بيروت ـ مصر اليوم
باتت الجدارية الكبيرة التي تزين واجهة أحد المباني في شارع الحمرا البيروتي ، تجذب جميع المارة والعابرين منه؛ حيث يطل وجه الأديبة إميلي نصر الله وإلى جانبها الرسامة التشكيلية هوغيت كالان، وكلتاهما في سن متقدمة، وقد غزت وجهيهما التجاعيد. إضافة إلى الموقع الذي اختير بعناية لإنجاز العمل، هناك مهارة الرسامة رولا عبدو التي قامت بالأبحاث وصممت ورسمت ولوّنت في ظروف صعبة للغاية، حتى بدا أنّ قصة إتمام الجدارية هي وحدها حكاية تستحق أن تُروى.وبدأت رولا تنفيذ مشروعها في الرابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الفائت، وفي السابع عشر منه بدأت بالتلوين؛ وفي هذا اليوم تحديداً، وبعد أن أنهت يومها ووصلت إلى البيت، علمت أنّ المظاهرات عمّت شوارع بيروت، وأنّ الطرقات قد أُغلقت. بدأت الثورة وتعطل الشّغل الذي كان يُفترض أن ينتهي في غضون سبعة أيام.
عادت الفنانة بعد توقف قسري، إلى شارع الحمرا، في عزّ الاحتجاجات لتنهي جداريتها، واقفة على الرافعة التي أصرّت على أن تتحكم بحركتها بنفسها، كي تكون الدقة حليفتها، وهي تختار الزاوية التي تعمل عليها.لم يكن كل ذلك سهلاً، لكنّ الرافعة المستأجرة تنتظر، والالتزام يجب أن يُحترم، والمشروع يفترض أن يُنجز. هكذا أنهت رسمها لجداريتها في نوفمبر (تشرين الثاني) بعد أن عاونتها في التلوين زميلتها ماري شماس، لكنّ الافتتاح لم يتم بسبب الأوضاع السّائدة.
وقبل أن تهدأ الأحوال جاء «كورونا» برعبه، وحجره، وانكفاء الناس عن الشوارع. لم يُكتب لهذه الجدارية افتتاحاً تحضره ابنتا إميلي نصر الله اللتان كانتا متعاونتين جداً ومتحمستين، ولا أقرباء التشكيلية هوغيت كالان، وتم الإطلاق مؤخراً، عبر نشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي، كما هي حال كل الأنشطة الثقافية.الجدارية الجديدة رُسمت على إحدى واجهات المبنى الذي تزين قبل أربع سنوات بجدارية يزن حلواني للفنانة صباح، وكان يضمّ في ستينات القرن الماضي، مقهى الـ«هورس شو» التاريخي الذي شكّل مكاناً لالتقاء الأدباء والفنانين، وأصبح اليوم مقهى عادياً معولماً.
هذا لا يغيّر من الأمر شيئاً، فما فعلته رولا بتمويل من «وومن ديليفر» الأميركية ودعم من شركة «آرت أوف تشينج» اللبنانية، يأتي في إطار مشروع تشارك فيه مجموعة من الهيئات والجمعيات اللبنانية لإبراز دور المرأة وفاعليتها في المجتمع.
وتقول عبدو لـ«الشرق الأوسط»: «حين قمت بأبحاثي لاختيار سيدات أرسمهن، اكتشفت أنّ الكثيرات جداً، لعبن أدوراً تستحق الاحتفاء بها، والتذكير بأهميتها. لم يكن سهلاً اختيار شخصية أو اثنتين فقط من بينهن، تمنّيت لو أجمعهن كلهن في جدارية. أسماء عديدة ومسارات مغرية لنساء قمن بما لم ننتبه إليه، لكنّني في النهاية قرّرت اختيار اسمين معاصرين، إميلي نصر الله وهوغيت كالان، لأنّهما ليستا معروفتين بالقدر الكافي، رغم أهميتهما، وقد رحلتا من وقت قريب، وإنجازاتهما تجب الإضاءة عليها. وقد وضعت اسميهما إلى جانب توقيعي، كي يتعرف المارة على السيدتين الكبيرتين».
الجدارية بطول 25 متراً وعرض 8 أمتار، يطلّ منها وجه هوغيت الخوري كالان، ابنة بشارة الخوري الرئيس الأول للجمهورية اللبنانية، ذات المسار الفني الاستثنائي التي بيعت أعمالها بمزادات كريستيز وسوذبيز، وعُرضت في أكبر المتاحف، وتوفيت في أميركا في سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، وبقيت مغمورة في لبنان.
وإلى جانبها نرى وجه إميلي نصر الله الأديبة الرحبة المتسامحة، التي عرف نصوصها التلامذة اللبنانيون في المدارس، وبقيت ريفية في كتاباتها، محبة للطبيعة بروحها، وغادرتنا قبل سنتين. الوجهان بالأبيض والأسود، وهوغيت تحمل بيدها زهرة، لكنّ الملابس والأيدي المتشابكة التي تزنّر أسفل اللوحة لُوِّنت بحيث تعطي بهجة وفرحاً. وفي أعلى الجدارية نلمح فتاة صغيرة، تعلو الوجهين تحاول أن ترسم الشّمس، وكأنّما بهاتين السيدتين تنظر إلى إشراقة مستقبلها.
الفنانة رولا عبدو، هي من فناني الثورة الذين أسهموا في إشعال الورشة التشكيلية المواكبة للاحتجاجات. كانت تترك جداريتها هذه لتذهب وتُسهم مع فنانين آخرين في الأنشطة المواكبة للمظاهرات. وهي ترى أنّ جداريتها جزء من صوت الناس، ونبض النساء اللواتي أشعلن جذوة الحرية في النفوس، سواء كالان التي التزمت بالحياة التقليدية طوال أربعين عاماً، لكنّها لم تنسَ صوتها الدّاخلي. وقرّرت بعد أن عنيت بوالديها حتى وفاتهما، أن تترك أولادها وزوجها، وتذهب بعيداً إلى باريس ومن ثمّ نيويورك لاصطياد حلمها بالانعتاق والرّسم والنّحت واستنطاق الحركة واللون، وكان لها ما أرادت.إميلي نصر الله مسار آخر، أكثر محافظة، لكنّها مثابرة من الصنف الأول، بقي القلم في يدها حتى أصبح من الصّعب أن تلتقطه وتكتب. قالت ما تريد بهدوئها المعهود، لكنّها لم تسكت أبداً. اختارت الفنانة أن يكون الوجهان ناضجين وقد تقدّما في السن.
وكان يمكن لها أن ترسمهما شابتين صغيرتين، لكنّ خيارها جاء موفقاً بإطلالتين حفرت فيهما الأيام غضونها والتجارب.تتحدث عبدو، عن دور الفن في نشر الفرح. وعن سعادتها بإنجاز أحد أهم مشاريعها الفنية، من خلال هذه الجدارية التي كانت تتمنّى لو تحتفل بافتتاحها مع كل معنيّ بحقوق النساء ودورهن، والدّفع بهنّ إلى الأمام، لكنّ هذا الافتتاح الكبير، تأجّل كثيراً، ولا يبدو أنّ الظّروف ستتحسن بسرعة، واللبنانيون بحاجة لشيء من الأمل، وليس من فرح أكبر من بهجة الإبداع والجمال
قد يهمك ايضا
علماء الآثار الألمان يكتشفون قصر "الإمبراطورية الغامضة" في العراق
مؤتمر في بلجراد عن الحضارة المصرية بالتعاون مع مركز الثقافة العربية
أرسل تعليقك