واقعة تحرش

لأول مرة يتصدى القضاء الإدارى للآثار المترتبة على ظاهرة التحرش الإجرامية وانعكاساتها على الضحايا من العاملات فى المجال الوظيفي ليحدد أبعادها ويضع مؤسسات الدولة بأجهزتها أمام مسئولياته لينطلق نحو علاجها والقضاء على هذه الوصمة فى جبين المجتمع المصرى .
وقضت محكمة القضاء الادارى بكفر الشيخ برئاسة المستشار الدكتور محمد عبد الوهاب خفاجى نائب رئيس مجلس الدولة ورئيس المحكمة وعضوية المستشارين عبد الحميد متولى وزكى الدين حسين نائبى رئيس مجلس الدولة بإلغاء قرار الجهة الإدارية بكفر الشيخ فيما تضمنه من إنهاء خدمة المدعية س.ع.ط. لانقطاعها عن العمل بسبب ما تعرضت له من تحرش جنسى واختطاف واعتداء عليها مقيدة بجنايات كفر الشيخ وما يترتب على ذلك من آثار أخصها إلزام الجهة الإدارية بتمكينها من تسلم العمل وألزمت الادارة المصروفات .
وقالت المحكمة إن المدعية ظلت بعد واقعة التحرش الجنسى التى آدمت كرامتها طريحة الفراش تعانى من الآلآم الجسدية والنفسية ورغم ذلك أبلغت جهة عملها بما تعرضت له من اعتداء اثيم وطلبت الجهة الإدارية من مدير اللجنة الطبية العامة بكفر الشيخ الكشف عليها على عنوانها لانها لا تقوى على الحركة إلا أنه امتنع عن إجراء الكشف الطبى عليها مما ينفى نيتها هجرها للوظيفة أوعزوفها عنها، كما خلا الإنذار الذى وجهته الادارة لها من اتصال علمها به اواستلامها له ومن ثم يكون فقد ركنا جوهريا لصحته مخالفا لصحيح حكم القانون .
وأضافت المحكمة أن المدعية قدمت لمحافظ كفر الشيخ طلبا ترجته فيه أن يمكنها من العودة لعملها شارحة له أن انقطاعها عن عملها لمدة لم تدم طويلا بسبب ما تعرضت له من تحرش جنسى واختطاف واعتداء عليها وهو سبب خارج عن إرادتها وتوسلت إليه فى طلبها لانها أم تعول طفلين وليس لها دخل آخر إلا أن السيد المحافظ بدلا من القيام بدوره المنوط به قانونا نحو المدعية قام بالتأشير على طلبها بعبارة "اتخاذ اللازم طبقا للقواعد " متخليا عن اتخاذ قرار صريح يكشف عن تصرفه نحو رعاية المرأة التى تعرضت للتحرش الجنسى والاعتداء ومتقاعسا عن أداء دوره الذى رسمه القانون إذ أنه وفقا للمادة 26 من قانون الإدارة المحلية فان المحافظ باعتباره ممثلا للسلطة التنفيذية بالمحافظة يكون مسئولا عن الأمن والأخلاق والقيم العامة بالمحافظة بالتعاون مع مدير الأمن فى إطار السياسة العامة التى يضعها وزير الداخلية.
كما ألزم القانون المحافظ بأن يتخذ التدابير اللازمة فى هذا الشأن وما من ريب فى أن رعاية هذه السيدة فى ظل ما تعرضت له من تحرش جنسى واعتداء على شرفها هو من أكثر التدابير اجلالا الواجبة عليه ، فالدور الحقيقى للمحافظ ليس مجرد مسئول إدارى أو تنفيذى بل يعد مسئولا سياسيا باعتباره رمز السلطة فى المدينة.
وذكرت المحكمة أنه قد تلاحظ لديها أن أجهزة الدولة ومؤسساتها قد أولت ظاهرة التحرش الجنسي - ولم تسلم المدعية منه فى الدعوى الماثلة - اهتماما بالغا لمجرد أن قام رئيس الدولة بمبادرة كريمة واجبة تجاه مواطنة مصرية إزاء ما تعرضت له من تحرش بشع لمواساتها وشمولها بالحماية النفسية فى موقف جديد نبيل لم يتعوده الشعب من رئيسه بما يحقق اندماجها فى المجتمع دون رواسب سيئة تجعلها ناقمة عليه وذلك هو الواجب على كل مسئول فى الدولة .
كما يجب أن تدرك الحكومة أن الشعب المصرى قام بثورتين متتاليتين فى 25 يناير 2011 و 30 يونيو 2013 للقضاء على حكم الفرد الذى كانت تتحرك مؤسسات الدولة بناء على توجيهاته وتعليماته ويجب أن يجد الشعب ثمار كفاحه ليحصد عصر المبادرات والقرارات دونما الاحتماء بتصرفات الرئيس .
وأشارت المحكمة إلى أن الدعوى الماثلة كشفت عن غياب الدور الإيجابى للمجالس القومية المتخصصة المعنية بشئون المرأة كالمجلس القومي للمرأة الذى لم ينضم مع المدعية فى كفاحها للزود عن حقوقها وقد ظلت وحيدة فريدة تارة تواجه العنف من التحرش الجنسى وتارة أخرى تواجه العنف الوظيفى بطردها من الخدمة ، فالمجلس القومي للمرأة المنشأ بالقرار الجمهورى رقم 90 لسنة 2000 والذى يتمتع بموازنة خاصة منها الاعتمادات التى تخصصها له الدولة فى الموازنة العامة يجب أن يتخلى عن أدواره التقليدية ليبحث الحلول الجذرية التى تتعرض لها المرأة فى ضوء مستجدات العصر .
كما أنه إذا كان من بين اختصاصاته عقد المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش والبحث فى الموضوعات التى تخص المرأة فان على القمة من اختصاصاته وضع مشروع خطة قومية للنهوض بالمرأة وحل المشكلات التى تواجهها وأهمها تعرضها للتحرش الجنسى ، ولن يتأتى ذلك إلا بانخراط المجلس القومي للمرأة وتعايشه مع الناس فى الحقيقة والواقع لا فى الأبحاث والنظريات خاصة وأن مصر مقدمة على عصر جديد يستلزم استنهاض الهمم بإسلوب علمي يتصل بالواقع الفعلى مستلهما حلولا جديدة غير تقليدية لمواجهة الظروف المستجدة لتنعم المرأة جنبا إلى جنب مع شريكها الرجل بمجتمع سوى تسوده الرحمة والفضيلة.
وأكدت المحكمة أنها تهيب برئيس الجمهورية تعديل القرار الجمهوري رقم 50 لسنة 2014 الصادر فى 5 يونيو 2014 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الذى استحدث جريمة التحرش الجنسى بإلغاء السلطة التقديرية والجوازية الممنوحة للقاضى ليختار بين الحبس أو الغرامة لتكون العقوبتين معا وجوبية على الرغم من أن الفكر العقابى الحديث يتجه إلى مبدأ تفريد العقوبة ذلك أنه بالنظر إلى تلك الجريمة فان الاختيار بين الحبس أو الغرامة يضعف من الأثر الرادع للعقوبة ويجب أن يكون الحبس وجوبيا دون تخيير امعانا فى ضبط نشاط المجتمع وتحقيقا لأغراض العقوبة و.
وتأمل المحكمة ألا يجد الرئيس حرجا فى إجراء ذلك التعديل نظرا لحداثة صدور القرار الجمهوري منذ 3 أسابيع فحماية المجتمع وتحقيق أمنه واستقراره مسئولية دستورية تعلو على أي اعتبارات أخرى .
كما أضافت المحكمة أنه لا يفوتها أن تشير إلى أن ظاهرة التحرش الجنسى ظاهرة عالمية وليست مصرية الأصل فقد استشرت فى البلاد نتيجة الغزو الثقافى لقيم أخرى تختلف عن القيم المصرية الأصيلة التى توارثها الشعب عبر آلاف السنين وتتصادم معها وزادت حدتها وذروتها بعد الثورتين المصريتين فى 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وما صاحبهما من انفلات أمنى وعدم وجود استقرار سياسى واجتماعى وثقافى مما يزيد من حدوثها ومعظم دساتير العالم تنظر إلى التحرش على أنه كل انتهاك لحقوق المراة يعبر عن شكل من أشكال التمييز ضدها بسبب الجنس ويعد عملا مباشرا من أعمال العنف ضد المرأة لما له من آثار جسدية ومصرية مدمرة للمرأة والمجتمع على نحو ما كشف عنه تقارير الأمين العام للأمم المتحدة لعام 2006 واجتماع فريق الخبراء شعبة الأمم المتحدة للنهوض بالمرأة المؤرخ 28 مايو 2008 ومنظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة الإنمائى للمرأة .
واختتمت المحكمة حكمها أنه لا يغرب عن البال أن العنف ضد النساء ينطلق من تصور خاطىء لبعض دعاة التشدد الدينى ممن استخدموا الدين فى السياسة والسلطة من أن المرأة مجرد حلية وحرمة وكائن بيولوجى مثير ومصدر للفتنة والغواية على سند من القول بأنها فى حاجة لمن يرشدها ويستحكم العقل فيها حتى لا تكون سببا فى فضح الأسرة وتصورهم أن مشاركتها للرجل يسلبه دوره الحقيقى فى الحياة وهو تصورمغلوط يتجافى مع الفهم الحقيقى للدين ينال من قدرتها على المشاركة والإنتاج والمساهمة فى إدارة شئون المجتمع .
ما اعاق المراة كثيرا فى اظهار قدراتها وامكانياتها نحو التقدم والنمو والازدهار وهو ما يلقى عبئا تنويريا لمؤسسات الدولة الدينية بتجديد الخطاب الدينى ليتفق مع وسطية الاسلام فضلا عن الدور التنويرى للمؤسسات التعليمية والتبربوية والثقافية والفنية وعلى قمتها السينما والمسرح ووسائل الاعلام لينهض كل بدوره فى استعادة القيم الاسلامية الرفيعة التى حدد ملامحها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله فى خطبة الوداع " واستوصوا بالنساء خيرا ".