ابو ظبي ـ جمال المجايدة
أصدر مشروع "كلمة" للترجمة، التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، كتابًا جديدًا بعنوان "قبعة فيرمير: القرن السابع عشر وفجر العولمة"، من تأليف المؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ الصين تيموثي بروك. و صدرت طبعته الأولى بالإنكليزية، في العام 2008، ونقله إلى العربية د.شاكر عبد الحميد.
ويندرج كتاب "قبعة فيرمير: القرن السابع عشر وفجر العولمة" تحت ما يمكن أن يسمى بـ "الدراسات الثقافية"، خصوصًا "النقد الثقافي"، ويأخذنا مؤلفه تيموثي بروك فيه معه، زمانيًا إلى القرن السابع عشر، ومكانيًا إلى هولندا، أو ما كان يسمى بـ "الأراضي الواطئة"، فهناك في مدينة دلفت، ولد أشهر فناني الضوء (ربما في تاريخ الفن التشكيلي عمومًا، حيث قد لا يذكر تاريخ الفن بعده مثل هذا الشغف بالضوء، إلا مقترنًا باسم"فان جوخ"وشموسه المشعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر) فيرمير.
ولد فيرمير في دلفت (غرب هولندا، على بحر الشمال)، ورسم هناك أهم لوحاته، ومنها لوحة "الضابط والفتاة الضاحكة"، بحيث الضابط يرتدي قبعة خاصة كبيرة من الفرو (ومن هنا جاء عنوان الكتاب)، وكان مقر الفرع الرئيسي لشركة الهند الشرقية الهولندية يوجد أيضًا في تلك المدينة، ومن هناك كانت تنطلق السفن إلى الشرق وتعود منه. تنطلق بالبحارة والسلع، وتعود ببعض البحارة فقط، وبسلع أخرى كثيرة ومتنوعة، هكذا بدأ التاريخ الحقيقي للعولمة - كما يقول تيموثي بروك - من هناك، من ذلك المكان، وذلك الزمن.
في هذا الكتاب، ينتقل بنا المؤلف من الفن إلى الحياة، ومن الحياة إلى الفن. من الفن الذي في الحياة (تجارة اللوحات والخزف والفراء والمنسوجات وغيرها)، إلى الحياة التي في الفن (صناعة السفن، وتجارة التبغ، وعمليات التبادل الثقافي، والحروب والصراعات الكبرى التي دارت، هنا وهناك، والتي استهلت الحقبة الاستعمارية الكبرى في تاريخ البشرية، والتي رصدها الفن أو سَجَّلَ آثارها المتناثرة، هنا وهناك).
جاءت اللغة الإنكليزية لمؤلف الكتاب ممتعة في معظمها، إذ كانت زاخرة بالاستعارات والتشبيهات والأمثولات والأبيات الشعرية والإشارات الثقافية إلى الشرق تارة، وإلى الغرب تارة أخرى، وخلال ذلك كله كان هناك حضور كثيف للفن والتاريخ والجغرافيا وعالم البحارة والتجارة، وصناعة السفن، والممارسات الثقافية والتبادلات الإنسانية، والحضارة والاكتشافات العلمية. وانعكس ذلك على النسخة المترجمة للكتاب، فجاءت اللغة العربية للكتاب كلاسيكية حينًا، ومعاصرة حينًا آخر، وبدت المفردات والتعبيرات وأسماء الأعلام الصينية والغربية، وغيرها، حاضرة بكثافة عبر هذا النص الممتع.
عاش الفنان الهولندي الشهير "فيرمير" (31 تشرين الأول/أكتوبر 1632 – 16كانون الأول/ديسمبر 1675)، خلال القرن الـ 17، وهو قرن كان يموج بكثير من التغيرات الضخمة، وجسد فيرمير كثيرًا من هذه التحولات والتغيرات في لوحاته، واستعان في هذا التجسيد بتقنيات الخداع البصري والغرف المظلمة Camera obscura، والتي كان رائد الإبداعات الخاصة بها العالم والفيلسوف المسلم الحسن بن الهيثم (965-1039) بحيث تمتلك صور "الغرف المظلمة"، ذات الجودة "المعقولة"، إحساسًا بصريًا خاصًا. إنها تنتج أو تحدث إحساسًا مكثفًا بالنغمة واللون، وتقدم تكثيفًا مرهفًا، دون خشونة أو بهرجة أو زخرفة مصطنعة. كما أن الفروق الطفيفة بين الضوء والظل فيها، والتي تبدو منتشرة جدًا، وغير مدركة لضآلتها، بحيث يصعب تسجيلها في المشهد الأصلي، تصبح هنا - بواسطة الغرف المظلمة - واضحة، كما تكتسب التأثيرات النغمية للألوان درجة جديدة من التماسك. وتجلى ذلك كله في أعمال فيرمير، الذي قيل إنه استخدم هذه الغرف المظلمة للكشف عن بعض الخصائص البصرية المميزة التي تكون أقل وضوحًا، أو غير واضحة في الطبيعة والإبراز لها.
وهناك أيضًا تلك الأمور المتعلقة بالرموز والتفسيرات الخاصة بالعمل، والتي لا تكون موجودة بداخله حرفيًا، بل مجازيًا، ورمزيًا، وأمثوليًا، فلوحة فيرمير"امرأة تزن الفضة" (1657) يمكن تفسيرها على أنها تمثل امرأة تقوم بوزن سلع أو حلي أو ذهب أو فضة... إلخ، أي أشياء العالم المادي، بميزان حساس، وتقف أمام لوحة تمثل يوم الحساب، حيث ستوضع أعمال الإنسان وتوزن بميزان يفصل بين حسناته وسيئاته، والمقارنة بين هاتين العمليتين من الوزن أمر لا يمكن تجاهله في هذه اللوحة. وهي أمور عقلية أو معرفية غير مجسدة تكوينيًا. لكنَّ آخرين منا قد يهتمون أكثر بتلك العناصر التكوينية التي في اللوحة، مثل صورة يوم الحساب تلك.
ويستعرض المؤلف - عبر فصول هذا الكتاب - بدايات العولمة من وجهة نظره، كما تجسدت من خلال لوحات الفنان فيرمير ومن خلال الأشياء التي توجد في هذه اللوحات، كالفضة والقبعات والكؤوس وأطباق البورسلين والخرائط وغيرها، ومن خلالها يرصد التاريخ خارجها كما يتجسد في الرحلات البحرية والحروب التي دارت بين الأمم في الشرق والغرب، وغير ذلك من الموضوعات.
هكذا يقول مؤلف هذا الكتاب "إننا عندما نتجول بأعيننا فوق لوحات فيرمير، نبدو وكأننا ندخل عالمًا حيًا يزخر بالبشر الحقيقيين، الذين تحيط بهم الأشياء التي تضفي معنى خاصًا بوجودهم في بيوتهم أو موطنهم الأليف وتحمل الشخصيات أو الأشكال الملغزة الغامضة في اللوحات أسرارًا لن نستطيع معرفتها، وذلك لأن ذلك هو عالمهم وليس عالمنا. لكن فيرمير رسم هذه الشخصيات بطريقة يبدو أنها تمنحنا الإحساس بأننا دخلنا إلى مكان حميم حيث كل شيء يبدو كأنه كذلك".
في حالة فيرمير، كانت الأماكن حقيقية، لكن ربما ليس بالطريقة نفسها تمامًا التي رسمها من خلالها، فلم يكن فيرمير قبل كل شيء، مصورًا فوتوغرافيًا، بل كان فنانًا يدخلنا ويقربنا من عالمه. العالم الخاص بعائلة من الطبقة المتوسطة كانت تعيش في دلفت، عند منتصف القرن الـ 17 وحتى لو كانت دلفت لا تبدو في مجملها هكذا، كما صورها فيرمير، فرغم ذلك إن الصور (الفاكسية) المرسلة منه عبر لوحاته مطابقة بدرجة كبيرة بالنسبة إلينا، وكافية أيضًا كي ندخل ذلك العالم ونفكر كذلك فيما نجده فيه.
