توقيت القاهرة المحلي 07:37:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

يبعثوا إلى أقرانهم من البشر الآخرين بحقيقة سياسية

فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف "لاسكو" الفرنسية

  مصر اليوم -

  مصر اليوم - فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية

كهوف "لاسكو" الفرنسية
نيويورك ـ مصر اليوم

في كهوف لاسكو الفرنسية، ومنذ نحو 17 ألف عام مضت، كان الأجداد القدامى يرسمون على جدران الكهوف أشكالاً تصور الخيول البرية، والغزلان، وجواميس البيسون، والثيران الضخمة، والقطط. وكان الغرض من تلك التصاوير أن يبعثوا إلى أقرانهم من البشر الآخرين بحقيقة سياسية حاسمة وذات أهمية بالنسبة لبقائهم على قيد الحياة: أنهم يتشاركون في بيئة المعيشة نفسها مع كائنات حية أخرى تبدو أنها تتخذ سلوكيات مختلفة عنهم كل الاختلاف.

وكان هؤلاء الفنانون القدامى يواصلون رسم هذه التصاوير وتلك الكائنات مراراً وتكراراً، ومن المحتمل أنهم كانوا معجبين بقوتها ومفتونين بأشكالها المختلفة، بيد أنهم كانوا يتصورون - بطريقة أو بأخرى - أن كل ما سوف يحل أو يحدث لتلك الكائنات والحيوانات من حولهم سوف يلحق بهم في نهاية المطاف. كان وجود جواميس البيسون والغزلان البرية في لياقتها البدنية الفائقة، وأعدادها الكبيرة، وهجراتها الجماعية المتكررة، من السلوكيات التي تشير بالإجمال إلى بدء ظهور الأوبئة أو تغيرات الطقس ذات الطبيعة الكارثية.

تحتوي الكهوف الموجودة في جنوب غربي فرنسا على نحو 15 ألف صورة ونقش ترجع في أغلبها إلى العصر الحجري القديم الأول؛ إذ لم تكن تلك الكهوف العتيقة تمثل مجرد مساحة مفتوحة لعرض المواهب الفنية المحلية القديمة بحال، بيد أنها كانت تشكل بالأساس ما يشبه الميدان العام الذي يتقاسم المجتمع المحلي من خلاله جملة من المعارف الحيوية.

ومن المهم في السياق ذاته الإشارة إلى أن هذه التصاوير الكهفية العتيقة والقصص المتنوعة التي تتلوها لا تختلف كثيراً عن المنتديات الفنية التي نشهدها في العصر الحديث؛ ونقصد بذلك فنون الشارع التي تزين واجهات المتاجر والمحال في مدينة نيويورك راهناً؛ إذ إنها تسرد لنا قصة واقعية تدور حول الحقائق السياسية الراهنة المشتركة، وعن الأشخاص الذين نعيش ونتعايش معهم ضمن المجال الاجتماعي نفسه، فضلاً عن الأنماط والأساليب التي تتمازج وتتقاطع من خلالها مختلف قصصنا المتنوعة ومصائرنا المختلفة. إذا نزلت للمشي في شوارع سوهو، أو أزقة الجانب الشرقي السفلي من مدينة نيويورك، وعبرت من خلال الطرق المزدحمة بالبشر والسيارات في بروكلين، تماماً كما كنت أفعل في الأسابيع القليلة الماضية، فسوف تشاهد كثيراً من هذه الرموز، والإشارات، والعلامات، والتي ربما تدفعك إلى التساؤل عن فحواها والغرض الحقيقي من وجودها. غير أن الأمر الذي صار جلياً للغاية من وجهة نظري هو أنه عبر الألفيات التي تفصل بين تصاوير الكهوف العتيقة ومقتل الضحية جورج فلويد، كانت الرسائل التي نشترك في البعث بها ونتشاركها فيما بيننا - والتي تعكس مختلف الظروف الاجتماعية والخلفيات السياسية من ورائها - قد باتت أكثراً تعقيداً.

يضع فنانو الشوارع في المدن الحديثة اليوم في حسبانهم الحصانة القانونية المؤهلة التي تفرض الحماية الخاصة على ضباط الشرطة، كما يعتبرون كذلك بمجريات حركة «حياة السود مهمة»، والتداعيات الخطيرة التي يفرضها واقع الديمقراطية المختل - من بين حقائق أخرى مشهودة - وذلك باستخدام لغة بصرية تصويرية متقدمة من السلوكيات الثقافية المتناقلة والتي تعكس في وضوح جمّ إشكالات المعارك الآيديولوجية بين ما هو إقليمي، وعرقي، وثقافي، عبر مختلف الكينونات المجتمعية المختلفة.

