c "البندقية" مدينة يتولّد سحرها من امتزاج الروعة مع البؤس - مصر اليوم
توقيت القاهرة المحلي 21:04:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ليست مجرد مكان بل هي كائن على وشك الاحتضار

"البندقية" مدينة يتولّد سحرها من امتزاج الروعة مع البؤس

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - البندقية مدينة يتولّد سحرها من امتزاج الروعة مع البؤس

جزيرة سان جيورجيو
روما - مصر اليوم

على مدار 3 قرون كانت تجمع من المال ثلث ما كانت تجمعه الخزانة الفرنسية في أو الحقبة النابليونية، أي ضعف ميزانية إنجلترا، وكان دخل الفرد فيها يُضاعف عشر مرات متوسط دخل الفرد في أوروبا، إنها مدينة "البندقية"، المعجون تاريخها بهذا العنصر الذي منه عظمتها وهلاكها المؤجل، حيث جعلت المدينة يوم كانت جمهورية مستقلة، من الملاحة البحرية العمود الفقري لوجودها، ومصدرًا رئيساً لثروتها التي سخرتها في صناعة الجمال.

لكن منذ مطالع القرن التاسع عشر دخلت البندقية في مسرى انهيار شامل راح يزيد من هشاشة جمالها بقدر ما يعمّق اللوعة على ما ينتظرها من قدَر محتوم، ويدفع إلى التهافت لمعاينة هذا الجسد المعلّق على مشنقة المياه، فالبندقية ليست مجرّد مدينة، بل هي كائن على وشك الاحتضار. خانقٌ قيظها ولزجٌ في الصيف، قارسٌ بردها ورطبةٌ في الشتاء. لكن مع ذلك، يكفي أن تتشرّد ساعات في شوارعها وفوق جسورها التي تطرّز صدرها السقيم حتى تتملّك ذاكرتك وتستقرّ فيها، لتمنعك من مغادرتها كلياً عندما تنهي زيارتك إليها.

أنت تعرفها قبل أن تراها، سمعت وقرأت وشاهدت ما لا يحصى عن هذه المدينة التي يتولّد سحرها من امتزاج الروعة بالبؤس، فتفرض ذاتها على الموهبة، وتروّض الأدباء والفنّانين، وتجبرهم على الاستسلام لمفاتنها والتكيّف معها، وإذا كان الوقت هو معتقلنا الكبير، وكل خطوة فيه إلى الأمام هي في الواقع خطوة إلى الوراء، فإن كل الذرائع مقبولة، وكل المواعيد مناسبة لكي نستسلم، ولو مرّة واحدة، للمفاتن التي تمنحنا إياها هذه المدينة التي نشأت غارقة في الجمال. وإذا كانت البندقّية هي الجميلة بين الجميلات، فليس أجمل منها سوى البندقيّة متبرّجة لاستقبال الكرنفال الذي بدأ العدّ العكسي لحلوله منذ أيام.

فزيارة البندقية يمكن أن تستغرق العمر كلّه، لكننا سنكتفي بالوقوف على بعض المحطّات الأخّاذة فيها، كفاتحة لشهيّة نعرف أنها لن تنتهي، لأنه عندما تنظر إليك هذه المدينة لن يعود بإمكان أحد أن ينقذك منها، تعود إليها مرّة غبّ المرّة، بذريعة أو من دونها، لا شيء يجعلك مستعداً لهذا السحر ولا شيء يقصيه عنك. هذه القصيدة الحجريّة ليست سوى واحة تنفض عنك تفاهات الحياة، وتنسيك الأزمات، وتحملك بعيداً عن الواقع، لأنها خارج الزمان تأخذك إلى عالم آخر يصبح الحلم فيه هو الواقع والحياة.

تعال معي إلى أجمل معالم البندقية
نبدأ جولتنا في القصر الذي أصبح واحداً من رموز المدينة، قصر (Dandolo)، حيث يقوم فندق «دانييلي»، أو (Il Danieli) مع «أل» التعريف، لأن «دانييلي» ليس مجرّد فندق، بل هو أسطورة مرّ عليها مشاهير الأدب والسياسة والفنون؛ في بهوه تقاطعت نظرات أوناسيس وماريّا كالاس لأول مرة مؤذنة ببداية إحدى أشهر قصص العشق، ومن وراء نوافذه المطلّة على البحيرة وصف مارسيل بروست رنين الأجراس الحزينة عندما كان يبحث عن الزمن الضائع.

