اختارت دار الشعر بمراكش، ضمن برمجتها الشعرية والثقافية للموسم الجديد، أن تنظم تظاهرة شعرية ونقدية ومعرفية جديدة ضمن فقرة ندوات وسمتها ب"محاورات". الأكاديمي والناقد سعيد يقطين افتتح هذه اللحظة المعرفية، في محطتها الأولى، بمقر دار الشعر مراكش، الجمعة 25 فبراير، واختارت الدار أن يكون محور اللقاء "النص التفاعلي.. الشعر ورهانات الرقمنة"، ضمن فقرة ندوات، والتي حرصت دار الشعر بمراكش أن تستقصي من خلالها قضايا وأسئلة تتعلق براهن الخطاب الشعري، وتعالقات الشعري والجمالي والرقمي.
وافتتح الأكاديمي والناقد سعيد يقطين تظاهرة "محاورات"، عبر استقصاء لموضوع "النص التفاعلي الشعر ورهانات الرقمنة"، كأحد القضايا المركزية اليوم في خطابنا النقدي. ولعل اختيار الدار لأحد إشراقات مشهدنا النقدي المغربي والعربي، نابع من التراكم الذي حققه الناقد سعيد يقطين، ضمن مساره البحثي في رصد علاقة الأدب بالثورة التكنولوجية وما خلفته من أثر على بنية وهوية الأدب نفسه. سعيد يقطين تجربة نقدية وأكاديمية ومسار طويل من البحث، ولعل الكثير من الأسئلة والقضايا التي ترتبط بموضوع الأدب وعلاقته بالرقمنة، يدين بهذا الأثر الفياض للباحث المرموق، مما جعله مرجعا أساسيا في ثقافتنا العربية.
لقد سبق للناقد الدكتور سعيد يقطين، أن أصدر كتابا وسمه ب"النص المترابط ومستقبل الثقافة العربية نحو كتابة عربية رقمية" (2008)، وهو استكمال لمشروع بحث انطلق ب "من النص الى النص المترابط، من أجل نظرية للإبداع التفاعلي" (2005)، ليواصل من خلاله، الباحث الألمعي دراساته الرصينة التي انطلقت بتحليل الخطاب الروائي، محللا النظريات السردية، بتركيز على تحليل النصوص (القراءة والتجربة، تحليل الخطاب الروائي، انفتاح النص الروائي، الرواية والتراث السردي، ذخيرة العجائب العربية، الأدب والمؤسسة والسلطة، قضايا الرواية العربية،...). انتقال واعي من المناهج النقدية الحديثة، المتعلقة بالسرد، الى الكتابة الرقمية والأدب الرقمي، من خلال مرجعيات معرفية. دينامية نقدية لافتة، وانشغال عميق بتنويع طرق الاشتغال، انطلاقا من المعطى النصي وإدراكا لخصوصيته وطبيعته، في أفق استقراء لجماليات هذا الإبداع التفاعلي.
أمام هذه الرؤية الجديدة للفكر والثقافة، في محاولة تجاوز قصورنا في استيعاب هذه التطورات الرقمية المتواصلة وأيضا لتجاوز التباسات المفاهيم التي يطرحها الإبداع الرقمي، ولعل مفاهيم، من قبيل "الترابط النصي والوسائط المتفاعلة والمتعاليات النصية..." وغيرها، يجعل من لحظة التفاعل الممكنة لحظة للانتقال الى مستويات التأويل الأشمل. وارتباطا بالشعر، فإن المزاوجة التي يقترحها الناقد سعيد يقطين، أحد أبرز منظري الكتابة الرقمية والنص المترابط في العالم العربي، ما بين الإلقاء الشعري والتشكيل البصري، في لحظة مزاوجة خلاقة، تمكن هذه الوسائط المتفاعلة من اختزال حقب شعرية بأكملها (النص الرقمي المركب).
وتتغيا تظاهرة "محاورات"، تحيين نوع من الجدل والنقاش العلمي الرصين، لإعطاء روح جديدة لخطابنا النقدي في انفتاحه على أسئلة وقضايا تهم راهن الشعر والأدب والثقافة. وضمن هذه الاستراتيجية، التي أطلقتها دار الشعر بمراكش منذ التأسيس (2017) بموجب بروتوكول تعاون بين وزارة الثقافة والاتصال بالمملكة المغربية ودائرة الثقافة بحكومة الشارقة، في محاولتها لملمة الكثير من الأسئلة والقضايا التي تهم الخطاب الشعري المغربي والعربي والكوني، وأيضا مسوغات هذه الأسئلة، ضمن شبكة تقاطعاتها، مع الكثير من الأسئلة المركزية التي تهم الأدب والثقافة والفنون.
واستقصت هذه اللحظة المعرفية، ضمن ثلاث محطات أساسية، مناقشة وتحديد بعض المفاهيم المرتبطة بموضوع الندوة: النص التفاعلي، النص الترابطي، النص الالكتروني، النص الشبكي، ... وعلاقة الأدب والرقمنة، النص الشعري والرقمنة. متواليات من المفاهيم والمصطلحات، سعى الباحث، سعيد يقطين، تحديد خلفياتهما النظرية ومرجعياتهما وتحديد تداولهما. المحطة الثانية، في هذه التظاهرة العلمية، سعت الى مقاربة هذه العلاقة بين النص الشعري والرقمنة، والانتقال الى مستويات الأدبية والرقمية وتحديد خاصياتهما، وكيفية تحققها، الى جانب مستويات التلقي من خلال التفاعل الذي يحدث. المحطة الثالثة، وهي مستويات التركيب من خلال مايطرحه موضوع الشعر ورهانات الرقمنة، على مستقبل النص الشعري وتداوله، وعلى انتقاله الى بنيات وخصائص النص التفاعلي، والى أي حد نستطيع تحديد هذه التفاعلية وانفتاحها وقدرتها على إخصاب أفق النص.
محاورات سعيد يقطين: لحظة معرفية لإخصاب الأسئلة النقدية
واستهل الناقد سعيد يقطين مداخلته بالتأكيد، أن فقرة "محاورات" لدار الشعر بمراكش تأتي في سياق أمسى الحوار والسجال والنقاش ضروريا بعد الجائحة، كي يتسنى للإنسانية تجاوز هذه اللحظات العصيبة، متمنيا أن تشكل هذه المبادرة فضاء لائقا لخلق سياقات للتحاور والتفاعل، وتجاوز كل المعيقات التي تقف أمام تطورنا.. وأكد أن المحور الأول، المتعلق بالتحديد المفاهيمي، مهم جدا بحكم سيادة فوضى وتسيب، لا حد لهما. وللجواب على هذا التحديد، أنطلق الناقد يقطين من ما حققته المدرسة البنيوية، وربطها بالمفهوم الذي أعطته للنص، والتحول الذي طرأ عليه مع ظهور الثورة الرقمية والوسيط الجديد، إذ بدون هذا الربط لا يرى إمكانية لاستيعاب هذا التحول.
لقد ظهرت البنيوية في أوروبا وبفرنسا في سنوات 60 و70، وفي أواسط الثمانينيات سيظهر نص جديد أنتج في نطاق وسيط جديد هو الوسيط الرقمي. هذا النص الجديد، والذي طرح سؤالا معرفيا في كيفية التعامل معه، في ظل الثورة الرقمية. وحدد الباحث مرجعيات منظري هذا المبحث وانتماءاتهم، الى نوعين.. نوع له علاقة بالدراسات الأدبية ومنشغل بالأدب، والثاني ينتمي للفضاء المعلوماتي وصناعة البرمجيات ومن الثقافة التقنية والعلمية، على اعتبار أن الثورة الثي حدثت في الدراسات اللسانية، منها ظهرت لغة الحاسوب، وهذا الربط أساسي وخلفية مركزية للفهم.
البنيوية ليست منهجا وليست علما، بل يعتبرها الناقد سعيد يقطين إبدالا معرفيا استطاعت أن تنهي سيطرة العلوم الاجتماعية والفلسفة. لقد اتخذت الدراسات البنيوية، في مجالات الأدب، اللسانيات مجالا لها، والشكلانيون الروس قاموا بدراسة الأدب دراسة علمية من الداخل. وفهم النص الأدبي، من الداخل، هو أساس الإبدال المعرفي الجديد. إن أول رواية رقمية ظهرت سنة 1985، مستفيدة من البرمجيات الجديدة والثورة المعرفية التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، في ظل استعمال التقنيات لدراسة الوثائق. وهنا ظهر النص المترابط (نيلسون اقترحه 1965)، وتعامل مع الوثائق بطريقة منسابة، فأي نص، كيفما كان نوعه، يعتبر عقدة ولكي يحصل على عدد لا متناهي من العقد يقيم روابط بينها، ما إن تنقر على الرابط ستتحول الى روابط أخرى.
من النص الالكتروني الى النص المترابط الى النص التفاعلي
وهكذا انتقل النص من بنية الى عقد، عوض أن يكون بنية منغلقة (رواية لها بداية ولها نهاية)، بنية نجد لها عقدا تيسر عقدا متعددة المداخل ونقط الوصول. هذه الفكرة مستقاة من الدماغ البشري، فهو ليس "نظاما" خطيا يشتغل وفق مبدأ الترابط، كلما كان هناك حافز للتحويل.. وهذه الصورة، التي قدمت للنص المترابط، هي نقطة انطلاق كتاب الناقد سعيد يقطين، "من النص الى النص المترابط"، بل واعتبرها مدخلا لتغيير رؤيتنا للنص بمعناه التقليدي، أي أن النص ليس بنية متكاملة وخطية، بل هو عبارة عن شذرات. وعلى هذا الأساس، فكل ما قيل عن الشعر العربي، بأنه مفكك وليست فيه بنية عضوية، فمع النص المترابط ظهر مفهوم النص الحقيقي، والذي هو نتاج الدماغ البشري. وعند العودة للنص القرآني يحدد الناقد سعيد يقطين بأنه مجموعة عقد وآيات مترابطة، بل انتقلنا الى قراءة بنيات أي نص كيفما كان نوعه. ففي أمريكا، مايكل جويس أنتج رواية وظف فيها هذه التقنية، ضمن برنامج خاص يسمح بإنتاج عقد، حيث يصبح النص عبارة عن شذرات، كل كلمة مبرزة وعندما ننقر عليها ننتقل الى صفحة أخرى، نقرأ الرواية في تجاوز للمنطق الخطي.
إن ما يسمه الناقد يقطين بالمترابط، هو نص يركز على هذه الخاصية، لذلك يدعو الى ضرورة إعادة النظر في كتاباتنا العربية القديمة (لسان العرب مثلا)، لأن إعادة البحث في هذا التراث العربي، وفق هذه الرؤية، سيفتح لنا أفقا لكتابة عربية جديدة، علما أننا الى اليوم، توقفنا عندا محاولات لم تمكننا من إنتاج نص مترابط. وضمن تحديده لبعض المفاهيم والمصطلحات ومرجعياتها النظرية، يشير الناقد يقطين الى أنه وظف "النص الالكتروني" (سنة 2005)، وهو صيغة لا ترتقي أن تكون نصا رقميا. أما النص التفاعلي فهو مفهوم جديد، ويمكن أن نجده في النصوص القديمة. الشاعر قديما، عندما يلقي قصيدته كان هناك مجالا للتفاعل.. لكن الوسيط الرقمي، أمسى يطرح جيلا جديدا من التفاعل، إذ أمسى المتلقي (أواخر90) بإمكانه أن يعلق ويساجل.. وهو ما أتاح له إمكانات متعددة للتفاعل مع النصوص. أما النص الشبكي، فقد استعمله صاحب كتاب سيبرتيكس Cybertext، ليتبن أنه نص معقد ومركب.
هذه الروزمانة من المصطلحات، تختلف بعضهما عن بعض ولكل منها سمته الخاصة. فالنص الالكتروني يمكن أن يعين المنشغلين بمجال المخطوطات والكتب الغير المتداولة، أما النص المترابط فمازلنا في حاجة لتطوير تقنياته، ضمن اشتغال جماعي، بين المبدع والتقني، حتى يتحقق التفاعل على مستوى الإنتاج. النص الشبكي مصطلح عام، يدل على أي نص مترابط يقدم تقنيات جديدة، ليس الأساس العنصر اللغوي، بل الحركة والصوت. لقد تم الانتقال من مفهوم الأدب الى مفهوم النص المفتوح، بل حتى مفهوم الأدب أصبح أوسع مما كان. ولم يبق التمايز بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، إذ صارت الأمشاج تلتقي.
في اللحظة الثانية، من هذه المحاورات المعرفية، انتقل الناقد سعيد يقطين الى تحديد سمات الثورة الرقمية، والتي أطرها في أنها شكلت مرحلة كبيرة في تاريخ البشرية، لا تختلف عن المراحل الكبرى في التاريخ (اكتشاف الأبجدية، النار، الطباعة..)، وإذا كانت مجتمعات الأنجو أمريكية، تحديدا، قد وفرت لها الشروط فقد مكنتها في أن تساهم في سيطرتها على العالم. بل حتى المعرفة، والتي تختصر عادة في البحث عن المعلومات، أمست متوفرة.. الإبدال الجديد، بالنسبة للناقد يقطين، يتحدد في انتقالنا من المعلومة الى المعرفة، وإنتاجها يتحقق بصناعة البرمجيات، والتي تتيح إمكانيات للإنتاج والتلقي، وإلا سنظل نتساجل بعيدا عن العصر الحالي.
الإنسانيات الرقمية والشعر الرقمي والوعي الرقمي الجديد بالإبدالات المعرفية
ينوه الناقد سعيد يقطين الى أن الوسيط الرقمي الجديد، استطاع أن يخلق إنتاجا وإشكالا جديدا للتلقي، لكن السؤال هو كيف يمكننا أن نحقق الدرجة الملائمة من التفاعل بوسيط جديد علينا، كيف يمكننا أن ننقل النص الشعري من مجال تلقيه العادي ومن الورقي الى المجال الرقمي، هذا الوسيط الجديد/الأداة والذي يتميز بأنه وسيط مفتوح للبشرية جمعاء. إن سؤال الشعر ورهانات الرقمنة، والانتقال من فضاء الورقي الى الرقمي.. واقع لم نخض فيه لا تربويا ولا فلسفيا ولا اجتماعيا ولا نفسيا.. فهذا الابدال الرقمي الجديد، والواقع الجديد أوجد علوما إنسانية جديدة. لقد ظهر اختصاص جديد، هو الإنسانيات الرقمية، لا نعرف عنه شيئا، وهو اختصاص يجمع كل الاختصاصات التي ظهرت من القرن 19 الى الآن.. وهو ما يفرض علينا محاربة الأمية الرقمية، ومعرفة جديدة بالإنسانيات الرقمية الجديدة، كي نصل الى إنتاج نص شعري رقمي وخلق فضاءات لتلقيه.
مفهوم النص المترابط دفع الناقد سعيد يقطين الى إعادة النظر في النص القديم، فأي معرفة جديدة تيسر علينا تجاوز وفهم معرفة سابقة، فعندما كان الحديث عن السرقات الأدبية، ظهر مفهوم التناص فتغيرت رؤيتنا وأمسى الحديث عن التفاعل مع النصوص، وهو ما يعطي بعدا آخرا للتواصل.. بل وحتى الحركات التي نستعملها، يمكن أن تخلق بيننا تفاعلا، لأنها وليدة فعل انساني يقوم به الدماغ. وعند العودة للشعر العربي في صيرورته، والذي انتقل بموجبها من المرحلة الشفاهية الى الكتابة الى الطباعة، توقف الباحث عند اللحظات والتحولات التي مست النص الشعري، من العصر الجاهلي الى العباسي الى عصر النهضة.. ففي المرحلة الشفاهية، كان الشعر يقوم على البديهة والإيقاع والارتجال والتعبير عن ثقافة ووجدان مشترك، لذلك كان ديوان قوم فسجلوا فيه آثارهم، فلكل شاعر راو يقوم بنشر شعره وتوزيعه.
مع مرحلة الكتابة، يتساءل الناقد يقطين هل تحولت القصيدة العربية أم بقيت ذات بعد شفاهي؟ على اعتبار أن الكتابة تخلق نمطا جديدا، بل وعرفت تحولات كبرى على مستوى الموضوعات واتصالها بالعصر، بالتالي فقدت البديهة التي كانت عند الشاعر وتحولت الى الصنعة تم بعد ذلك الى التصنع (هنا يتفق الناقد يقطين مع توصيف سابق أشار إليه شوقي ضيف). لقد استفاد الشاعر من تقنيات أمست متوفرة لديه، واضحى ينتج قصيدة مختلفة. وعندما جاءت الطباعة ظهر ملتقي جديد، يمتلك ثقافة مختلفة لاسيما مع المدرسة الحديثة، وهو ما كان سببا لبروز وظيفة شخص جديد، يسمه يقطين ب"المحقق"، والذي يمتلك ذخيرة معرفية.
