باريس ـ ا ش ا
يشهد الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند هذه الأيام تدهورا غير مسبوق في شعبيته جعلته صاحب أدنى شعبية بين رؤساء فرنسا منذ بدء تسجيل نتائج استطلاعات الرأي الخاصة بشعبية رؤساء البلاد منذ أكثر من 32 عاما.
ومع الإقرار بأن الظروف التي تولي فيها أولاند حكم البلاد صعبة على مختلف الأصعدة إلا أنه بدلا من أن يستغلها ويظهر في صورة "رئيس إدارة الأزمات" أصبح بشكل واضح في نظر الغالبية العظمى من الفرنسيين "رئيسا غارقا في الأزمات" وهوما يضعه أمام تحد صعب خلال السنوات المقبلة خاصة إذا كان يرغب في الترشح لولاية رئاسية جديدة خلال الانتخابات القادمة المزمع عقدها عام 2017.
وكشف استطلاع الرأي، الذي أجراه معهد "بي في ايه" الفرنسي أوائل الاسبوع الجاري، تراجع شعبية أولاند لتصل نسبتها إلى 26 في المئة وهي أدني نسبة يحصل عليها أي رئيس فرنسي في تاريخ الجمهورية الخامسة. ووفقا للاستطلاع يرى 84% من الفرنسيين المستطلعة أراؤهم أن سياسية الحكومة غير كفء بينما يرى 74% منهم أنها غير عادلة. كما أوضح الاستطلاع أن 80% من الناخبين الفرنسيين على يقين بأن الرئيس أولاند-في حالة ترشحه- لن يفوز بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات الرئاسية لعام 2017.
ويرجع المراقبون هذا التدهور غير المسبوق في شعبية أولاند إلى مجموعة من القضايا التي أثارت ضجة واسعة على الساحة الفرنسية خلال الأسابيع القليلة الماضية ووضعت شعبية الرئيس الفرنسي على المحك و كان على رأسها قضية ليوناردا الألبانية، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستوى غير مسبوق، والتراجع عن توظيف ضرائب جديدة على حسابات المدخرين الصغار، وقضية رفع سقف الضرائب على فرق كرة القدم إلى 75%، إضافة إلى الضريبة الجديدة لحماية البيئة والتي أثارت جدلا واسعا في الأقاليم الشمالية الفرنسية لاسيما بريتانيا.
وبالنظر إلى تلك القضايا بشكل أكثر تفصيلا نجد أنها تكشف بدرجة أو بأخرى قلة الحرفية والحكمة لدى الرئيس أولاند وغياب الكفاءة في تسيير شئون الحكم. فعلى سبيل المثال قضية ليوناردا، التي أجبرتها الشرطة الفرنسية على النزول من حافلة مدرسية أمام زملائها، ثم ترحيلها مع أسرتها إلى كوسوفا بعدما تم رفض طلب اللجوء الخاص بالعائلة، قد أثارت حملة انتقادات لاذعة تجاه الرئيس الفرنسي حيث اتهم أولاند من قبل أعداد كبيرة من الفرنسيين بأنه تعامل مع تلك المشكلة بأسوأ الخيارات المتاحة أمامه.
فبدلا من أن يعلن أن الأسرة سيسمح لها بالعودة، أو يؤكد قانونية قرار الترحيل، خرج في بيان تلفزيوني من داخل الإليزيه ليعلن أن ليوناردا وحدها فقط، دون أسرتها، هي من سيسمح لها بالعودة وهو ما شكل صدمة في أوساط الشعب الفرنسي حيث ظهر الرئيس متخبطا في قراراته وعاجزا عن تبريرها مما أفقده الكثير من شعبيته.
أما فيما يتعلق بضريبة حماية البيئة المفروضة على الشاحنات الثقيلة فقد تسببت في اندلاع احتجاجات عنيفة في المقاطعات الشمالية الفرنسية، لاسيما "بريتانيا" ذات النزعات الانفصالية، وأصبحت تهدد بالانتشار إلى المناطق الانفصالية الأخرى مثل "الألزاس" في الشمال الشرقي الفرنسي وبلاد الباسك في الجنوب الغربي ومنطقة نيس في الجنوب الشرقي، وذلك بعد ظهور نوع من التنسيق بين رموز الحركات الانفصالية فيها.
والسبب وراء تلك الاحتجاجات يرجع إلى أن هذه المناطق الانفصالية جميعها تشترك في كونها تقع على الحدود الفرنسية مع ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وبحر المانش، ومن ورائها المملكة المتحدة في حالة بريتانيا الفرنسية، وجميعها مناطق عبور ونشاط اقتصادي يقوم على نقل البضائع والأشخاص والعبور المكثف من وإلى فرنسا، وعلى هذا الأساس يمثل النقل، خاصة الثقيل عن طريق الشاحنات، أحد أبرز الأنشطة الاقتصادية فيها.
لذلك فإن فرض ضريبة البيئة على تلك الشاحنات من شأنه أن يلحق ضررا بالغا باقتصاد تلك المناطق ويؤثر سلبا على الحياة اليومية للمواطنين.