وننطلق من هذا البهو صعوداً إلى مطعم «الشرفة» الذي يطلّ على أجمل المناظر، ويقدّم أشهى المأكولات في البندقيّة على الإطلاق. ومن وراء موائده التي تشرف على ميدان المياه الفسيح الذي يمتدّ حتى مشارف جزيرة «سان جيورجيو»، تبدأ بترتيب زياراتك إلى المعالم القريبة التي تختصر هذا الجمال الكثيف: ساحة القديس مرقص والكاتدرائية، والقصر الدوقي، وجسر التنهّدات، ومقهى «فلوريان»، فيما تتذوّق أطايب الأطباق التي تجمع بين نكهات الغرب والشرق، كما كان يفعل أمراء جمهورية البندقية الذين أرسلوا الرحالة الشهير «ماركو بولو»، ومولوا بعثاته إلى الصين.

ودعك من كل ما قرأته في الكتب والمنشورات السياحية عن ساحة القديس مرقص والكاتدرائية التي تحمل اسمه، وادخلها من جهة البحيرة مع خيوط الفجر الأولى المنسدلة على القباب البيزنطية، قبل أن تتهافت عليها جحافل الزوار، وتذكر ما يلي: إن هذه الكاتدرائية بُنيت ليرقد فيها رفات القديس مرقص الذي خطفه الصليبيون من مقبرة الإسكندرية إبان الحملة الرابعة؛ وإن الخيول البرونزية الأربعة الرابضة على مدخلها هي أيضاً الشرق، لكن ما تراه هو نسخة عنها طبق الأصل من المحفوظ في متحف الكاتدرائية؛ وإن غابة الأعمدة الرخامية التي يرتفع عليها بنيانها لا تضاهيها سوى تلك التي يقوم عليها مسجد قرطبة الكبير. وعندما تقف مشدوهاً تحت الفسيفساء الذهبية المذهلة التي ترصع سقفها، تذكر أنها قبل أن تصبح كاتدرائية جمهورية البحار كانت المصلى الخاص لأمير المدينة الذي أراد من خلاله أن يبهر أوروبا والعالم.

وتفصل خطوات معدودات الكاتدرائية عن القصر الدوقي المهيب الذي يرتفع بنيانه على مئات القناطر الغارقة في الماء، وحيث كان النبلاء والقضاة يحكمون منه الجمهورية التي بسطت نفوذها على البحار وطرق التجارة المعروفة في ذلك الوقت. تجول في ردهاته وقاعاته الفسيحة، وتدرج على سلالم المرمر التي تبدو بلا نهاية، ثم توقف أمام الجدران والسقوف المكسوة بورق الذهب الخالص في قاعة المحكمة الكبرى التي كانت أيضاً ديوان أمير الجمهورية (Doge) وكبير قضاتها.

وعندما تغادر هذا القصر، لتعبر إلى وسط المدينة فوق «جسر التنهدات» الشهير، تذكر أن اسمه لا يعود إلى الآهات التي يطلقها العشاق من حفافه عند المغيب، كما تقول الأسطورة الشائعة، بل إلى زفرات العذاب التي كانت تخرج من صدور المعتقلين الذين كانوا يعبرونه من قاعة المحكمة إلى السجن الذي يقع في نهايته لقضاء عقوبتهم فيه.

وتحلو بعد هذه الجولة على الجمال الكثيف، وقبل عبور البحيرة إلى الجنة الأخرى، استراحة في أجمل مقهى يمكن أن تقع العين عليه: «فلوريان» الذي تأسس في عام 1720، ويعد أقدم مقهى في إيطاليا والعالم، ومن روّاده الفيلسوف الألماني غوتيه، وأشهر العاشقين كازانوفا ابن البندقية البار، ولورد بايرون، ومارسيل بروست، وتشارلز ديكنز، ومؤخراً الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران.