عندما نطالع صورة لكائنات رفيعة للغاية وذات بشرة خضراء داكنة ترتكز على أقدام طويلة مع فتحات طولية ضيقة لعدسات العيون، فإن أول ما تترجمه أذهاننا أننا ننظر إلى كائن فضائي خيالي. ولكن عند النظر إلى صورة لمثل الكائن نفسه وهو يرفع لافتة مكتوباً عليها: «لا أستطيع التنفس!»، فإن العقل يترجم رسالة ذات معنى مختلف تماماً، وفحواها: حتى الكائنات الفضائية الخيالية التي من المفترض أنها تقوم بزيارة كوكبنا على مسافات كونية بعيدة للغاية تُقدر بالسنوات الضوئية الهائلة، يدركون محنة المواطنين الملونين في الولايات المتحدة الأميركية، مما يشير إلى أن الأوضاع الراهنة صارت أفظع من القدرة على التحمل.

تحتوي تصاوير الشوارع في الآونة الراهنة على كثير من الرسائل واسعة الانتشار في مختلف أنحاء المدينة، وهي تعكس مشاعر شخصية المدينة المتسمة بالتعاطف، والغضب، والتحدي، والاحتجاج، وربما اليأس الشديد. وهناك أمران مهمان للغاية لا بد من ملاحظتهما بشأن تلك الرسوم والتصاوير: أنها تختلف تماماً عن الكتابة المعهودة على الجدران، والتي تتسم بالتمحور حول الذات والرتابة الممجوجة في وجهة نظري، وأنها تجسد التماثل المادي لشخصية الكاتب مع كل تكرار للعبارات نفسها على مختلف الجدران، والتي يجبرك من خلالها على الاعتقاد بوجوده ووجوب رؤيته. هذا ما تفرضه الرسالة... ليس أكثر!

أما فنانو الشوارع، فإنهم يحاولون عبر التصاوير الإشارة إلى ما وراء «الأنا» والمضي بنا قدماً إلى القضايا الجماعية ذات المجال الأوسع. ومن النقاط المهمة الأخرى أن هذه الرسوم والتصاوير، التي تأتي من الطباشير، أو الطلاء، أو الزيوت الملونة، آنيّة الوجود وسريعة الزوال. فما بين الوقت الذي سرت فيه بين شوارع هذه المناطق وبين تنبيه المصور الصحافي لأن يلتقط الصور ويوثقها كانت هناك 5 صور قد تلاشت بالفعل. وكان أحدها عبارة عن تصوير للسيدة مارشا بي. جونسون المدافعة النشطة للغاية، والتي كانت صورتها مرسومة بالطباشير على أحد الأرصفة في مدينة الخيام المؤقتة بالقرب من شارع تشامبرز قبل بضعة أسابيع مضت. ولقد فرضت قوات الشرطة إخلاء المكان تماماً من شاغليه منذ ذلك الحين.

وعلى العكس تماماً من تصاوير كهوف لاسكو الفرنسية القديمة - وهي المدرجة على قوائم مواقع التراث العالمي لدى منظمة اليونيسكو - فإن أغلب رسومات وتصاوير الشوارع في العصر الحديث لن تخضع لأي قدر من التوثيق أو الحماية أو التحول إلى مختارات ثقافية تعكس واقع الحياة المعاصرة، رغم وجوب ذلك لأهميته. إن الرسائل اللغوية والصور المشفرة المنقولة عبر هذه الواجهات الحديثة المصنوعة من الخشب الرقائقي تعبر عن الوسائل التي سوف يدرك بواسطتها المؤرخون والباحثون في المستقبل طبيعة زمننا المعاصر من أجل أن يتمكنوا من منح جيلنا اسماً مناسباً يستحقه.

هناك في شارع ووستر نجد عملاً فنياً تعاونياً غير مخطط له مسبقاً بين كل من «إيرين كو»، و«جاستن أورفيس ستايمر»، و«إي آر إكس»، و«هيليكس سي. أرماغيدون» يقول: «تكمن الحكمة في - عدم رؤية الأشياء وإنما - الرؤية من خلال الأشياء». وهذا مما يذكرنا بأنه يتعين على أولئك الذين يعيشون في هذه الأيام الراهنة - إن أرادوا حقاً البقاء على قيد الحياة - أن يتحلوا بالفراسة التي تمكنهم من قراءة ما حولهم من لافتات وعلامات تبعث بكثير من الرسائل والإشارات التي ينقلها إليهم فنانو الشوارع، والصحافيون المخضرمون، ومختلف المصادر الرقمية الحديثة، فضلاً عن وسائل الإعلام التقليدية القديمة. ويشير الأمر إلى حاجة ماسة لأن ندرك قراءة هذه الرسائل والإشارات بصورة عقلانية ونقدية مع تفادي السقوط المدوي في هاويات نظريات المؤامرة السخيفة.

