لندن ـ ماريا طبراني
قالت الصحافية السورية سمر يزبك إنه لمشهد مروع ما عرضته الفضائيات ووسائل الإعلام المخالفة لأطفال أثناء هروبهم من حلب بعدما تعرضوا للمواد الكيميائية التي ظهرت بشأنها اتهامات جديدة للنظام السوري
باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المعارضة السورية. التقط الصور عدد من الناشطين السياسيين في روكا، والتي أظهرت الحالة المريعة التي يعيشها أطفال سورية الفارون من المناطق التي استخدمت فيها تلك الأسلحة. ظهر الأطفال وأعينهم جاحظة ويعانون من حروق سطحية وغير ذلك من الأعراض الجانبية للكيماويات. فهل هناك جريمة أبشع من ذلك يحرق لها الألم خجلًا؟
وأتساءل عن الدور الذي أقوم به في الثورة السورية وموقفي من هؤلاء السوريين الذين يعانون الأمرين ومحدودية الخيارات، فإما المنفى والهروب من سورية أو البقاء في ديارهم في المناطق التي سيطر عليها الثوار في شمال البلاد، بالطبع لن يكون هناك فارق كبير بين الوجود في سورية أو خارجها والمواطن السوري يستمر في معاناته التي تمتد لعام ثالث مرعب من الدمار والخراب، فالجغرافيا في مثل هذا الموقف تتراجع تماماً، حيث يمكن لأي شخص أن يصنع ثورته الخاصة وأن يقدم الخدمات لبلاده من أي مكان، كما تقل أهمية عامل الوقت أثناء التنقل من مطار لآخر ومدينة لأخرى في سورية، حيث تتشابه الأماكن كلها التي خضعت لأقسى تجربة دمار يجتاح البلاد. فالجميع في أنحاء البلاد المختلفة يهربون من نير المذابح التي يتعرض لها المواطنون والتي تعرض مشاهد القتل والدم التي تصور لكل من يراها أن نظام بشار الأسد لن يسقط.
ككاتبة، لم يكُن من السهل عَلَيَّ أن أقول أن هؤلاء المواطنين الموجودين على أرض الواقع في سورية أهم بكثير من الشخصيات الخيالية. فطوال حياتي كنت أعتمد على الملاحظة في علاقاتي مع الآخرين ومع الأشياء المحيطة أكثر من الاعتماد على التفاعل معهم، أما الآن، اختلف الوضع تماماً، حيث تفاعلت مع الثورة إلى الحد الذي أعاد تكوين علاقتي بمهنة الكتابة، وطالما كنت مع الثورة من اللحظة الأولى وسأظل معها حتى النهاية، سأكشف أخطاء الثورة، ولكني لن أُوَلِّي ظهري لها أو أتركها وحدها، فالثورة شهادة لصالح العدل ضد الظلم وهي أيضاً إعادة لتعريف الجمال والقبح.
في الثالث من آذار/مارس 2011، خرجت التظاهرات سلمية تحمل إلى النظام غصن الزيتون الذي رد عليهم بالقتل والقصف والتعذيب ورأيت جموع المواطنين يطالبون بالعدالة والحرية والديمقراطية ليرد عليهم البلطجية وقوات الأمن والجيش بالقتل والتمثيل بالجثث وحصار المدن، كما تَضَمَّنَ الرد تهديدات لأسر الناشطين والقبض على الأطباء الذين يعالجون المصابين وإثارة العداوة بين الناس من أجل بناء مملكة الفوضى الخاصة بهم، إذا ما رفض الجنود تنفيذ الأوامر بقتل المواطنين، لا يكون أمامهم سوى أحد خيارين؛ الأول هو أن يلقوا حتفهم على يد زملائهم من الجنود الموالين لبشار أو الانشقاق عن الجيش أو القوات التي ينتمون إليها. ومن هنا أرى أن الثوار لم يحملوا السلاح مختارين، بل أجبرتهم عليها قسوة النظام ووحشيته المفرطة.
لقد تركت سورية بعد أن فقدت مصداقيتي بسبب هجوم النظام، علاوةً على التحقيقات التي خضعت لها والتهديدات التي كنت أتلقاها والاعتقال أيضاً وذلك في حزيران/يونيو 2011، وبعدها بعام كامل، عدت إلى البلاد لأطوف مدنها الصغرى والكبرى أُحدِّث الجميع عن الثورة رغم ضراوة النظام واحتكاره إعلام الدولة وبراعته في تصدير صورة غير حقيقة إلى العالم يريد من خلالها توصيل رسالة مفادها بأن ما يحدث في سورية ليس بثورة، إنما حرب شنها المسلمون السُّنَّة على الشيعة. تحدثت مع المفكرين، السياسيين والدبلوماسيين وكانوا في مجملهم لا يعرفون ماذا يجري على الأرض ومعظمهم يعد الثورة ثورة سلفية وكان الاعتقاد السائد لديهم أن الثورة تمثل خطراً كبيراً على الأقليات، وبخاصة المسيحيين والعلويين، من وصول الجهاديين السُّنِّيين للحكم، رغم أنها كانت قناعة سائدة بين من هم بعيدين عن المشهد الحقيقي، إلا أن هذه الصورة خلت تماماً من الصحة وعلى أرض الواقع كانت هناك قصة مختلفة تماماً.