هكذا يطرح المؤلف تساؤلاته الخاصة به من خلال فحصه للوحات، أو بالأحرى، الأشياء/الموضوعات الموجودة في اللوحات. وهو يطلب منا تعليق بعض عاداتنا التي اكتسبناها عندما نقوم بالنظر إلى الصور، ومن أبرز هذه العادات ذلك الميل نحو اعتبار اللوحات نوافذًا مفتوحة على نحو مباشر على زمان آخر ومكان آخر، فمن الوهم المضلل كما يقول أن نعتقد أن لوحات فيرمير هي صور مأخوذة على نحو مباشر من الحياة في القرن السابع عشر في دلفت، فاللوحات لا تؤخذ (أو تلتقط) كما هو حال الصور الفوتوغرافية، اللوحات تصنع على نحو متسم بالعناية والتروي، وليس الهدف منها أن تقدم واقعًا موضوعيًا بقدر ما يكون الهدف من ورائها أن تقدم عرضًا لسيناريو خاص. وهذا الاتجاه هو الذي يؤثر على الطريقة التي ننظر من خلالها إلى الأشياء/الموضوعات الموجودة في اللوحات، فعندها نعتقد أن اللوحات أشبه بنوافذ، ومن ثم يقول لنا تيموثي بروك، إننا ينبغي أن نتعامل مع الموضوعات (الأشياء) الموجودة فيها على أنها تفاصيل ذات بعدين تكشف عن أنه إما أن الماضي كان مختلفًا عن ما نعرفه اليوم، أو أنه هو نفسه كما نعرفه اليوم، أي وكما لو كانت هنا صورة فوتوغرافية قد التقطت له.
وأسلوب تيموثي بروك (مؤلف هذا الكتاب) أسلوب ممتع، يجمع بين المتعة والفائدة. إنه مولع بالتفاصيل، لكنها سرعان ما تنتظم في صورة كلية عامة ونافعة. ويشكل السرد لدى هذا المؤلف عالمًا يتجلى على أنحاء شتى، بحيث نجد في هذا العالم الحكاية، والمعلومات التاريخية، والسياسية، والاقتصادية، والأدبية، ونجد الاستعارة والمجاز والأمثولة والشعر، ونجد التفكه والتهكم والسخرية والتندر والتورية، ونجد مصائر البشر ونهايات الأشياء وبداياتها، ونجد أنفسنا نقرأ كتابًا ممتعًا يجمع بين الفن التشكيلي والأدب والاقتصاد والسياسة.
ولد تيموثي بروك في العام 1951 في تورنتو، في كندا، وهو مؤرخ متميز له العديد من الكتب والبحوث العلمية المهمة التي يدور معظمها حول تاريخ الصين.
تبوأ العديد من المناصب الأكاديمية والجامعية منها: أستاذ لكرسي الدراسات الصينية في جامعة أكسفورد وأستاذ ومدير لكلية القديس جون في جامعة كولومبيا البريطانية ومدير برنامج دراسات التبت المعاصرة في الجامعة نفسها – معهد الدراسات الآسيوية.
وله عدد كبير من المؤلفات المهمة بشأن المجتمعات الآسيوية، وأيضًا التاريخ والاقتصاد والسياسة والتجارة الدولية الخاصة في هذه المجتمعات، ومنها على سبيل المثال:
1. الصلاة من أجل السلطة: البوذية وتكوين مجتمع الطبقة العليا في الصين في أواخر عهد أسرة المنغ 1993.
2. فوضى المتعة: التجارة والثقافة في الصين في عهد أسرة المنغ 1998.
مترجم الكتاب وزير الثقافة المصري وأستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون وشغل منصبًا لنائب رئيس أكاديمية الفنون، وعميد المعهد العالي للنقد الفني في أكاديمية الفنون والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة د. شاكر عبد الحميد، الذي حصل مؤخرًا على جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الفنون، عن كتابه "الفن والغرابة".
وألّف د.شاكر أكثر من 20 كتابًا أهمها: "الطفولة والإبداع" (في خمسة أجزاء) – "الأدب والجنون" - "الأسس النفسية للإبداع الأدبي للقصة القصيرة" – "العملية الإبداعية في فن التصوير" – "التفضيل الجمالي" –"الفكاهة والضحك" – "عصر الصورة" – "الخيال".
وترجم أكثر من ثمانية كتب أهمها: "بدايات علم النفس الحديث" –"الأسطورة والمعنى" – "الدراسة النفسية للأدب" – "المنهج الإثرائي المدرسي" – "معجم السيميوطيقا أو علم العلامات" – "العبقرية والإبداع والقيادة" – "سيكولوجية فنون الأداء".
وتخصص د. شاكر في دراسات الإبداع الخاص بالأطفال والكبار، وله دراسات عديدة في النقد الأدبي والتشكيلي.
أرسل تعليقك