من جهة أخرى، تقدم لنا تلك الرسمة التي تصور القبضة المرتفعة إلى عنان السماء من قبل ديفيد هوليير في «الجادة الرابعة» من حي بروكلين، رسالة ذات تيمة عالمية من طرف فريدريك دوغلاس تتمحور حول أميركا المولودة من جديد؛ تلك التي لا يتسع فيها المجال ولا تسود فيها مطلقاً ثقافات الجشع والآيديولوجيات العنصرية. في حين أنها تعلن في وضوح كبير أنه «ليست هناك جنسية للابتسامات أو للدموع، والفرح والأسى يتحدثان بلغة واحدة تفهمها كل الشعوب، وأنها تبعث برسالة الأخوة البشرية قبل أن تتشابك ثم تتفرع الألسنة واللغات في كل مجال وسبيل».

إننا نميل على الدوام إلى تناول وتفهم المشاق والصعوبات البشرية من خلال عدسات مفعمة بالاختلاف العرقي، والجنساني، والقومي. وتأتي هذه الرسائل والإشارات كمثل المنارة الضوئية التي تنير الكهف العتيق الذي هجره الناس منذ عهود سحيقة وما عاد يقترب من بوابته إنسان.

أخيراً؛ هناك لوحة جدارية ذات تفريعات متشعبة، وهي تحمل اسم «التناقض الحزين»، وموجودة في شارع ميرسير بمنطقة سوهو، وهي جدارية تصور «تمثال الحرية» المفعم بالدموع. وتلك الصورة؛ التي جرى تنفيذها باستخدام الألوان ذات الطبيعة التعبيرية الواضحة، هي من أعمال الفنان كاليشو أريفالو برفقة الفنان جيف روز كينغ. وأحد وجوه الصورة يعكس امرأة من السكان الأصليين في البلاد وهي ترتدي غطاء للرأس مصمماً ليعكس صورة إحدى آلهة الرومان القدامى ذات التيجان. وتحدق الصورة الجدارية في مواجهة المشاهد في استفزاز واضح للغاية، ولعلها تحاول أن تطرح سؤالاً رئيسياً مفاده: كيف سترانا؟ وماذا سنعني بالنسبة إليك؟

قد يهمك أيضا :

توصيات مهمة للملتقى العاشر لاقتصاديات المناجم والمحاجر في الوطن العربي

  نشطاء مكافحة تغيّر المناخ يتظاهرون أمام منجم فحم في ألمانيا

egypttoday
egypttoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية فنانو الرصيف في نيويورك ورثة رسامي كهوف لاسكو الفرنسية



الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 07:41 2024 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه
  مصر اليوم - ترامب يعلن عزمه على استعادة تطبيق عقوبة الإعدام فور تنصيبه

GMT 09:43 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

GMT 05:12 2024 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

تصريح عاجل من بلينكن بشأن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة

GMT 09:08 2018 السبت ,24 آذار/ مارس

لعبة Sea of Thieves تتوافر مجانا مع جهاز Xbox One X

GMT 08:25 2024 الثلاثاء ,10 كانون الأول / ديسمبر

طائرة "مناحم بيغن" تتحول لفندق ومطعم

GMT 21:48 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

بالميراس يقترب من التعاقد مع دييجو كوستا

GMT 18:37 2020 الثلاثاء ,29 كانون الأول / ديسمبر

شركات المحمول تتجه لرفع أسعار الخدمات خلال 3 شهور

GMT 08:43 2020 الأحد ,20 كانون الأول / ديسمبر

منظمة الصحة في ورطة بسبب "التقرير المفقود" بشأن "كورونا"

GMT 07:47 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

تطورات جديدة في واقعة الاغتصاب الجماعي لفتاة داخل فندق

GMT 00:41 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

عمر ربيع ياسين يكشف آخر كواليس معسكر منتخب مصر

GMT 12:05 2020 الجمعة ,04 كانون الأول / ديسمبر

فيفا عبر إنستجرام يبرز نجوم مصر محليا وقاريا

GMT 07:41 2020 الخميس ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

أسعار الفاكهة في مصر اليوم الخميس 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2020
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon