حضور لا يطويه الزمان، وحالة مركزية في القصيدة العربية تبقى مؤثرة وفاعلة في المشهد، حتى بعد 13 عاما مرت منذ رحيل صاحبها عن دنيانا، لا يحتاج “محمود درويش” كثيرا إلى مناسبة ما أو حدث لاستدعائه، لأن حضوره مازال ممتدا لم تؤثر عليه كثيرا سنوات الغياب، نستعيد أبرز محطات الشاعر الفلسطيني “محمود درويش” في الذكرى الـ13 لرحيله عن دنيانا.
ولد “درويش” في 13 مارس من عام 1941م، ليصنع صفحة مجيدة في تاريخ الشعر والثقافة العربية، بدأت مع خروجه إلى النور من قرية البروة، القرية الفلسطينية التي تقع في الجليل، قرب ساحل عكا، والتي خلد الوليد الجديد في ذلك اليوم اسمها طوال ثمانية عقود ماضية.
خروج أسرة “درويش” مبكرا بعيدا عن ويلات الصهاينة برفقة اللاجئين الفلسطينيين في عام 1948 بعد النكبة إلى لبنان، ثم عودتها عام 1949 بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، وضعت بصماتها على طفولة درويش قبل حتى أن يتجاوز العاشرة من عمره.
وطوال 67 عاما قضاها الشاعر الفلسطيني الكبير في دنيانا، حتى وفاته في مثل هذا اليوم 9 أغسطس من عام 2008م، في أحد مستشفيات ولاية تكساس الأمريكية، تبدو محاولة استحضار الحديث عن منجزه الأدبي والثقافي والإنساني في ذكراه، مجرد جزء من حديث متصل لا ينقطع على المقاهي وفي الشوارع وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، في الشعر وفي السياسة وفي الأدب وفي الحب، يكون فيه درويش حاضرا بكلماته، سواء كانت هناك مناسبة للاستدعاء أو لم تكن هناك مناسبة.
أنتج ” محمود درويش ” خلال تلك الرحلة ما يزيد على 30 ديوان شعر ونثر، و8 كتب فقط، إلا أن تأثير شاعر فلسطين، وسيرته العطرة، تجعل محرك البحث الأشهر عبر الويب جوجل، يشير لتكرار اسمه ما يقرب من 10 ملايين مرة باللغة العربية فقط، وهو رقم يشكل 10 أضعاف ذكر شخصية بعظمة نيلسون مانديلا على سبيل المثال، فكيف صنع الأسطورة الفلسطينية كل هذا الوهج!.
“درويش” العابر للأزمنة، انشغل إنسانيا بالقضية الفلسطينية، حتى أصبح شاعرها الأول، وهي قضية مرتبطة بالزمن الذي نعيش فيه، إلا أن كتابات درويش تصلح سفيرا للحب في كل زمان ومكان، وليس هناك أدل على ذلك من كلماته التي تزين رسائل المحبين عبر شبكات التواصل أكثر من أي شاعر معاصر، مع أن تلك الوسائل لم يعرفها العالم إلا بعد رحيله.
اعتُقِل محمود درويش من قبل السلطات الإسرائيلية عدة مرات، منذ أن بلغ عمره 20 عاما فقط، في عام 1961م، وكانت تهمته الدائمة تتعلق بتصريحاته ونشاطه السياسي.
توجه درويش إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة، وفي بدايات السبعينيات انتقل لاجئًا إلى القاهرة، حيث التحق بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم انضم لكتيبة العمل بمجلة المصور عن مؤسسة دار الهلال، ثم قام الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير بتعيينه في مؤسسة الأهرام، بمركز الدراسات الفلسطينية، الذي كان النواة الرئيسية لقيام مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية فيما بعد.
في لبنان عمل “درويش” في مؤسسات النشر والدراسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما استقال من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، احتجاجًا على اتفاقية أوسلو.
