رام الله ـ دانا عوض
إستذكر الفلسطينيون، شاعر ثورتهم الكبير سميح القاسم الذي غيّبه الموت مساء الثلاثاء عن عمر يناهز 75 عامًا، بعد صراع مع مرض سرطان الكبد الذي اكتشف إصابته به قبل ثلاثة أعوام.
ونعت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية القاسم، وقالت إن "الشاعر الكبير، الذي ارتبط اسمه بشعر الثورة والمقاومة، كرّس حياته للدفاع عن الثقافة الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات التبديد والطمس والإلغاء، حاملًا إلى العالم صوت شعبه وآلامه وجذوة مقاومته للاحتلال".
وأضافت أن رحيل القاسم "يأتي في وقت تنهض فيه روح وثقافة المقاومة في أرجاء فلسطين، وإصرار الشعب الفلسطيني على هزيمة العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة الباسلة، تمهيدًا لدحر الاحتلال عن الأرض المحتلة وانتزاع حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال".
وتابعت أن " اللجنة التنفيذية وهي تنعى شاعر فلسطين الكبير سميح القاسم، تؤكد حرصها على مواصلة حمل رسالته الإبداعية والوطنية، وتوارثها من جيل إلى جيل، ليبقى صوته وصوت الحق الفلسطيني عاليًا شامخًا".
ونعت وزارة الثقافة الفلسطينية القاسم باعتباره أبرز وجوهها الثقافية والشعرية، وقالت إن "القاسم كان مدافعًا عنيدًا وصلبًا عن حقوق شعبنا الفلسطيني وثوابته الوطنية، وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف".
وأضافت أن " وزارة الثقافة إذ تنعى إلى الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده، وإلى الأمتين العربية والإسلامية أحد رموز الثقافة الوطنية وأحد أعمدة الشعر العربي الحديث، لتؤكد في الوقت نفسه أن سميح القاسم سيبقى في ذاكرة الشعب الوفي الصامد المرابط يردد أشعاره الخالدة ويتذكر مواقفه الوطنية المنحازة لدماء الشهداء وأنّات الجرحى والأسرى في سجون الاحتلال".
ونعى الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر الفلسطيني، القاسم، معربًا "عن شعوره بفداحة الخسارة للحركة الثقافية في فلسطين، وفي الوطن العربي، والعالم الحرّ، برحيل هذه القامة الثقافية العالية، واستذكر بمزيد من الفخر الدور الذي لعبه الشاعر الكبير، إلى جانب الراحلين الكبيرين توفيق زيّاد ومحمود درويش، في التأسيس لمدرسة المقاومة الشعرية، والتي انطلقت شرارتها الأولى من داخل الدائرة الضيّقة التي أغلقها الغاصبون بالنار والحديد على ذلك الجزء العزيز والغالي من الوطن، وليكسر الشعراء الثلاثة، ومن عاصرهم من المثقفين هناك، تلك الدائرة السوداء محلّقين في الفضاءات العالية".
وجاء في البيان" كان الراحل الكبير واحدًا من ذلك الجيل المؤسس للكلمة المقاتلة على طريق تشييد مدرسة شعرية ثورية محكمة الأساسات والبنيان، وكانت فلسطين، وشعبها، وقضيتها، وأحزانها، وآلامها، وأحلامها، وتطلعاتها في رؤاهم، فاستحقوا بجدارة أن يكونوا أساتذة، وأن تتربى في مدرستهم أجيال شعرية، وتتعلم منهم الكثير، والكثير.
وجاء في بيان النعي "أن رحيل الشاعر الكبير سميح القاسم عن عالمنا يجيء وغزّة تغرق بالدم على أيدي الوحش الصهيوني الذي يوغل في دمنا يوما بعد يوم. وكان القاسم وهو يصارع مرضه اللعين تحدّق عيناه فيما يجري لأبناء شعبنا في تلك البقعة الغالية من وطننا، وكأنّه يريد أن يوصل وصية غير مكتوبة لنا، وهي أن الشعراء لا يموتون، وأن الكلمة المقاتلة يجب أن تواجه هذا الموت، سواء كان موتًا فرديًا، أو جماعيًا".
وأضاف البيان "لقد ترك سميح القاسم إرثًا ثقافيًا نعتزّ به، ونعلن انحيازنا التام له. وترك سيرة نضالية نفتخر بها، ونتعلم منها، وفي هذه المناسبة يتطلع الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين، بل ويطالب الجهات الرسمية في السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن تلتفت، ليس فقط لتراث الراحل الكبير، وإنما لوصاياه التي سنجدها في كل جملة شعرية كتبها، وأن تولي ثقافتنا الوطنية المقاتلة ما يمكنها من الصمود، ويشحذها بمقومات الصمود والمزيد من المقاومة".
وتوجه الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين لعائلة الراحل الكبير، بأصدق مشاعر العزاء، وتوجه لأبناء الشعب الفلسطيني وأمتنا العربية والإنسانية جمعاء بأحر التعازي.
ويعد القاسم واحدًا من أبرز الشعراء الفلسطينيين والعرب المعاصرين، واشتهر بمراسلاته هو ورفيقه الشاعر محمود درويش المعروفة بـ "كتابات شطري البرتقالة"، حيث كانا صديقين يحملان القلق أينما حلّا وهما يدافعان عن الضمير الإنساني.
واشتهرت العديد من قصائد سميح القاسم، التي يتغنّى بها الأحرار في المناسبات الوطنية والقومية، وأشهرها قصيدة " منتصب القامة أمشي، مرفوع الهامة أمشي" التي غناها الفنان مرسيل خليفة، ولا تكاد تغيب عن ألسنة أطفال فلسطين.
ولقد كان القاسم موجودًا في ساحات فلسطين الثقافية والكفاحية، وفي مقدمة الرّكب شاعرًا فذا ومجددًا ومبدعًا، ومناضلًا عنيدًا، وإنسانًا شعبيًا استطاع أن يتلمس أوجاع أبناء شعبه وأمته والمقهورين في هذا العالم المتوحش، وأن يكون دائمًا إلى جانب المظلومين، والمتطلعين للحرية والعدالة. لقد كان باختصار صرخة مدوية في وجه الظلم أيًا كان شكله ومصدره.
وتوفيّ الشاعرُ الفلسطينيُّ الكبير، مساء الثلاثاء، بعد علاجه في مستشفى مدينة صفد المحتلة.
وكانت عائلة القاسم أعلنت، الجمعة، أنه خرج من المستشفى وهو في وضع صعب لكنه مستقر، وأنه يرقد للعلاج في بيته في قرية الرامة في عكا.
ومن كلمات الشاعر سميح القاسم الخالدة، التي كانت تحمل معاني الغربة الفلسطينيّة والإنسانيّة، وتنذر دومًا بنبض جديد لفجر الحرية قصيدته "أشدّ من الماء حزنًا"، و"أكثر من معركة"، التي جاء فيها:
في أكثر من معركةٍ دامية الأرجاءْ
أشهر هذي الكلمات الحمراء
أشهرها.. سيفًا من نار
في صفِّ الإخوة.. في صفِّ الأعداء
في أكثر من درب وعْر
تمضي شامخةً.. أشعاري
و أخافُ.. أخاف من الغدرِ
من سكين يُغمد في ظهري
لكني، يا أغلى صاحب
يا طيّب.. يا بيتَ الشعر
رغم الشكّ.. و رغم الأحزانِ
أسمعُ.. أسمعُ.. وقع خطى الفجرِ!
رغم الشكّ.. و رغم الأحزانِ
لن أعدم إيماني
في أنّ الشمس ستشرقُ..
شمس الإنسانِ
ناشرةً ألوية النصرِ
ناشرةً ما تحمل من شوقٍ و أمانِ
كلماتي الحمراء..
كلماتي.. الخضـراء !
وكتب الأديب الفلسطيني يحيى يخلف، عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، الثلاثاء الماضي، أنَّ "شاعر فلسطين، وتاريخها، ومقاومتها، وكرامتها، وعنفوانها، سميح القاسم في وضع حرج بالمستشفى، فهو يعاني من مرض السرطان منذ ثلاثة أعوام"، مذكرًا بالخسارة الفلسطينية برحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
وأضاف يحيى يخلف "سميح ومحمود درويش كانا من مؤسسي أدب المقاومة، محمود وسميح توأم مسيرة حافلة في النضال والإبداع والحياة، كل قصيدة أيقونة وجزء من أدبيات ثورة، ومظهر من مظاهر سيادة".
ولد سميح القاسم لعائلة عربية فلسطينية، في 11 أيار/مايو 1939، في بلدة الرامة شمال فلسطين، ودرس في الرامة والناصرة، واعتقل مرات عدة، وفرضت عليه الإقامة الجبرية من الاحتلال الإسرائيلي، لمواقفه الوطنية والقومية، وقد قاوم التجنيد الذي فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها، وهو متزوج، وأب لأربعة أولاد، هم وطن، ووضاح، وعمر، وياسر.
وكان الراحل مؤسس صحيفة "كل العرب"، ورئيس تحريرها الفخري، وعضو سابق في الحزب الشيوعي، وانصرف إلى نشاطه السياسي، قبل أن يترك الحزب ليتفرغ لعمله الأدبي.
ومن المأثورات عنه، أنَّ والدهُ كان ضابطًا برتبةِ رئيس (كابتن) في قوّة حدود شرق الأردن وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم. حينَ كانت العائلة في طريق العودة إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية! وبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتل الطفل إلى آن اضطر الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لردعهم، وحينَ رُوِيَت الحكاية لسميح فيما بعد تركَتْ أثرًا عميقًا في نفسه "حسنًا لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي".
شاعر مُكثر يتناول في شعره الكفاح والمعاناة الفلسطينيين، وما أن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي.
كتب سميح القاسم أيضًا عددًا من الروايات، ومن بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي بشأن القضية الفلسطينية.
ساهم في تحرير "الغد" و"الاتحاد" ثم رَئِسَ تحرير جريدة "هذا العالم" عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحررًا أدبيًا في "الاتحاد"، وأمين عام تحرير "الجديد" ثمَّ رئيس تحريرها.
وأسَّسَ منشورات "عربسك" في حيفا، مع الكاتب عصام خوري عام 1973، وأدارَ فيما بعد "المؤسسة الشعبية للفنون" في حيفا.
ترَأسَ اتّحاد الكتاب العرب والاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في فلسطين منذ تأسيسهما. وترأس أيضًا تحرير الفصلية الثقافية "إضاءات" التي أصدرها بالتعاون مع الكاتب الدكتور نبيه القاسم. صَدَرَ له أكثر من 60 كتابًا في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة، وصدَرتْ أعماله الناجزة في سبعة مجلّدات عن دور نشر عدّة في القدس وبيروت والقاهرة.
تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية واللغات الأخرى.
حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات. فنالَ جائزة "غار الشعر" من إسبانيا، وجائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، وحصلَ على جائزة البابطين، ومرّتين على "وسام القدس للثقافة" من الرئيس ياسر عرفات، وجائزة نجيب محفوظ من مصر، وجائزة "السلام" من واحة السلام، وجائزة "الشعر" الفلسطينية.