لا تتوقف الكوادر الوطنية السورية عن استخدام كل ما هو جديد في سبيل حفظ التراث الثقافي الأثري السوري العالمي وصيانته و توثيقه ونشر مضمونه بما يسهم بالتعريف بالهوية الثقافية السورية الأصيلة والعريقة حيث قام فريق من خبراء الترميم السوريين الدوليين في "المديرية العامة للآثار والمتاحف" مديرية المخابر العلمية والترميمية الأثرية السورية بتطبيق منهجية علمية حديثة لحفظ لوحات الفسيفساء لأول مرة في سورية في أرض الموقع الأثري بدلا من نقلها على حامل من الإسمنت المسلح وعرضها في المتاحف وقد بدأت تلك المنهجية من عام 2010 واستمرت حتى العام الحالي. وتكتسب هذه المنهجية أهميتها في توضيح ارتباط أرضيات الفسيفساء بالبناء الأثري والمحيط الذي تتواجد فيه وتكوين تصور عن العناصر الفنية الرئيسية التي تتكون منها لوحات الفسيفساء و مدى تأثرها بالبيئة المحيطة بما يسهم بمحاولة فهم وظيفتها وأسباب وجودها ضمن البناء الأثري ويساعد في تأريخ عمرها الزمني اضافة إلى دراسة المواد المستخدمة في عملية رصف لوحات الفسيفساء و تحديد مصدرها و خصائصها واتباع أفضل الأساليب والسبل في التعاطي مع تلك الأرضيات بعد اكتشافها. وأكد الدكتور محمود السيد خبير الاثار وقارئ النقوش الكتابية هيروغليفية، أبجدية، مسمارية في المديرية العامة للآثار و المتاحف أن عملية حفظ أرضية الفسيفساء المكتشفة في موقع المجدل الأثري في محافظة السويداء والتي قام بتنفيذها فريق وطني من خبراء الدراسة والترميم والرفع الهندسي في مديرية المخابر والمؤلف من ماهر جباعي خبير ترميم و مهند الطويل رئيس شعبة الترميم في دائرة آثار السويداء ونسرين البوظة رئيس شعبة المباني بدمشق القديمة أهم نموذج معتمد حتى الآن في فهم وتوضيح الخطوات العلمية والمنهجية لعملية دراسة وتوثيق وتدعيم ثم حفظ وإعادة دفن لوحات فسيفساء ضمن الموقع الأثري. وأشار السيد إلى أن لوحة الفسيفساء اكتشفت بالصدفة عام 2006 في حظيرة صغيرة للماشية مساحتها 4ضرب 4م في مبنى سكني مكون من غرف إسمنتية حديثة متراكبة مع بعض الغرف الأثرية التي تعود للفترة الرومانية والمعاد استخدامها في الفترة البيزنطية. كما يقع المبنى ضمن منطقة تجمع للعديد من الأبنية الأثرية المؤرخة بالفترة الرومانية والبيزنطية و منها بركة ماء رومانية ومدفن بيزنطي وبقايا كنيسة. وأشار إلى أنه في العام 2007 كشفت اللوحة من جديد و بفضل إجراء بعض الحفريات الكشف على بعض القنوات في الجهة الشمالية من اللوحة وإجراء بعض الأسبار في الجهة الغربية التي يرتفع مستوى التراب فيها إلى 270سم أعلى من مستوى لوحة الفسيفساء ولم يتم الوصول إلى مستوى اللوحة وتوقف العمل ثم أعيد ردم اللوحة لكن في العام 2010 قام فريق العمل بكشف اللوحة من جديد فضلا عن بعض أجزاء امتدادات اللوحة تحت الجدران في الجهتين الغربية والشرقية. وقام بدراسة اللوحة وتدعيمها وتوثيقها وحفظها وإعادة ردمها ودفنها من جديد بطريقة منهجية علمية وفقا لمعطيات العلم الحديث والأسس والقواعد العلمية المتعارف عليها عالميا بين الباحثين و المختصين في دراسة و ترميم فن الفسيفساء القديم بهدف معرفة ماهية البناء وتأكيد وظيفته وتحديد طبيعة المشهد الذي تم تصويره في لوحة الفسيفساء. وأوضح خبير الآثار أن خبراء الترميم لخصوا مراحل العمل والترميم و الدراسة و التوثيق التي استمرت من عام 2010 ولغاية عام 2014 بإزالة طبقة الردم المستخدمة سابقا والمؤلفة من التراب ونشارة الخشب وهي من المواد التي تحتفظ بالرطوبة ما تسبب بتعريض اللوحة لمشاكل إنشائية وبيولوجية عديدة. وأشار إلى أنه بعد توثيق الوضع الأولي قبل الكشف وبعد إزاحة طبقة التغطية السابقة بالتصوير الفوتوغرافي قام فريق العمل الوطني بتنظيف سطح اللوحة تنظيفا أوليا باستخدام الإسفنج الرطب بالماء لإظهار معالمها بشكل جيد ثم بدأت عمليات التوثيق بأخذ صورة أفقية للوحة الفسيفساء بعد تقسيم اللوحة إلى مربعات لا تتجاوز المتر المربع باستخدام خيوط مثبتة خارج اللوحة و تحديد منتصف كل مربع ثم إزالة الخيوط و تصوير المربعات كل على حدة باستخدام مسافة واحدة وفتحة عدسة واحدة وإضاءة واحدة ثم تجميع تلك المقاطع مع بعضها البعض باستخدام برامج الحاسوب بهدف الحصول على الصورة النهائية بالكامل ومن تلك الصورة وبعمليات الفوتو مونتاج تم الحصول على رسم للمشهد المصور استخدم في دراسة الوضع الراهن و تحديد المشاكل وحالات التلف والمسببات وآلية العمل و المعالجة والتدخلات المنجزة و أعمال الترميم والصيانة الواجب القيام بها. بدوره لفت الدكتور كميت العبد الله مدير المخابر العلمية والترميمية و الخبير في دراسة فن الفسيفساء القديم في المديرية العامة للآثار والمتاحف أنه بالرغم من فقدان أجزاء كبيرة من اللوحة بسبب التلف الناجم عن الرطوبة العالية و جذور النباتات الشعرية التي نمت تحت المكعبات مباشرة و سببت التلف وتشكل طبقة ملحية كثيفة في بعض أجزاء لوحة الفسيفساء وتكلسات متراكمة على سطح المكعبات والعبث بها في مرحلة سابقة تمكن فريق العمل الوطني من معالجة وايقاف مسببات التلف وتدعيم بعض أماكن الانفصال بين طبقات الموزاييك بعملية حقن ملاط كلسي من بودرة الرخام و الكلس و تدعيم بعض الأجزاء التي كان فيها الفصل شعري جدا باللاصق الأكريليكي "البريمال" كما قام الفريق أيضا بتدعيم الحواف الخارجية للفسيفساء وحواف الفجوات بالملاط الكلسي وتثبيت بعض المكعبات المنفصلة من مكانها في وسط اللوحة و دراسة الأرضية بأبعاد 375ضرب330 سم. ولفت العبد الله إلى أن فريق العمل نجح في تحديد تفاصيل المشهد الرئيسي للوحة المحاط بإطار عريض بقي محفوظا في الطرفين العلوي و السفلي وهذا الإطار مزخرف بمشهد نهري موءلف من طيرين وأسماك ونباتات مائية وطفل يسبح مع طفل أخر يركب قارب في القسم العلوي من الإطار أما القسم السفلي من الإطار فيحوي وباتجاه معاكس للأشكال في القسم العلوي على أسماك و نباتات مائية و طفل يركب قارب وكل هذه الأشكال مصورة على خلفية بيضاء. وبين العبد الله أن موضوع اللوحة الرئيسي كما لخصه فريق العمل يتألف من مشهدين على خلفية بيضاء يتخللها نباتات أزهار ويظهر في المشهد العلوي أمرأه عارية جالسة على مقعد تتزين بأساور في المعصم و الزنود و خلاخل في الرجل و إلى جانبها امرأة تلتفت إلى الخلف و تبدو ماشية وعلى رأسها تاج و عقد حول الرقبة و أسواران في الزنود و المعصمين لافتا الى انه يظهر في المشهد السفلي رغم التلف الكبير فيه رجل يظهر و كأنه يركض ويحمل باحدى يديه أداة مؤلفة من أربعة أنابيب آلة نفخ موسيقية ويرتدي جلباب قصير وفي مقابله يوجد تصوير لرجل يلبس جلباب طويل و لم يبق منه بسبب التلف غير الجذع و الأرجل و بقرب الرجل يوجد فتاة عارية جالسة على مقعد يزين رأسها تاج ومعصميها وزنودها أساور وخلاخل في الرجل و هي تلتفت إلى الوراء حيث نجد أرجل فتاة عارية و بقربها يوجد شكل غير محدد بسبب الضرر وفي أقصى يسار اللوحة توجد يد فتاة تحمل دلو أو سلة. كما تمكن فريق العمل من كشف بعض المعالم التي كانت ممتدة تحت الجدران في الجهتين الغربية والشرقية. وأشار إلى أن الفنان استخدم تقنية "الأوبس تيسيلاتوم" في تنفيذ أرضية اللوحة كما استخدم في تشكيل اللوحة مكعبات من الرخام والحجر الكلسي والقرميد بأحجام تتراوح من 5-10مم كما استخدم خلفية ذات مكعبات بيضاء ذات أبعاد كبيرة قياسا للمكعبات التي استخدمت في رصف الأشكال والنباتات فلجأ إلى استخدام مكعبات بأبعاد من 8-10مم في الخلفية بينما استخدم في تشكيل الشخصيات مكعبات ذات أبعاد من 5-8 مم في حين استخدم مكعبات ذات قياس أصغر تصل إلى 5مم لتشكيل الوجوه وكانت المكعبات التي استخدمت بألوان متعددة الأسود الأبيض، الخمري، القرميدي، الزهري، الأخضر العفني، الأصفر الداكن والرمادي.  وأكد مدير المخابر العلمية والترميمية أن فريق العمل لاحظ بعد إجراء سبر عند حافة اللوحة أن الطبقات التأسيسية هي أربعة طبقات فقط وليست خمسة وبسماكة تتراوح بين 20-25سم حيث لجأ الفنان إلى تجهيز الأرضية فوق التراب مباشرة بطبقة أولى من الحجارة بحجم قبضة اليد وأكبر قليلا مع القليل من المونة الكلسية ثم طبقة من المونة الكلسية التي تحتوي على عدسية أصغر من الحصى ثم طبقة من المونة الكلسية التي تم الرصف عليها لتأتي أخيرا طبقة المكعبات وبهذا لجأ الفنان إلى التغاضي عن وضع الطبقة الثانية التي تتضمن حصى صغيرة . وأكد أنه لا توجد أدلة أثرية كافية تدعم فكرة أن اللوحة وظفت كأرضية حمام وتوءرخ للعصر الروماني. وأوضح العبد الله أن فريق العمل قام بعد دراسة اللوحة والمحيط ودراسة المعطيات التي أكدت وجود امتدادات للفسيفساء تحت الجدارين الشرقي والغربي بأعمال تنقيب موسعة حول موقع اللوحة وأعادة ردم اللوحة بمواد مدروسة وطريقة علمية منهجية صحيحة لحفظها من مسببات التلف كالرطوبة أو تداعي وقوع حجارة الجدران فوق اللوحة و غيرها من عوامل التلف التي يمكن أن تؤثر عليها لحين العمل عليها في المستقبل من خلال وضع طبقة من الرمل النهري رمل المزار الخالي من الأملاح فوق سطح المكعبات بسماكة 30سم وهي طبقة تخفف من الرطوبة التي يمكن أن تتجمع فوق سطح المكعبات فضلا عن كون الرمل النهري بيئة غير ملائمة لنمو جذور النباتات وسهلة التنظيف في المستقبل ثم تم فصل تلك الطبقة من رمل المزار بشبك من مادة الألياف الزجاجية "الفيبر غلاس" ذي ثقوب لا تزيد على 1مم كطبقة فصل بين رمل المزار والطبقة التالية من تراب الموقع نفسه وبسماكة 30سم لافتا إلى أن الفائدة من الشبك منع نمو جذور النباتات التي قد تنمو ضمن طبقة التراب التي تحتوي على بذور بعض النباتات وبالتالي منع وصولها إلى سطح المكعبات ثم قام فريق العمل بتغطية السطح المعدني بغطاء من النايلون للحد قدر الإمكان من تسرب مياه الأمطار إلى السقف ثم تسربها إلى سطح المكعبات عبر طبقة الردم.  وخلص العبد الله إلى أن الموضوع مستوحى من الأسطورة اليونانية و تمثل قصة لإحدى حوريات الأنهار و أن تصوير مشهد نهري في الإطار يتماشى مع موضوع اللوحة غير أن بساطة التقنية المستخدمة في تنفيذ الرسوم غير معروفة في لوحات الفسيفساء المعروفة من الفترة الرومانية والمكتشفة في شهبا أو في المواقع الأخرى في سورية. ويضيف العبد الله أن التقنية في تنفيذ الرسوم بالخط الملون بالمكعبات الحمراء و الجمود في الأشكال البشرية المصورة تظهر في عدد من لوحات الفسيفساء المكتشفة في موقع "مأدبا" الأردني صالة هيبيولوتوس و المؤرخة في القرن الميلادي السادس وهي بدورها تحوي على مواضيع مستوحاة من الأسطورة اليونانية لافتا إلى أن كلا الموقعين في جنوب سورية الطبيعية و كانت تتبعان للولاية العربية في الفترة البيزنطية والتي كان مقرها بصرى. وأشار إلى أنه ظهر في موقع المجدل و بقرب المكان الذي اكتشف فيه لوحة الفسيفساء عدد من الخرب التي تعود للفترة البيزنطية وبالتالي فإن تاريخ هذه اللوحة يعود على الأغلب إلى الفترة البيزنطية و تحديدا في القرن الميلادي السادس. و أكد أنه ليس من المستغرب وجود مشاهد أسطورية على الفسيفساء في تلك الفترة خصوصا في المباني السكنية في سورية بدليل اللوحات المكتشفة في بيوت سكنية في مواقع صوران حماة وصرين /حلب/ إضافة إلى موقع مأدبا في الأردن و التي تعود بمعظمها إلى القرن السادس الميلادي.