وفي السياق ذاته قررت الحكومة الفرنسية مؤخرا فرض شريحة ضرائب جديدة تصل إلى اقتطاع 45 في المائة من الرواتب، وستطول هذه الضرائب حوالي 50 ألف أسرة، كما قررت الحكومة إلغاء جزء من المساعدات المالية في إطار سياسة دعم الأسرة وهي بذلك ألغت جزءا من المساعدات المالية للأسر الميسورة. ولأول مرة في تاريخ فرنسا ستفرض الحكومة الضرائب على المتقاعدين بنسبة 0.3 في المائة على رواتبهم التقاعدية، وهو الأمر الذي أثار سخطا شعبيا واسعا.
إضراب الأندية الفرنسية:
من ناحية أخرى، قررت الأندية الفرنسية للدرجتين الأولى والثانية لكرة القدم الإضراب من 29 نوفمبر حتى 2 ديسمبر احتجاجا على مشروع الضريبة بنسبة 75% وذلك وفقا لما أعلنه اتحاد الأندية الفرنسية المحترفة. ويعد هذا الإضراب هو الأول للأندية الفرنسية منذ أكثر من أربعين عاما وتحديدا منذ عام 1972.
ويكشف المشهد السابق ارتفاع أصوات الفرنسيين الرافض لسياسات أولاند الضريبية، التي تعكس قصوره عن إيجاد الحلول الحقيقية والمناسبة لمشاكل فرنسا خلال المرحلة الراهنة.
ورغم التصريحات المستمرة للرئيس والحكومة المؤكدة على تحسن المؤشرات الاقتصادية بالبلاد بصورة غير متوقعة وبلوغها أفضل مستويات على صعيد منطقة اليورو، إضافة إلى التراجع الهائل في أعداد العاطلين عن العمل غير أن الواقع يكشف أن البلاد تعيش أزمة حقيقية على مستويات عدة. فالبطالة وصلت إلى مستوى قياسي جديد حيث ارتفع عدد الأشخاص المسجلين بدون عمل في سبتمبر الماضي بواقع ستين ألف وحدة ليصل إلى الرقم القياسي الجديد الذي يتجاوز بقليل ثلاثة ملايين وحدة. وبذلك تكون معدلات البطالة في فرنسا، بدون أقاليم ماوراء البحار، قد وصلت إلى 10.5%.
إضافة لذلك فإن الأوضاع الاقتصادية في البلاد تزداد سوءا يوما تلو الآخر حتى أن دراسة حديثة أجراها باحثون فرنسيون كشفت أن الأزمة الاقتصادية في البلاد قد دفعت بنحو 6.1 مليون فرنسي للعيش في الخارج ومعظمهم أقل من 40 عاما، وحاصلين على شهادات عالية.
وبالنظر إلى أن الرئيس أولاند كان قد وضع تخفيض البطالة بحلول نهاية عام 2013وتحسين الأوضاع الاقتصادية للبلاد على قائمة أولوياته في برنامجه الانتخابي فإن إخفاقه في تحقيق هذا الهدف قد ساهم في زيادة حالة الاستياء لدى الفرنسيين واهتزاز صورته كرئيس للدولة. فقد شعر الفرنسيون أن هناك فجوة كبيرة بينهم وبين الرئيس وحكومته وأنه لا يوجد انسجام بين السياسات الحكومية حتى عندما تلاقي سياسات أي وزير قبولا من قبل الشعب، مثل وزير الداخلية فالس، فإن هذا الأمر لايصب في كفة أولاند أو رئيس حكومته جون مارك أيرولت الذي يراه كثيرون غير كفء لإدارة الحكومة.
ونتيجة لذلك أصبح أي تصرف أو تصريح يصدر من قبل الجهاز التنفيذي للدولة يقابل برد فعل سلبي من قبل الشعب وهذا الأمر يببر الاتخفاض غير المسبوق في شعبية الرئيس الفرنسي حيث أصبح ينظر إليه الشعب باعتباره رئيس غير حاسم وعاجز عن اتخاذ قرارات كما أنه يواجه صعوبة شديدة في توضيح الأسباب وراء قراراته أو سياساته خاصة وأن أولاند يحكم فرنسا في واحدة من أحرج الفترات التي مرت بها البلاد على مدار تاريخ الجمهورية الخامسة.
فرنسا والحزب لاشتراكي:
ورأى فريق من المحللين أن السبب وراء فشل أولاند في إدارة شئون البلاد هو أنه يدير الدولة بنفس الطريقة التي كان يدير بها الحزب الاشتراكي حيث يترك الجميع للتعبير عن رأيه وعرض مختلف التناقضات ويظهر هو في صورة "رجل التآلف" وهو ما يصعب تطبيقه في منصب شديد الأهمية مثل منصب رئيس الجمهورية الذي ينبغي أن يتسم صاحبه بالحسم في اتخاذ القرار والقدرة على تنفيذه.
وأرجع هذا الفريق اتباع أولاند لهذا النهج في حكمه في أنه يرغب في أن يقدم نموذجا مناقضا تماما للرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي كان يمسك جميع زمام الأمور في يده وينفرد باتخاذ معظم قرارات الدولة.
وما خلص إليه هؤلاء المحللون أن حصاد عام ونصف من حكم أولاند للجمهورية الفرنسية لا يعطي مؤشرات إيجابية بالنظر إلى السنوات القادمة المتبقية في فترته الرئاسية الأولى.
أرسل تعليقك