الملكة إليزابيث الثانية

في عامها السادس بعد التسعين، تدعو الملكة إليزابيث الدب «بادينغتون» إلى جلسة شاي على مائدتها في جناحها الخاص في قصر باكنغهام. أين الدب من بروتوكولات القصور؟ يلتقط الإبريق المذهّب ويشرب منه مباشرة، قبل أن ينبهه مساعد الملكة إلى تصرّفه غير اللائق، فيعود ليسكب لها القليل المتبقّي من الشاي.

لشدّة ارتباكه يكاد الدب أن يقع عن الكرسي، فيغمّس يده في قطعة الحلوى، لينال خدّ المساعد نصيبه من الكريمة المتطايرة. يحاول «بادينغتون» إصلاح الأمور، فيُخرج من قبعته شطيرة من المربّى ويعرضها على الملكة. تفاجئه بإخراج قطعة مماثلة من حقيبتها قائلة: «أنا أيضاً أحتفظ بواحدة هنا، لوقتٍ لاحق».

للوهلة الأولى تبدو لحظات اللعب تلك كمشهدٍ سريالي، ليتّضح أنه فيديو حقيقي صوّرته الملكة من دون علم عائلتها، واختارت من خلاله أن تردّ التحية إلى الجماهير المحتشدة للاحتفال بيوبيلها البلاتيني. تلك التحيّة التي تلقّفها البريطانيون والعالم بعيونٍ ضاحكة وبتفاعلٍ عاطفي، لم تخلُ من الرسائل العميقة.

تحتفل الملكة التسعينية بيوبيلها السبعين مع شخصية كرتونية يعشقها الأطفال، لتقول إنّ الطفل الذي في داخل كلٍّ منا هو الأصدَق والأبقى.

تراقب سيّدة البروتوكول باستمتاع تصرّفات الدب غير اللائقة بطاولة ملكية، وكأنها تضع جانباً قواعد السلوك الحسَن (savoir vivre) وترفع تاج البساطة والعفويّة.

لعلّ الملكة إليزابيث، المقتربة من مئويتها الأولى على هذه الأرض، قد توصّلت إلى حكمة شخصية مفادُها أنّه «لا يجب أن نأخذ أنفسنا على محمل الجدّ كثيراً». تُردّد هذه المقولة في جلساتها الخاصة وإطلالاتها العامة. هي التي حطّمت مراراً هالة الجدّية من خلال مواقف مُضحكة، شاركت فيها عمداً أو صدرت عنها بشكلٍ عفويّ.


إليزابيث... ملكة اللحظات المُضحكة


ورثت «ليليبيث» الصغيرة حسّ الفكاهة عن والدتها الملكة إليزابيث الأولى. مع مرور الزمن وتضاعُف المسؤوليات وتَراكُم الأحزان، لجأت الملكة إلى الضحكة والمزاح، للتخفيف من وطأة الجديّة المطلوبة في إطلالاتها العامة ومهامها الرسمية.

من تحت قناع القسوة والبرودة الذي تضطرّ غالباً أن تغطّي به وجهها، تتسلّل روح الفكاهة التي تتمتّع بها. تمازح رئيساً بكوميدياها الساخرة في جلسة رسمية، وتنتزع ابتسامة من الأمير هاري في عرضه العسكري الرسمي الأوّل، ثم تدخل فجأة في خلفية «سيلفي» تلتقطها لاعبتا «هوكي» خلال بطولة دول الكومنولث!

 

 


يقول المؤرّخ والكاتب أنطوني سيلدون، إن «أحد أبرز ملامح شخصية الملكة إليزابيث، أنها لا تأخذ نفسها على محمل الجدّ، كما أنها ليست مهووسة بشخصها. تحب المواقف الغريبة، وعندما تحصل أخطاء ولا تسير الأمور كما كان مخططاً لها، تستمتع بدل أن تنزعج».

في إحدى زياراتها إلى نيوزيلندا سنة 1986، تعرضت إلى الرشق بالبيض من قِبَل مجموعة من المحتجين. فما كان منها خلال عشاء في اليوم التالي إلا أن تقول: «نيوزيلندا معروفة بألبانها وأجبانها؛ لكني شخصياً أفضّل البيض النيوزيلندي على وجبة الفطور!».

لا تخلو نكاتها من الفطنة، وهي سريعة البديهة في تلقّف المواقف، كما أنها تلاحظ فوراً ما إذا كان الشخص الذي أمامها غير مرتاح أو مرتبك، فتلجأ إلى الفكاهة لتكسر الجليد. أما في مجالسها الخاصة، فتُفرج الملكة عن موهبة مختبئة، وهي التقليد. يُحكى أنها بارعة في استنساخ شخصية الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن، ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر، إلى جانب شخصيات سياسية وإعلامية، ولهجات المناطق والقرى البريطانية.