الدور الأكبر في اكتشاف محمود درويش شاعرا كبيرا، كان على يد الشاعر والفيلسوف اللبناني روبير غانم، عندما بدأ “غانم” نشر قصائد لمحمود درويش على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار التي كان يترأس تحريرها.
أقرب أصدقاء محمود درويش في الوسط الثقافي من الشعراء العرب، كان الشاعر السوداني محمد الفيتوري، والشاعر السوري نزار قباني، وفالح الحجية من العراق، ورعد بندر من العراق، و سليم بركات من سوريا.
عندما عينه محمد حسنين هيكل في نادي كُتّاب الأهرام، تشارك مع نجيب محفوظ ويوسف إدريس وعائشة عبدالرحمن في مكتب واحد، وبجانبهم الكبير توفيق الحكيم في مكتبٍ منفرد، فنشأت بينه وبينهم صداقة قوية، لتشكل القاهرة واحدة من أهم محطات حياته وتجربته الشعرية، حيث صادق صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل والأبنودي.
حصد محمود درويش عشرات الجوائز طوال حياته الحافلة، من أبرزها جائزة البحر المتوسط 1980م، ودرع الثورة الفلسطينية 1981م، ولوحة أوروبا للشعر 1981م، وجائزة الآداب من وزارة الثقافة الفرنسية 1997م، وغيرها.
تزوج محمود دوريش مرتين، الأولى من الكاتبة رنا قباني ولكنهما انفصلا، ثم تزوج مرة ثانية في منتصف الثمانينيات من المترجمة المصرية “حياة هيني”، ولم يرزق محمود درويش بأبناء.
عاش درويش حياته متنقلا ما بين البروة الفلسطينية، ثم إلى بيروت، وبعدها موسكو، ثم ذهب ليعيش في القاهرة، ومنها إلى بيروت، ثم تونس وباريس، قبل أن يعود ليعيش أواخر حياته في مدينة عمان الأردنية، ثم رام الله الفلسطينية.
رحل شاعر فلسطين الكبير عن دنيانا، يوم السبت 9 أغسطس 2008م، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد إجرائه عملية القلب المفتوح في مركز تكساس الطبي، دخل “درويش” بعد إجراء تلك الجراحة في غيبوبة أدت إلى وفاته، وأعلن الرئيس الفلسطيني “محمود عباس” الحداد ثلاثة أيام في كافة الأراضي الفلسطينية حزنًا على وفاة “عاشق فلسطين” و”رائد المشروع الثقافي الحديث”، و”القائد الوطني اللامع والمعطاء” كما وصفه “عباس”، دفن جثمان “محمود درويش” في يوم 13 أغسطس في مدينة رام الله، وتم تخصيص قطعة أرض لانشاء قصر رام الله الثقافي، الذي تمت تسميته “قصر محمود درويش للثقافة”.
يقول الناقد الفلسطيني “حسين حمزة”: “أهم ما يميز درويش أننا كفلسطينيين اختلفنا في خياراتنا الوطنية ولكننا لم نختلف فيه، وهناك إجماع حول هذه القامة الشعرية الشامخة، وباعتقادي أن النقاد سيختلفون في تأويل سطر شعري تركه درويش بعد ألف عام”.
الكاتب الإسباني “خوان جويتيسولو” يصف درويش بأن تاريخه الشخصي يرمز إلى تاريخ قومه، يقول الكاتب الإسباني: “استطاع محمود درويش تطوير هموم شعرية جميلة مؤثرة احتلت فيها فلسطين موقعاً مركزياً، فكان شعره التزاماً بالكلمة الجوهرية الدقيقة، وليس شعراً نضالياً أو دعوياً، هكذا تمكن درويش شأنه في ذلك شأن الشعراء الحقيقيين من ابتكار واقع لفظي يرسخ في ذهن القارئ باستقلال تام عن الموضوع أو الباعث الذي أحدثه”.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
صدور ديوان "ملاك على هيئة رصاصة" للشاعرة اللبنانية ماري جليل
دراسة لعمار علي حسن بالألمانية حول "إصلاح التصور الإسلامي"
أرسل تعليقك