محافظة بورسعيد

يحمل العدوان الثلاثي على مصر الكثير والكثير من الأحاديث من مواطني المدينة التي شهدت هجوم شديد العنف من ثلاث دول حيث كانت بداية الاعتداء على بورسعيد في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم 29 أكتوبر/ تشرين الثاني 1956، ‫حيث اتفق رؤساء الدول: رئيس وزراء انجلترا، أنتوني أيدن، ووزير خارجيته سلودين لويد، رئيس وزراء فرنسا، وجي موليه، ووزير خارجيته كريستيان بينو، رئيس وزراء إسرائيل، بن غوريون ووزيرة خارجيته، غولدا مائير، على شن هجوم على مصر عقب إعلان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بتأمين قناة السويس.

يقول أحد الأطفال حينذاك، كشاهدًا على حرب العدوان الثلاثي، البدري فرغلي، وهو عضو مجلس الشعب السابق خلال فترة حكم الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك إن بورسعيد شهدت معاناة حقيقية حيث كانت سماء المدينة تخترقها عشرات الطائرات النفاثة على ارتفاع شاهق.. كنا صبية صغارًا نتطلع للسماء لنرى هذه الطائرات والمدافع المضادة تطلق عليها النيران، و لم نر أي طائرة تسقط واستمرت هذه الحال لعدة أيام حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول وفي صباح اليوم الأخير كانت الطائرات الحربية فوق أسطح المنازل وأصوات الانفجارات تدوي في أطراف المدينة أجمع.

ويضيف: تدفقت البوارج الحربية أمام المدينة في البحر المتوسط وأخذت تطلق مدافعها الثقيلة على طول الشاطئ، احترقت كل الشاليهات والكبائن الخشبية وكل مبانِ الشاطئ اندلعت فيها النيران وفي اليوم التالي كان شباب المدينة ينظفون الأسلحة الحديثة من البنادق النصف آلية وسرعان ما أعلن في المدينة أن قوات المظلات تنزل في منطقة الجميل خلف الجبانات.. اتجهت جموع من رجال المدينة بعضهم تنقله سيارات النقل وآخرون سيرًا على الأقدام وفي المقدمة كانت سرايا من الحرس الوطني.
 
ويتابع فرغلي: الإنكليز اعتقدوا أن باحتلالهم القناة على مدار  75 عامًا أن بورسعيد ستستقبلهم بالزهور، فكانت الموجة الأولى حاملة أعدادًا كبيرة من المظلات اشتبكت معها قوات المقاومة الشعبية والحرس الوطني وتمت إبادتها بالكامل، حيث عاد بعض رجال المقاومة يحملون أقمشة المظلات وهم يهللون.
وأشار إلى أنه في الوقت ذاته كانوا  صبية صغارًا يتطلعون إلى من يحملون السلاح بإعجاب لكن فجأة دوت صفارات الإنذار تعلن عن إنزال جديد من المظلات فهرع كل من كانوا في الشوارع إلى الأدوار السفلى من المنازل واتجه بعض ممن يحملون السلاح إلى منطقة "الجميل" فدارت هناك معركة غير متكافئة كان الفارق كبيرًا حيث التدريب العالي والأسلحة الآلية لدى جنود المظلات الذين استطاعوا الوصول إلى الأرض بأعداد كبيرة وبين مقاومة شعبية وحرس وطني وتدريب محدود وأسلحة نصف آلية وانتهت المعركة بقتل عدد كبير من المظليين الإنجليز، واتضح أن بينهم جنودًا من الهند وأفريقيا.

ولفت إلى سقوط العديد من الشهداء والجرحى، كان من بينهم محمد مهران، أشهر فدائي من بورسعيد أسره الإنكليز ونقلوه بالطائرة إلى جزيرة قبرص حيث قواعدهم العسكرية وتم نزع عينيه الإثنتين، موضحًا إلى أنه في اليوم التالي تعرضت المدينة لأكبر هجوم جوي وتساقطت قنابل "النابالم" الحارقة على حي المناخ مما أدى إلى إحراقه بالكامل وأصبح الحي شعلة من النيران الحمراء تعلوها إلى السماء الأدخنة السوداء.

وقال: كنا نقف في منتصف شارع "كسرى" حيث كنا نسكن ونرى الحي وقد تحول إلى كرة من النار ودك الأسطول الإنجليزي أطراف المدينة وأصبح التركيز بقوة على شارع عبادي الذي تحول في معظمه إلى ركام، كان يوجد به مدرسة سعد زغلول الابتدائية، بدأت الأسر من النساء والأطفال تحاول الخروج من المدينة، وبدأنا نرى في الشارع دبابات تحمل العلم الروسي ذا اللون الأحمر ويخرج من كل برج دبابة رجل عسكري يتحدث بالعربية ويعلو صوته "إحنا روس.. إحنا روس".

وأضاف: سار من خلف الدبابات أعداد كبيرة من رجال المقاومة الشعبية حتى وصلوا إلى شارع "100" ثم اتجهوا شمالاً في اتجاه شارع محمد على.. سمعنا اشتباكات عنيفة ولم نعلم ماذا حدث، وساد الاكتئاب داخل المدينة ولم يعد بها طعام أو شراب أو نور بعد ضرب محطة الكهرباء والمياه.. استمررنا عدة أيام نأكل يوميًا رغيف خبز أشبه بالعجين غير المكتمل غير الناضج.. كنا نتجمع أعدادًا كبيرة من الصبية الصغار، وأصبحت لنا مهمة واحدة وهي دفع عربات الكارو التي تحمل جثامين الشهداء لدفنها في النادي المصري القديم حيث جمعية الشبان المسلمين الآن، جاءت عربة جيب أمام الحارة حيث كنا نقف، وتوقفت ونزل منها أربعة جنود دخلوا المقهى وأخذوا يفتشون الجميع، كانت عيوننا تسيل منها الدموع بعد ما رأينا ما فعله جنود الاحتلال بآبائنا وهم عزل من السلاح.

وتابع: سارت السيارة في طريقها واستمررنا نحن في البكاء، وكان يوم 5 نوفمبر/ تشرين الثاني هو يوم الشهداء فسقط فيه العدد الأكبر من شهداء بورسعيد وتحولت الحدائق والأندية الرياضية إلى مقابر جماعية للشهداء ولم يعد في المدينة مستشفى به مكان لجريح.. اتجهت الأسر من النساء والأطفال للخروج من المدينة.. إلا أن قوات الاحتلال أحرقت مخازن البترول حيث كنا نتجه إلى منطقة "القابوطي" ولم يعد هناك طريق آخر سوى ركوب المراكب الشرعية بعضها انقلب وغرق من فيه وحاصرت قوات الاحتلال المدينة بالكامل.. أروع ما حدث بعد ذلك هو المقاومة الشعبية السرية ومازالت بورسعيد تحمل أسماء أبطالها وشهدائها.