مواقف اهتزّ لها العرش ضحكاً


سنة 1982، تسلّل رجل إلى غرفة الملكة إليزابيث في قصر باكنغهام. لم تدع الصدمة تغلبها؛ بل حافظت على هدوئها وفتحت حديثاً معه، ثم قدّمت له سيجارة. وبحجّة انزعاجها من رائحة الدخان، خرجت بتهذيب من الغرفة واستدعت الحرس.

مهما كان الموقف مزعجاً أو محرجاً أو ثقيلاً، تتلقّفه بخفّة ذكيّة. هذا ما حصل في الولايات المتحدة عام 2007، يوم رحّب بها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش قائلاً إنها شاركت في المئوية الأميركية الثانية سنة 1776 بدل 1976. فردّت لاحقاً: «لا أدري ما إذا كان يجب أن أبدأ كلمتي بالقول: عندما كنت هنا عام 1776...».
ويوم حصل موقف مشابه مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، ردت عليه الملكة ممازحة بالقول: «شكراً لأنك أشعرتني كم أنا عجوز!».
خبأت الملكة المفاجأة الكبرى لعام 2012، وتحديداً لحفل افتتاح الألعاب الأولمبية في لندن؛ حيث ظهرت إلى جانب بطل أفلام «جايمس بوند» الممثل دانييل كريغ في فيلم ترويجي، انتهى بقفزة ملكيّة من المروحيّة في أجواء استاد لندن الأولمبي!

كل مشهد، باستثناء القفزة، نفّذته الملكة شخصياً وباحتراف، حسب ما صرّح كريغ لاحقاً لشبكة «بي بي سي» مضيفاً أنها تملك قدرة على الارتجال بطبيعيّة.
يبدو أنّ التجربة راقت للملكة إليزابيث، فأعادت الكرّة في ألعاب Invictus 2016، إنما هذه المرة في فيديو جمعها بالأمير هاري، وقد ظهرا في تحدٍّ مباشر مع الثنائي الرئاسي الأميركي باراك وميشيل أوباما.
كالتلميذة المشاغبة في الصف، تتوسط الملكة قادة العالم في قمة الدول السبع G7 العام الماضي. يبتسمون للكاميرا التي تلتقط صورة تذكارية لهم، وإذ بها تكسر الصمت قائلة: «هل من المفترض أن تبدوا وكأنكم مستمتعون بوقتكم؟»، مثيرة ضحك جميع مَن في الصورة.
بعيداً من المناسبات الرسمية، تحب الملكة أن تمازح الناس من مواطنين وسيّاح. تتخفّى تحت منديلها وتتنزّه في حديقة القصر. يسألها الزوّار إن كانت تعرف الملكة، فتجيب بالنفي.

وفي احتفال في القصر، تتبادل الحديث مع إحدى المدعوّات. يرنّ هاتف السيّدة فتنصحها الملكة بأن تردّ: «قد يكون المتّصل شخصاً مهماً»! وهل هناك أهمّ من حوار، ولو خاطف، مع الملكة إليزابيث شخصياً؟!

من أكثر اللحظات التي تثير فرح الملكة هي تلك التي تجمعها بالأحصنة. فهواية ركوب الخيل تحوّلت مع مرور الزمن إلى اهتمامٍ بتربيتهم ومتابعة تدريباتهم وسباقاتهم. وهي معروفة إجمالاً بحبها للحيوانات.

من إطلالاتها غير المتوقعة، مروراً بالألوان الجريئة التي ترتديها، وصولاً إلى حضورها اللافت مؤخراً على حسابات العائلة المالكة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أثبتت الملكة إليزابيث أن العرش ليس سلطة فحسب؛ بل هو قرب معنوي وجسدي من الناس.

أدركت أنّ التاج ثقيل، ولا بدّ من التخفّف منه بين الحين والآخر. هي القائلة في حديث مع «بي بي سي»، إن ارتداء التاج صعب: «خصوصاً عندما تنحني لقراءة خطاب... تشعر وكأنّ عنقك سينكسر».

قــــــــــد يهمك أيضا :

الملكة إليزابيث تُوجه رسالة للبريطانيين في ختام احتفالات اليوبيل البلاتيني

الملكة إليزابيث تُضيء شجرة الأشجار إحتفالاً باليوبيل البلاتيني