طرابلس - فاطمة السعداوي
جلس سائق الشاحنات الليبي رياض سويد القرفصاء فوق سطح منزل، ويطيل النظر إلى مواقع يحتلها مقاتلو تنظيم داعش على بعد بضعة مئات من الأمتار داخل مدينة سرت الغارقة في الفوضى, فيما يخوض سويد ومسلحون آخرون، متحالفون مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، حرب شوارع للسيطرة على المدينة الساحلية المهمة على هامش معركة تقودها قوى غربية ضد التنظيم المتشدد, لكن بعد نحو شهرين من القتال فقد التنظيم السيطرة على ميناء سرت، وبعض أحيائها السكنية قرب وسط المدينة، التي تشتهر بكونها مسقط رأس معمر القذافي, وتتبادل الجبهتان إطلاق رصاص القناصة وقذائف المورتر من مسافات، لا تزيد في بعض الأحيان على 200 متر في معركة يدور القتال فيها من منزل لآخر, وقال سويد: “هذه حرب اضطررنا لها, حرب لا يمكن تجنبها, لذا قتل كثيرون في مواجهة هؤلاء”.
وبدأ تنظيم داعش المتطرف في التوسع في ليبيا عام 2014، مستغلاً زيادة الفوضى السياسية، وعمق الصراع بعد ثلاث سنوات من حرب أهلية أطاحت بحكم القذافي, وفي ظل هذه الفوضى الأمنية أصبحت سرت، التي تبعد 450 كيلومترًا إلى الشرق من طرابلس، أكبر معقل للتنظيم المتشدد خارج مناطق سيطرتها في العراق وسورية، بعد أن استولى متشددون على المدينة العام الماضي، مستغلين الحرب التي دارت بين فصائل ليبية للسيطرة على الأراضي لتفرض رؤيتها المتشددة على المدينة, فيما ستكون خسارة سرت انتكاسة كبرى للتنظيم ولمعنويات مقاتليه، بينما يجد صعوبة للاحتفاظ بأراضٍ يسيطر عليها في العراق، حيث طرد بالفعل من مدينة الفلوجة ومن أراضٍ أخرى على أيدي قوات تدعمها غارات جوية للتحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة, فيما تتقلص الأراضي التي يسيطر عليها “داعش” تحت ضغط من جبهات منفصلة في منطقة مساحتها نحو خمسة كيلومترات، حيث تتقاطع السواتر الترابية مع تقاطعات طرق لتنقطع سبل الفرار، وحيث تقصف الدبابات والمدافع مناطق تسيطر عليها التنظيم المتشدد بشكل متقطع.
ويحاول المقاتلون، الذين يرتدي بعضهم أزياء تمزج بين الملابس العسكرية والجينز، القضاء على القناصة والألغام الأرضية وعبوات ناسفة مثبتة بجثث ملقاة في الشوارع وفي المنازل, ويقف هؤلاء المقاتلون بسيارات حملت عليها مدافع وراء سواتر في الشوارع، ويطلقون نيران المدافع من فوق الأسطح, ويتردد قادة المقاتلين من مصراتة في التقدم سريعًا، خوفًا من مقتل عدد كبير من الأفراد، حيث قتل حتى الآن 200 من المقاتلين في معركة سرت, وقبل أسبوع قتل أكثر من 40 من قوات مصراتة في تصعيد شهدته جبهة واحدة, وفي مستشفى ميداني خارج سرت يقول أطباء إن جل القتلى في صفوف القوات في الفترة الأخيرة فارقوا الحياة بسبب رصاصات في الرأس أو الجزء العلوي من الجسد,
وتتمركز دبابة روسية الصنع على أعلى تبة مطلة على سرت، وقد كتب عليها اسم كتيبة مصراتة، تطلق بين الحين والآخر قذيفة على منطقة سيطرة “داعش”, وبهذا الخصوص يقول حمزة، وهو قيادي في وحدة الهندسة العسكرية، “نحن نحاول إصابة القناصة فوق المنازل، ونطبق مبدأ التجربة والخطأ”, لكن هؤلاء المقاتلين يفتقرون لأجهزة الرؤية الليلية والخوذات والسترات الواقية من الرصاص اللازمة لتقليص الخسائر بسبب هجمات القناصة, فيما يشعر الغالبية بأن الشركاء الغربيين وحكومة طرابلس قد خذلوهم في المعركة مع تنظيم داعش, وبهذا الخصوص يقول قائد محلي يدعى مصطفى على خط المواجهة في حي 700 داخل سرت “الكل يعرفون أننا نقاتل هنا بأسلحة بسيطة, لقد كذبوا عندما قالوا إنهم سيساعدوننا, لكننا قادرون على إنهاء هذه الحرب بأنفسنا”, وتقول قوى غربية إنها مستعدة لتلقي طلبات المساعدة من حكومة رئيس الوزراء فائز السراج, لكن حكومة الوحدة الوطنية التي تدعمها الأمم المتحدة تكافح لبسط نفوذها، كما تؤخر الصراعات السياسية الداخلية اتخاذ القرار, ولم يتم حتى الآن تقديم طلب محدد للاستثناء من حظر تفرضه الأمم المتحدة للسلاح، كما لا يزال اقتراح أوسع نطاقا لبرامج تدريب غربية في مراحل التخطيط.
وقدر مسؤولون غربيون في وقت سابق هذا العام أن 6000 مقاتل متشدد احتشدوا في سرت، أغلبهم أجانب من تونس ودول أفريقيا جنوب الصحراء، فيما زادت المخاوف من توسع تنظيم داعش في شمال أفريقيا, لكن قوات مصراتة قالت إن الرقم مبالغ فيه، وذكرت أنه أقرب إلى 2000، وتقول إن ما لا يزيد على 600 مقاتل ربما لا يزالون داخل سرت، بينهم بعض الأجانب, وخاض مقاتلو مصراتة المعارك جنبًا إلى جنب مع الكتائب المعارضة الأخرى ضد القذافي في انتفاضة 2011، وهم الآن يشكلون قوة واحدة في شبكة معقدة من الفصائل السياسية والعسكرية المتناحرة على السلطة في البلاد, وستشكل سرت جائزة كبرى لكتائب مصراتة التي تدعم حكومة الوحدة الوطنية الهشة المتمركزة في العاصمة طرابلس, لكن هذا قد يزيدها جرأة في مواجهة القوات المنافسة التي يقودها اللواء خليفة حفتر، الذي كان مسؤولا سابقا في عهد القذافي.
وعزَّز تنظيم داعش وجوده في سرت ببطء، ونفذ عقوبات وعمليات صلب وإعدام علني بضرب العنق وجلد بحق معارضيها, فيما سيطر المتشددون على مؤسسات المدينة وبنوكها، وأجبروا التجار وأصحاب المتاجر على دفع الضرائب وأسسوا محكمة شرعية, وقال سكان فروا من المدينة إنه تم منع الحلاقين من حلق اللحى ومنع التدخين في المقاهي, وفي ساحة الزعفران حيث كانت تنفذ عمليات الصلب لا يوجد الآن سوى إطار خشبي كانت ترفع عليه راية التنظيم السوداء, بينما لا تزال توجد شعارات مرسومة بالطلاء تحدد المتاجر التي دفعت الضرائب, ويقول قادة عسكريون من مصراتة إن التنظيم المتشدد يتحصن حاليا في المنطقة المحيطة بقاعة واجادوجو للمؤتمرات، التي بناها القذافي لاستضافة القمم الأفريقية، وحول مستشفى قريب، لكن بعض القادة ربما فروا إلى الجنوب, وفي هذا السياق يقول محمد جنيدي، مسؤول المخابرات في كتائب مصراتة، “نحن نعلم أن هذه ليست مجرد معركة ضد التنظيم في سرت. فبعد سرت ستظهر جيوب أخرى، ونحن نعلم أنهم قد ينفذون هجمات انتحارية ويفجرون قنابل في مدن أخرى”.
وقالت مصادر إعلامية لعملية “البنيان المرصوص” التابعة لقوات حكومة الوفاق الوطن الليبية إن أكثر من 50 عنصرًا من تنظيم “داعش” الإرهابي في سرت قتلوا خلال الاشتباكات التي دارت في حي ال 700 والمنطقة المحيطة به في سرت الجمعة.
ونشر المركز الإعلامي للعملية، صوراً تظهر عشرات الجثث لقتلى التنظيم الإرهابي في شوارع حي ال 700 بعد سيطرتها عليه، وتعاملها مع القناصة المتمركزين على أسطح المباني والقضاء عليهم، كما قضت على قوة أخرى متسللة، واستولت على آلياتها وأسلحتها”.
وأعلن مستشفى مصراتة المركزي، أنه استقبل ثلاثة قتلى و38 جريحاً من قوات البنيان المرصوص سقطوا خلال المواجهات. وأوضح المكتب الإعلامي للمستشفى عبر موقعه الإلكتروني، أن 20 من الجرحى إصاباتهم بسيطة، و12 إصاباتهم متوسطة و6 منهم إصاباتهم حرجة.
وكان المركز الإعلامي التابع إلى “البنيان المرصوص” أعلن أن “سلاح الجو الليبي قصف قاعة واغادوغو ومحيطها أربع مرات، ليصل عدد الطلعات القتالية لسلاح الجو تسعاً في 24 ساعة، كما دكت المدفعية الثقيلة القاعة التي تمثل أهم المعاقل الحصينة بالنسبة للتنظيم”، مؤكداً على أن القوات تقدّمت من جهة الميناء، وسيطرت على جزيرة الطويلة، حيث هرب عناصر التنظيم من مواقعهم، وتركوا أسلحتهم، بعد مقتل أغلب عناصرهم”. وأشار إلى أن سرية الهندسة العسكرية تعمل على تمشيط الحي من الألغام وبقايا المتفجرات، كما سيطرت على منطقة الطويلة، ومزرعة الأبحاث.
وقال مصدر إعلامي في غرفة عمليات “البنيان المرصوص”، إن عناصر من القوّة عثرت في حي ال700 على شاحنتين من أصل 12 شاحنة، استولى عليها التنظيم قبل أشهر، بينما كانت في طريقها من مصراتة إلى الجنوب محملة بأنابيب غاز الطّهو ومواد غذائية.
من جهة أخرى، قال مندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة، إبراهيم الدباشي، إن بلاده لا تزال بحاجة إلى المساعدة لمواجهة الإرهاب، وتأمل حكومة الوفاق الوطني ومجلس النواب الحصول على الدعم الدولي اللازم لمكافحة تنظيمات “داعش والقاعدة وأنصار الشريعة”، التي تتمركز في أكثر من مكان بليبيا. وأضاف الدباشي، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حول استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب ونشرت أمس، أن ليبيا تعدّ من أكثر الدول تأثرًا بالإرهاب، حيث تسعى المجموعات “الإرهابية” إلى السيطرة على بعض المدن الليبية، والانطلاق منها للسيطرة على الموارد النفطية أو تدميرها، وتعمل على استقطاب “الإرهابيين” من مختلف الجنسيات، وتوفير الملاذ الآمن لهم لتعزيز وجودها. مؤكداً أن تواجد التنظيمات “الإرهابية” في ليبيا يهدد وحدة البلاد واستقرارها، ويؤثر في أمن الدول المجاورة.
وتابع: إن ليبيا تدعو إلى التعاون الدولي الفعّال لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2178 (2014)؛ لمواجهة ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب، ووضع التدابير لمنع التحاق المتطرفين بـ ”التنظيمات الإرهابية” في مناطق النزاع، وأكد الدباشي، الحاجة إلى وقفة جادة من المجتمع الدولي لمساعدة السلطات الليبية في تنفيذ بنود الاتفاق السياسي بشكل صارم ومتكامل، كما طالب بدعم الجيش الليبي وتزويده بالسلاح والمعدات العسكرية التي تمكّنه من محاربة الإرهاب، ومراقبة الأراضي والحدود الليبية لمنع تهريب الأسلحة وتنقل الإرهابيين.--