المقهى موزّع على قاعات هي أقرب إلى المتاحف، لما تزخر به من رسوم ولوحات لمشاهير الفنانين: قاعة مجلس الشيوخ، والقاعة الشرقية، والقاعة الصينية، وقاعة الفصول، وقاعة المشاهير التي تزينها لوحة كبيرة للرحالة الشهير ماركو بولو، وقاعة الحرية التي أضيفت إليه في عام 1920، عندما بدأ المقهى يستضيف معرضاً للفن المعاصر كل عامين، بالتزامن مع بينال البندقية.
ليست بالأمر السهل مغادرة هذا المقهى الذي ينسيك القهوة أو الشاي والحلوى اللذيذة التي اشتهر بها، لولا أن الموعد التالي لا يقل عنه بالمغريات التي يعد بها. عليك بالجندول هذه المرة يتهادى بك فوق المياه التي تتراقص عليها أشعة الشمس الناعسة في اتجاه جزيرة الحي اليهودي القديم، حيث يقوم اليوم أحد أشهر الفنادق في البندقية والعالم: Cipriani، المحطة المفضّلة لركّاب قطار الشرق السريع (Orient Express)، ومخبأ مشاهير هوليود عندما ينزلون في البندقية. وخلال هذه الرحلة القصيرة، سيخبرك قبطان الزورق النحيل أن كازانوفا كان يعبر هذا الطريق لملاقاة عشيقاته، وأن مشاهدة غروب الشمس من تلك الجزيرة الصغيرة هي من أعلى مراتب النيرفانا. النميمة عن كازانوفا ليس هناك ما يؤكدها، أما عن الغروب فحدّث ولا حرج.

قبل الرحيل
مع اقتراب موعد الرحيل عن هذا الحلم، تترسخ لديك الرغبة في العودة، وتدرك أن الجمال ليس إلا توزيعاً للضوء حسب الشكل الذي يرضي النظر، وأن الدمعة هي اعتراف العين بعجزها عن استيعاب الضوء، بقدر ما هو إقرار العين بعدم قدرتها على الإحاطة بالجمال، فإن هذه المدينة الطالعة من الماء، الذاهبة إليه، تجعل الحياة أجمل على هذه الأرض، وتنثر الأحلام على الطرقات الآتية. هذا هو دور البندقيّة في الكون: نحن نذهب، أما هي فتبقى.

وقـــــــــــــــــــد يهمك أيـــــــــــــضًأ :

4 وجهات سياحية ساحرة عليك زيارتها عند ذهابك إلى إيطاليا

قطاع السياحة في البندقية يتأثر بسبب انتشار فيروس كورونا القاتل

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البندقية مدينة يتولّد سحرها من امتزاج الروعة مع البؤس البندقية مدينة يتولّد سحرها من امتزاج الروعة مع البؤس



إلهام شاهين تتألق بإطلالة فرعونية مستوحاه من فستان الكاهنة "كاروماما"

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 19:30 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد فراج يكشف تفاصيل مسلسله في رمضان
  مصر اليوم - محمد فراج يكشف تفاصيل مسلسله في رمضان

GMT 15:30 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025
  مصر اليوم - ميتا تعتزم إضافة الإعلانات إلى ثردز في 2025

GMT 10:24 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونان تمزج بين الحضارة العريقة والجمال الطبيعي الآسر

GMT 08:54 2024 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الهلال⁩ السعودي يتجاوز مانشستر يونايتد في تصنيف أندية العالم

GMT 20:52 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

ليوناردو دي كابريو يحتفل بعامه الـ50 بحضور النجوم

GMT 19:17 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

تامر حسني يدعم أيمن العلي ملك جمال الأردن

GMT 05:23 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

تناول المكسرات يوميًا يخفض خطر الإصابة بالخرف

GMT 18:09 2024 الإثنين ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بانكوك وجهة سياحية أوروبية تجمع بين الثقافة والترفيه

GMT 06:54 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 11 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 04:48 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

"الدعم السريع" يتحدث عن مخطط لتقسيم السودان بعد تغيير العملة

GMT 07:36 2024 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 14:15 2023 الخميس ,07 أيلول / سبتمبر

فيلم "ساير الجنة" في نادي العويس السينمائي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon