لندن ـ وكالات
يقرأ كتاب 'زرياب.. موسيقي أندلسي، تاريخ وأسطورة' كرواية ممتعة بطلها زرياب الذي دخل ذاكرة الموسيقى العربية بعبقريته الفنية الفريدة التي امتزج فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالأسطورة، كما يؤكد المؤلف والموسيقي الفرنسي كريستيان بوشيه في كتابه الصادر مؤخرا عن دار ريفنوف للنشر.
وتكمن أهمية الكتاب في دقة وعمق المعلومات وأسلوب الكتابة التي انتهجها بوشيه بروح المتخصص في الموسيقي الأندلسية. وقد سمحت مقاربته -المدروسة بعناية- بالإحاطة بكافة التساؤلات التي ما زالت عالقة بخصوص سيرة زرياب الذاتية وهويته الحقيقية وطبيعة علاقته بالخلفاء والأمراء العرب، وعلى رأسهم هارون الرشيد، وصراعه مع أستاذه إسحاق الموصلي، فضلا عن اختلاف الباحثين بشأنه كظاهرة موسيقية وحضارية عربية.والمؤلف والباحث الموسيقي كريستيان بوشيه له خلفية فنية وموسيقية عربية، فهو من مواليد حلب بسوريا، وعضو قديم في معهد برلين للموسيقى التقليدية ومعهد العالم العربي، وصاحب عدة كتب ودراسات عن موسيقى البحر المتوسط والعالم العربي، وبرامج موسيقية في إذاعة فرنسا.
سؤال جوهري
عرف المؤلف من البداية كيف يحيط منهجيا بسيرة زرياب وبخصوصية شخصيته الموسيقية الاستثنائية تاريخيا وفنيا وحضاريا وسياسيا، ويغري القارئ الغربي والعربي بمرافقته في رحلته الشيقة بطرحه السؤال الجوهري عن مدى عبقرية زرياب، هذا الموسيقي الذي عاش بين القرنين الثامن والتاسع، وغادر الموصل إلى قرطبة هربا من حسد أستاذه.
وحتى يرد على السؤال كمنطلق منهجي، كان لا بد للمؤلف من استقراء ومقارنة الأدلة والدراسات، بهدف رفع اللبس عن الظلال التي أحاطت بمسيرة 'لؤلؤة الأندلس'، وآسر النفوس بطربه الجميل، ومبدع حبل العود الخامس والتقنيات الصوتية، وسيد فنون الأناقة والعيش والطبخ.
وتجسيدا للمقاربة المتوازنة والمشرعة على ما ألصق بزرياب من أسطورية وواقعية، قاد بوشيه بحثه دون تجاوز أي مصدر تاريخي أو أي تفصيل، منطلقا من كتابات ابن حيان الذي عاش بقرطبة (987-1076م) مرورا بالمقري التلمساني (1584-1631م) وقبله ابن خلدون (1332-1382م).
رحلة حضارية
غطى المؤلف شخصية وعبقرية زرياب إنسانيا وفنيا من منظور رحلة حضارية شيقة، واصفا حياة الخلفاء والأمراء الأمويين والعباسيين وعاداتهم وحفلاتهم، ومتوقفا عند إسهام زرياب -أو أبو الحسن علي بن نافع بهويته الموزعة بين الانتماءات الفارسية والأفريقية والكردية- وهو الأمر الذي زاد من سحره، وغذى المخيال العربي والأجنبي على السواء.
ولم تكن الرحلة الحضارية التي خاضها المؤلف الفرنسي وقفا على حكم الخلفاء والأمراء، بل تعدته إلى الإبحار في تاريخ الموسيقى العربية ومفاهيمها وتطوراتها في إسبانيا الأندلسية، وتأثيرها في الغرب (العود والدف والبوق والطرب والصوت والغناء والصنعة والقصيد والناقوس والستارة والمزمار والطريقة) إلى آخر المصطلحات التي تحكي تاريخ وقصص تجذر الموسيقى العربية في سجل الإبداع الموسيقي الإنساني.
منهجيا، كان من الطبيعي أن يتوقف المؤلف مطولا عند بحوث المقري -الذي استنطق كتابات مؤرخ قرطبة ابن حيان- باعتباره أكبر مؤرخي الحضارة الأندلسية اعتمادا على مؤلف 'المقتبس'. وحسب المؤلف، فقد أغنى المقري نصوص ابن حيان بالعودة إلى مصادر أخرى، وجاء في السيرة الذاتية التي خص بها زرياب: 'من بين الذين التحقوا بالأندلس آتين من الشرق نذكر المطرب والموسيقي الفذ أبي الحسن علي بن نافع الذي كان أحد عبيد أمير المؤمنين العباسي المهدي..'.
وكما يقول المقري تعود تسميته بلقب زرياب إلى بلده الأصلي بسبب بشرته السوداء وفصاحة لسانه ونطقه السليم وطبعه، وقد كان تلميذا لإسحاق الموصلي، وانفرد منذ البداية بتجاوز أستاذه في غفلة منه، بفضل نبرة صوته البديعة وإحساسه الفني الخارق، ودام الأمر حتى بلغ هارون الرشيد.
أدهش زرياب -الذي توفي سنة 845 م- الرشيد، وتحداه برفضه العزف بغير عوده الذي طبق به قواعد موسيقاه الخاصة وصنعه من نفس خشب عود أستاذه الموصلي، لكنه كان أخف بثلاث مرات، وتميز بحباله الحريرية الأكثر ليونة، وغنى زرياب أمام هارون الرشيد بعد أن قدمه إسحاق الموصلي، فرمى به في أحضان نشوة غير مسبوقة، لكن الحسد الذي داخل الأستاذ رمى بالتلميذ إلى الأندلس ليخط هناك تجربة موسيقية متفردة.
أرسل تعليقك