحدا من الأبناء القليلين الباقين على قيد الحياة للملك عبد العزيز مؤسس السعودية. ويخشى المواطنون أن تعم الفوضى أرجاء بلادهم إذا ما أطيح بآل سعود. وحينما يتأملون ما يجري على الجانب المقابل من حدودهم في سوريا يرتعدون خوفا.وهناك سبب آخر للخوف، فاحتجاجات الشوراع محظورة بصورة قاطعة، ويجد من يدعو لإنشاء برلمان منتخب أو ملكية دستورية نفسه في مواجهة عدد من المشاكل.وحتى الآن، هناك متنفس جديد لمشاعر الإحباط التي قد تنتاب المواطن السعودي العادي ربما لا تتمكن الحكومة من السيطرة عليه، وهو الإعلام الاجتماعي.ويعبر السعوديون علنا عن آرائهم وأفكارهم عبر تويتر وفيسبوك ويوتيوب بصورة لم يكن من الممكن تصورها قبل عدة سنوات. وهناك عنصر جديد ربما لا يكون متوقعا في هذا البلد المغلف بمظاهر الصرامة ألا وهو روح الدعابة.في ستوديو سينمائي بالرياض التقيت فهد البتيري. وهو مخرج يبلغ من العمر نحو عشرين عاما وقد تلقى تعليمه في الولايات المتحدة ودأب على إخراج أفلام قصيرة تسخر من عبثية مواقف الحياة اليومية. يرتدي البتيري قميصا فضفاضا وينتعل حذاء رياضيا من نوعية جيدة. وعرض عليّ أحد أفلامه القصيرة حول الفساد.أشار فهد إلى الشاشة قائلا "إنه يسلط الضوء على الأشرار". الفيلم يبدأ: "الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد قادمة لتقبض عليك" ثم تندلع نيران وهمية يملأ لهبها الشاشة بينما يسمع المشاهد صوتا لانفجار.هناك متنفس جديد لمشاعر الإحباط التي قد تنتاب المواطن السعودي العادي ربما لا تتمكن الحكومة من السيطرة عليه، وهو الإعلام الاجتماعيثم يشرح فهد في فيلمه كيف أن هيئة مكافحة الفساد غير فعالة في القضاء على الفساد الحقيقي.وفي السعودية، التي لا يوجد فيها سينما، مستهلكون متعطشون لأفلام اليوتيوب مهما كانت تافهة.بعض أفلام فهد حازت على أكثر من خمسين مليون مشاهدة على الإنترنت وبعض المشاهدين كانوا أمراء.
هذه هي، بشكل أو بآخر، النسخة السعودية من الربيع العربي. فلم تشهد البلاد أعمال نف دامية كالتي عصفت بالشرق الأوسط، باستثناء الاحتجاجات التي يقوم بها الشيعة شرق البلاد، والتي تلقى قمعا عنيفا من جانب السلطات.ربما استبدل المواطنون الاحتجاجات بنقاش حر وانتقاد وسخرية لاذعة عبر شبكة الإنترنت.
وحتى الآن، تتسامح الدولة مع هذا النقاش طالما لم يتجاسر أحدهم بإهانة الإسلام أو الملك، وطالما لم تأخذ الاحتجاجات الإلكترونية سبيلها للشارع.
ولكن، إذا ما حدث هذا، وواجهت الشرطة احتجاجا كبيرا من السنة الذين يمثلون غالبية سكان السعودية فإن ذلك التوازن الدقيق بين الحكام والمحكومين سيكون محل اختبار حقيقي.
أرسل تعليقك