وعند عودتي إلى سورية شاهدت طائرات النظام تقصف المخابز، القرى والمزارع وتقصف المدنيين بالمواد المتفجرة وتمطر المواطنين بمواد سامة، وفي تموز/يوليو من عام 2012، نزلت في قرية باناش بالقرب من إدلب شمال سورية لأشاهد سورية الحقيقة حيث العدوان المستمر على المدنيين والقناصة منتشرون على أسطح البنايات في أنحاء المناطق كافة التي استولى عليها الثوار ونقاط التفتيش التي أقامها الجيش السوري الحُر في كل مكان، هذا وكان المشهد خالياً تماماً من أي وجود للإسلاميين المتطرفين، كانت أشعار محمود درويش ومظفر النواب وأغاني الحب والكفاح تملأ شوارع القرية، كانت فكرة الدولة المدنية لا زالت قائمة حتى ذلك الوقت، كان الاقتصاد يتداعى للسقوط، إلا أن الأمور كانت مقبولة يمكن احتمالها والعيش في ظلها لفترات، كما قمت بالحديث عن الدولة المدنية مع عناصر من الجيش السوري الحر مع أن معظمهم كانوا ينتمون إلى التيار الإسلامي، وكانت الصراعات الطائفية مجدودة للغاية حتى آب/أغسطس الماضي. تَمَكَّنت أيضاً من الحديث إلى قادة الجيش السوري الحر وزعماء المجموعات القبلية المشاركة في المقاومة حالة العلاقات الطائفية بين السوريين وأهمية تفادي الوصول إلى مرحلة تتفجر عندها حرب أهلية، ساعتها تأكدت أن الثورة تسيطر على الجميع وتمسك بزمام الأمور في قبضتها وأن معناها الحقيقي هو الموت من أجل هدف نبيل.
كان ذلك حتى انتهيت من زيارتي في آب/أغسطس 2012، إلا أن الأوضاع الحالية أصبحت مختلفة تماماً عما سبقت الإشارة إليهن ليس فقط بسبب المجازر اليومية ولا إطلاق النظام لصوارخ سكود على المواطنين بصفة دورية ولا بسبب مطاردات النظام للمواطنين بطائرات الهليكوبتر من طراز ميج. كما لا يرجع اختلاف الأوضاع في سورية في العام الثالث من الثورة عن العامين الماضيين بسبب تحول سورية إلى قطعة من جهنم على الأرض ولا لوقوف الناس في طوابير طويلة في انتظار بضعة أرغفة من الخبر بعد قصف طائرات الأسد لأفران الخبز ولا بسبب الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي حيث يدفن الناس موتاهم على أضواء الشموع وسط المعارك المستمرة. ولم تختلف الأوضاع أيضاً بسبب كل تلك العوامل التي تُجسّد التراجيديا الواقعية التي تعيشها سورية، إنما تعيش سورية أوضاعاً مختلفة تماماً عما كانت عليه أثناء زيارتي لأن التراجيديا الحقيقية والأكثر وحشية وقسوة هي أن الوقت يمر على حساب المواطن السوري الذي تستمر معاناته. لقد رأيت هذه التراجيديا التي تتجسد في مرور الوقت مع استمرار الوضع الكارثي الذي يعيشه الشعب السوري في عيون رجال سوريين يحملون السلاح ومستعدين للتضحية بأرواحهم من أجل نيل الحرية.
وفي زيارة قمت بها لسورية في بداية هذا العام، توجهت إلى منطقة ريف إدلب لأرى الأوضاع الأكثر مأساوية على الإطلاق حيث اضطررت ذات مرة إلى اللجوء إلى منطقة الكهوف للاحتماء بها من القصف والمعارك الضارية في المنطقة وكانت دليلي في الرحلة إلى الكهوف سيدة تحمل رضيعاً على كتفها وأربعة أطفال يمسكون بردائها رافقونا إلى الكهوف وكانوا عراة حفاة تعساء. وعندما وصلنا إلى الكهف المقصودن وجدت أعداداً غفيرة من السوريين يتخذون من الكهوف مأوى لهم بعد تشردهم جراء قصف النظام السوري لمنازلهم. وكانت هناك فتاة تبلغ من العمر 16عاماً فقدت إحدى أرجلها أثناء الفرار من منزلها الذي قصفته طائرات النظام التي تتبعت الفتاة وأسرتها إلى منطقة الكهوف واستمرت في إطلاق النار حتى فقدت البنت ساقها. الأوضاع هناك بائسة والكهوف لا تصلح حتى لإقامة الحيوانات، كما أن المرض والجوع والضياع والاضطراب والتوتر هي السمات السائدة على سكان الكهوف المحيطة بريف إدلب كباراً وأطفالاً.
إننا الآن بعد أكثر من عامين من انطلاق الثورة، ولا زلنا نسير ليومين وأكثر أنا وبعض الناشطين وعناصر المقاومة لعد الجثث التي خَلَّفَها قصف الطائرات الميج الذي استمر ليومين متواصلين على المدينة. ورغم المعاناة الكبرى والألم المبرح الذي يعيشه الشعب السوري، ورغم انفطار قلبي كمداً على ما أراه، سأظل أُرَدِّد أنني لن أتوقف عن مقاومة نظام بشار الأسد مهما كان ما تنطوي عليه الأوضاع في مرحلة ما بعد بشار الأسد. فالأسد طاغية وقاتل وسادي، ومهما كان من سيأتي بعده، فلن يكون أسوأ مما تعيشه سورية في الوقت الراهن
أرسل تعليقك