الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

لجأ معدو البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول لليبيا، الذي استضافته باريس أول من أمس، إلى كنوز اللغة الدبلوماسية لتناول ملف انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، خصوصاً أن أصحاب الخبرة في صياغة البيانات الدولية، التي تتضمن توصيات ومواقف، يدركون جيداً أهمية اختيار العبارات والكلمات بعناية حتى ترضي الجميع، وبحيث لا يسحب أي طرف توقيعه لأنه يرى نفسه مستهدفاً. ولذلك عكس البيان الختامي للمؤتمر، الذي صدر بثلاث لغات (العربية والفرنسية والإنجليزية)، في طياته حرصاً على عدم إغضاب أي أحد، خصوصاً روسيا وتركيا.

وجاء في الفقرة الفاعلة رقم 5 من البيان: «نعرب عن دعمنا التام لخطة العمل الشاملة لسحب المرتزقة والمقاتلين الأجانب، والقوى الأجنبية من الأراضي الليبية، التي أعدّتها اللجنة العسكرية المشتركة التابعة للحوار (5 زائد 5)... بما في ذلك عن طريق وضع إطار زمني على وجه السرعة كخطوة أولى نحو التنفيذ الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار... ونلتزم بتيسير تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار على نحو متزامن ومرحلي وتدريجي ومتوازن، وفق ما ورد في خطة العمل، وندعو جميع الجهات الفاعلة المعنية إلى تنفيذ أحكامه من دون تأخير. كما نأخذ علماً بأن ترحيل المرتزقة والمقاتلين الأجانب والقوى الأجنبية، والأطراف المسلحة غير التابعة للدولة، يستدعي الاسترشاد بتوجيهات اللجنة العسكرية المشتركة التابعة للحوار (5 + 5)».

يتضح بداية أن المؤتمرين في بيانهم يتلطون وراء اللجنة العسكرية المشتركة، التي يتنبون خطتها لسحب المرتزقة والقوات الأجنبية، بينما كان بمقدور المؤتمر توجيه الدعوة لذلك مباشرة. واللافت أن البيان «يجهل»، من جهة، هوية المرتزقة، بحيث لا نعرف الجهة التي أتوا منها، أو التي يأتمرون بأمرها، علماً بأن كل التفاصيل معروفة. والشيء نفسه يصح بالنسبة للقوات الأجنبية. وإذا كانت انتماءات المرتزقة متعددة (سودانيون، تشاديون، سوريون، روس، أوكرانيون وأعدادهم بالآلاف)، فإن المقصود بالقوات الأجنبية تركيا على وجه الخصوص.

يضاف إلى ما سبق أن البيان يخلو من برنامج زمني مطلوب التقيد به لإخراج المسلحين، كما يخلو من التهديد بعقوبات على المستوى الدولي (قرارات مجلس الأمن)، أو على المستوى الثنائي والجماعي بعكس ما حصل بالنسبة للفقرة المتعلقة بالانتخابات. وللتذكير، فإن البيان يهدد «الأفراد أو الكيانات داخل ليبيا أو خارجها، التي قد تحاول عرقلة العملية الانتخابية والانتقال السياسي أو تقّوضهما، أو تتلاعب بهما أو تزورهما، بأنها ستخضع للمساءلة، وقد تُدرج في قائمة لجنة الجزاءات التابعة للأمم المتحدة».

وما لم يقله البيان قاله الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركيل في المؤتمر الصحافي الذي أعقب المؤتمر. فماكرون لم يتردد في توجيه السهام لروسيا وتركيا، بقوله إنه «يتعين على تركيا وروسيا أن تسحبا من غير تأخير مرتزقتهما وقواتهما العسكرية، لأن وجودها لا يهدد استقرار ليبيا وحدها، بل كل المنطقة». وأكملت ميركل ما بدأه ماكرون بقولها إن الطرف التركي «أبدى بعض التحفظ» في موضوع الانسحابات. وبحسب مصادر حضرت مناقشات المؤتمر، فإن مساعد وزير الخارجية التركي، الذي مثل بلاده في المؤتمر، أعرب عن معارضته الإشارة المباشرة إلى بلده من زاوية أن وجود القوات العسكرية التركية في ليبيا جاء بناء على اتفاقية رسمية موقعة بين حكومة الوفاق خريف عام 2018، والجانب التركي. وبالتالي فإن تركيا «غير معنية» بمطلب الخروج، مشيراً إلى أن أمراً كهذا يسوى بين أنقرة وطرابلس. والحال أن الجميع يدرك وجود خلاف حاد داخل ليبيا بين الشرق والغرب. فبينما يعتبر الشرق القوات التركية «قوات احتلال»، فإن الغرب الليبي يعدها ضمانة وحماية له. أما بالنسبة لروسيا التي تتدخل عسكرياً في ليبيا من خلال مرتزقة مجموعة «فاغنر»، فإن السلطات الروسية تؤكد أنه لا قوات عسكرية لها في ليبيا، وأنه لا علاقة لها بـ«فاغنر». والخلاصة التي تفرض نفسها أنه لا تقدم يذكر تم تحقيقه في ملف الانسحابات، التي تعد أساسية من أجل استعادة ليبيا سيادتها واستقرارها.

ويشير متابعون للشأن الليبي إلى أن الانسحابات تشكل ملفاً خلافياً رئيسياً، وأنه في غياب ضغط دولي حقيقي فإنه أهل ليفجر التفاهمات الهشة بين الأطراف الليبية، نظراً لامتداداته الإقليمية والدولية. وترى مصادر رئاسية فرنسية أن الانسحابات، التي يراد لها أن تكون «متزامنة» و«تدريجية» و«جماعية» مرجحة لانتظار حصول الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتشكيل سلطة جديدة مقبولة من كل الأطراف وغير مشكوك بشرعيتها. ومعنى ذلك أن سلطة كهذه ستكون قادرة بدعم دولي أن تتكلم بصوت واحد، وباسم جميع الليبيين، وأن تمنع اختباء الخارج وراء أطراف داخلية. ولذا، تضيف هذه الأوساط «رابطاً عضوياً» بين الانتخابات والانسحابات، وترى أن نجاح الأولى، التي ركز عليها المؤتمر الدولي وجعلها أولى أولوياته، «ضرورية لكنها غير كافية» لحصول الثانية.

بيد أن هذه الانسحابات لم تكن الوحيدة التي أثارت تساؤلات. فملف الانتخابات كشف عن تباينات بين مواقف رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، ورئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، فيما تسير تكهنات بأن الثاني راغب بالترشح لرئاسة الجمهورية. وفيما يتمسك المسؤولان بنزاهة الانتخابات وشفافيتها وتوافقيتها، فقد كان لافتاً أن الدبيبة طالب بتعديل قانون الانتخابات، المقررة في 24 ديمسبر (كانون الأول) المقبل، وطالب بأن تكون بشقيها «متزامنة». والحال أنه لم يعد ثمة متسع من الوقت لتغيير قانون الانتخابات، الذي يدور جدل واتهامات حادة بشأنه. ومن جهة ثانية، قررت مفوضية الانتخابات أن تحصل الجولة الرئاسية الأولى أواخر الشهر المقبل، بينما تجري الجولة الثانية بعد عدة أسابيع بالتزامن مع الجولة الأولى من الانتخابات النيابية، الأمر الذي يثير كثيراً من الشكوك.

ومن جانبه، طالب المنفي بضرورة «حلحلة جميع النقاط الخلافية لمشاركة الجميع في الانتخابات وتقبل نتائجها». فيما رهن الدبيبة تسليم السلطة للجهة المنتخبة بأن «تتم العملية الانتخابية بشكل نزيه وتوافقي بين كل الأطراف». وفي أي حال، فإن كلا المسؤولين يربط تسليم السلطة بتوفير «ضمانات»، حيث رهن الدبيبة تسليم السلطة بضمان إجراء الانتخابات دون خروقات، من خلال تقديم الدعم السياسي والمراقبة الدولية، ووضع ضمانات حقيقية لقبول نتائج الانتخابات، وفرض عقوبات دولية على المعرقلين والرافضين. وهذه الشروط تفتح الباب لكثير من التفسيرات والتأويلات، فضلاً عن أنها تطرح تساؤلات عن الجهة التي ستوفر الضمانات، وتلك التي ستفتي بأن الشروط المطلوبة لم تتوافر لدى حصول الانتخابات.

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

ماكرون يقر بـ"ذنبه" ويبدأ ترميم وتطوير العلاقات لنزع فتيل الأزمة بين فرنسا والجزائر

انطلاق فعاليات منتدى باريس للسلام بهدف تقليص الانقسامات العالمية ولقاء بين ماكرون وهاريس