ضمن سيرورة التحولات التي مست بنية النص الشعري، ونمط الكتابة الشعرية، من قصيدة التفعيلة الى قصيدة النثر، طرح سؤال كيف نكتب القصيدة العربية؟ ثم كيف كنا نكتب القصيدة العربية القديمة؟ لقد سبق للناقد أن طرح ضمن كتاب الثاني عنوانا فرعيا، لم ينتبه له أحدا حينها، وسمه ب"نحو كتابة عربية جديدة". على اعتبار أن الكتابة رمز، علامة لا تختلف عن أي لغة، فكيف يمكننا أن نكتب نصا شعريا رقميا.. التجربة الشعرية المغربية، انتبهت مبكرا، للبعد البصري مع مدرسة الثقافة الجديدة (بلبداوي..)، في علاقة الشعر والتشكيل والفن البصري. لكن، رغم هذا الوعي المبكر، ظلت ثقافتنا، يشير الناقد يقطين شفوية حتى مع الانتقال الى الكتابة، إذ لازال المنحى الشفوي متحكما. لذلك يثير مسألة، تشكل مقوما أساسيا في الكتابة وجاءت مع الطباعة، وهي علامات الترقيم، والتي لم نتعود على توظيفها عكس التجربة الغربية، إذ لا يمكن قراءة نص إبداعي دون علامات التنصيص.
من هنا، يطرح الناقد يقطين أفقا استشرافيا، كيف نكتب القصيدة العمودية كتابة جديدة تراعي علامات الترقيم وتلاعب البياضات؟ وعلى عكس النص القرآني، والذي خدموه العرب أكثر من أي نص آخر، بفعل علوم القراءة والتجويد ومخارج الأصوات، تظل الكتابة مقيدة في فضاءات الصفحة، وأمسى الشاعر اليوم يلعب على البياض في الديوان. إن هذه العناصر المكونة لفضاءات النص، تمكن الشاعر الحقيقي، والذي لديه تقنية الكتابة، أن يوظف تقنيات موازية كالصوت.. هي عناصر يمكن أن تحضر في القصيدة الرقمية، إذا وفرنا لها شروطها والعدة النظرية لذلك. ومع التحليل السيميائي، أصبحت هذه الوظائف والتقنيات الموازية أساسية ويمكن تأويلها، ومع الحاسوب، والذي أعطانا إمكانيات عديدة لتغيير الخطوط والأحجام وكيف يمكن تشغيلها.
إذا وصلنا الى لحظة إبدال جديد، يدفعنا الى استنبات لأسئلة جديدة. ما الذي يريده الشاعر عندما ينشر نصه في هذا الوسيط الرقمي؟ هل لخلق فضاء جديد للتداول الشعري؟ هناك ضرورة لتجديد أسئلة الشاعر تمكنه أن يوازي بين الفضاء الورقي والرقمي.. لقد أعطت الثورة الرقمية مساحة كبيرة لتجاوز اكراهات المرحلة الشفاهية والطباعية، وهي قادرة اليوم أن تستجمع مختلف هذه الوسائط. لذلك يؤكد الناقد سعيد يقطين، أن الكتاب لن ينتهي ولا يمكن لأي وسيط أن يحل محل وسيط آخر. يمكن للثورة الرقمية أن تساعد في تجاوز إكراهات المراحل السابقة، بل هي قادرة على استجماع جميع هذه الوسائط.. إننا نعيش مرحلة تاريخية كبرى، على الأقل في التاريخ العربي الحديث. عكس مرحلتي (عصر النهضة وهزيمة 67)، لحظتان لم نستفد منهما في تغيير أسئلتنا للعثور على أجوبة جديدة.. لنستغل المرحلة الرقمية، ونبدأ من الصفر ونخلق أسئلة جديدة، ويمكننا أن نتمثل تجارب رائدة في هذا المضمار (كوريا، الصين..) استطاعوا أن ينتقلوا الى مجتمع حديث ينتج المعرفة ويفرض وجوده على العالم..
الانتقال من امتلاك الوعي الرقمي الى تفجير الخيال الرقمي..
إن الإبداع والثقافة والأدب مقومات أساسية لأي مجتمع من المجتمعات، والثقافة العربية كان فيها الأدب هو الرائد والطليعي في أي تحول عربي. واليوم، أمست الفنون هي الرأسمال الحقيقي التي تتميز به المجتمعات عن بعضها البعض، المجتمع الذي لا يهتم بأدبه لا يمكن أن يخلق التفاعل بين مكونات هذا المجتمع، لأننا حسب الناقد يقطين، نعيش مرحلة تداخل الاختصاصات لكن ضرورة أن يكون الاختصاص أولا. الثروة الرقمية، نلخصها ب السيبيرنتيك، هي نتاج عمل فرقاء علماء من اختصاصات متعددة إبان الحرب العالمية الثانية (عالم اجتماع والجندي والشاعر والموسيقي والممرض.. الخ). ظهرت السبيرنيتيقا، نتاج نظريات التواصل والفيزياء والرياضيات، نحن في أمس الحاجة لتداخل الاختصاصات.
هناك حوافز جديدة لخلق العمل الجماعي، ويعتبر الناقد يقطين أن نموذج ورشات دار الشعر بمراكش للكتابة الشعرية (للأطفال واليافعين والشباب)، نموذج خلاق لهذا الحافز. خصص الناقد يقطين الجزء الأخير ضمن مداخلاته، في اللحظة الأخير من "محاورات"، لاستقصاء محاور الثقافة الشعبية والمرقم، ومحور الإنسانيات الرقمية والتي طالب الناقد أن تكون حاضرة في الفضاء الأكاديمي المغربي، وسلطة الأدب والناشر والناقد، والعالم الرقمي وتجربة أمازون "العربية"، والثقافة الرقمية التي تعطي إمكانيات للإبداع، والتربية الرقمية كثقافة إبداعية، ونظريات التلقي وجمالياتها، الديوان الالكتروني والشعر المسموع (للمتلقي ولذوي الاحتياجات الخاصة)، رقمنة دواوين الشعر المغربي وتسجيلات قراءاتهم (مرحلة الستينيات..)، ملاءمة الخطاب الشفاهي والوسيط الرقمي، الانتقال من امتلاك الوعي الرقمي الى تفجير الخيال الرقمي..
دار الشعر بمراكش واشتغال بأسئلة الشعر وقضاياه
إن الطفرة التكنولوجية والرقمية اليوم، بما أمست تشكله من جذب وفاعلية في راهننا، وأيضا بما أفرزته من أسئلة على خطابنا النقدي جعل من لحظة "محاورات" مع الناقد سعيد يقطين، بما هي فضاء للنقاش، تظاهرة معرفية سعت من خلالها دار الشعر بمراكش، محاولة الإنصات الى بعض من مستويات التحول الذي مست بنية النص. سواء على مستويات تداوليته، انطلاقا من التطورات التي أحدثتها مرحلة الكتابة وانتهاء بالفضاء الرقمي. هذا الانتقال، مس في العمق آليات النص الإبداعي ومستويات تلقيه، خصوصا حينما تم إدماج الوسائط البصرية بحمولاتها الفنية، وأمست التشكيلات البصرية تقدم تفاعلا خلاقا يثري بالمساءلة.
محاورات، هذه التظاهرة المعرفية الجديدة لدار الشعر بمراكش، ضمن فقرات ندوات، محطة جديدة ضمن استراتيجية الدار للمساءلة والتمحيص النقدي، حول الشاعر ومنجزه الشعري، وما يفتحه من أفق إبداعي. وهي محطة ستتواصل مستقبلا، بمزيد من الانفتاح والمقاربات، سعيا للإنصات البليغ لنبض النصوص ولجغرافيات شعرنا المعاصر اليوم وللاقتراب أكثر من نبض أسئلة النقد الشعري وقضاياه المحورية. دار الشعر بمراكش، تسعى جاهدة أن يشكل الموسم الخامس من برمجتها، أفقا "ممكنا" لترسيخ قيم الشعر "المجتمعية"، وأيضا عودة "الأمل" للإنسانية وهي تتجاوز مرحلة عصيبة من تاريخها.
قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :
"زايد للكتاب" تعلن القائمة القصيرة لـ "الثقافة العربية والنشر"
الثقافة العربية والمشهد الكويتي!
أرسل تعليقك