عيد شم النسيم

يحتفل المصريون بعيد شم النسيم، الإثنين، وهو أقدم الأعياد التاريخية والمتوارثة منذ 4700 عام تقريبًا، والذي يعد على قائمة الأعياد الزراعية الكونية في مصر القديمة، واصطبغ بمرور الوقت بصبغة اجتماعية ذات صلة بالطبيعة، ووفقًا لـ"بي بي سي" اعتبره المصريون القدماء بعثًا جديدًا للحياة كل عام، تتجدد فيه الكائنات وتزدهر الطبيعة بكل ما فيها، وأيضًا بداية سنة جديدة "مدنية"، غير زراعية، يستهلون به نشاطهم لعام جديد. وكانت الزهور وانتشار الخضرة بشيرا ببداية موسم الحصاد، فكانوا يملأون مخازن الغلال بحصاده، ويقدمون للإله الخالق خلال طقوس احتفالية سنابل القمح الخضراء، في دلالة رمزية على "الخلق الجديد" الدال على الخير والسلام.

واختلف العلماء في تحديد بداية واضحة ودقيقة لاحتفال المصريين بعيد "شم النسيم"، فمنهم من رأى أن الاحتفال بدأ في عصور ما قبل الأسرات، بحسب تقسيم تاريخ مصر القديم. ورأى آخرون أنه يرجع إلى عام أربعة آلاف قبل الميلاد، إلى أن استقر أغلب الرأي على اعتبار الاحتفال الرسمي به في مصر قد بدأ عام 2700 قبل الميلاد، مع نهاية عصر الأسرة الثالثة وبداية عصر الأسرة الرابعة، وإن كانت هذه الآراء لا تنفي ظهوره في فترة سابقة ولو في شكل احتفالات غير رسمية.

وحمل عيد "شم النسيم" طابع الاحتفال الشعبي منذ عصور قديمة للغاية، سجلها المصري في نقوشه على جدران مقابره، ليخلّد ذكرى نشاطه في ذلك اليوم، فكان الناس يخرجون في جماعات إلى الحدائق والحقول للتريض، والاستمتاع بالزهور والأخضر على الأرض، حاملين صنوف الطعام والشراب التي ارتبطت بهذه المناسبة دون غيرها، وحافظ عليها المصريون حتى الآن، في مشهد موروث ومستنسخ كل عام لعادات مصرية قديمة غالبت الزمن.

"طقوس الطعام"
دأبت النقوش المصرية على تصوير مناظر تبرز موائد وأطعمة كثيرة، تتسم بالبذخ أحيانًا من نصيب الطبقات العليا في المجتمع المصري، أمثال الوزراء والكهنة وكبار الموظفين وأصحاب الأراضي، أما عامة الشعب فكانوا ينتظرون الأعياد والمناسبات الاحتفالية لتناول كل ما لذ وطاب لهم من مأكل ومشرب في حدود الإمكانات.

وحرص المصري القديم على أن تضم قائمة طعامه في "شم النسيم" عددًا من الأطعمة التي لم يكن اختيارها محض عشوائية أو صدفة بحتة، بل كانت تحمل مدلولًا دينيًا وفكريًا ارتبط بعقيدته خلال احتفاله بالمناسبة، من بينها أطعمة أساسية كالبيض، والسمك المملح "الفسيخ"، والبصل، والخس، كما حرص على تناول السمك المملح في هذه المناسبة مع بداية تقديسه نهر النيل، الذي أطلق عليه "حعبي" بدءً من عصر الأسرة الخامسة، فضلًا عن ارتباط تناوله بأسباب عقائدية تنطوي على أن الحياة خُلقت من محيط مائي أزلي لا حدود له، خرجت منه جميع الكائنات، أعقبه بعث للحياة ووضع قوانين الكون.

وبرع المصريون في صناعة السمك المملح، وكان يخصصون لصناعته أماكن أشبه بالورش كما يتضح من نقش في مقبرة الوزير "رخ-مي-رع" في عهد الأسرة 18، وتشير بردية "إيبرس" الطبية إلى أن السمك المملح كان يوصف للوقاية والعلاج من أمراض حمى الربيع وضربات الشمس.

وأولى المصريون أهمية كبيرة لتناول نبات البصل، الذي أطلقوا عليه اسم "بصر"، خلال الاحتفال بعيد "شم النسيم" اعتبارًا من عصر الأسرة السادسة، لارتباطه بأسطورة قديمة تحدثت عن شفاء أمير صغير من مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه، وكان البصل سببًا في الشفاء بعد أن وُضع النبات تحت وسادة الأمير، واستنشقه عند شروق الشمس في يوم وافق احتفال المصريين بعيد "شم النسيم" فكُتب له الشفاء، فأصبح تقليدًا حافظ عليه المصريون حتى الآن.

وحمل تناول المصري القديم لنبات الخس في هذه المناسبة دلالة رمزية وعقائدية أخرى، لارتباط هذا النبات بالإله "مين"، إله الخصوبة والتناسل. كما أشارت بردية "إيبرس" الطبية إلى فائدة تناوله كعلاج لأمراض الجهاز الهضمي، ونقل المصريون قديمًا الاحتفال بعيد الحصاد، "شم النسيم"، وطقوسه إلى حضارات الشرق القديم في عهد الملك تحوتمس الثالث "1479-1425 قبل الميلاد" وفتوحاته العسكرية، التي أسهمت في توسع الإمبراطورية المصرية جغرافيًا وخروجها بعيدًا عن نطاق حدود الدولة المصرية، ونشر عادات وتقاليد مصرية غريبة عن هذه الحضارات، فكُتب لها الاستمرار وإن حملت أسماء مختلفة.

ويعتبر عيد "شم النسيم" الاحتفال الوحيد الذي جمع المصريين بمختلف عقائدهم الدينية منذ آلاف السنين، دون أن يلبس ثوبًا عقائديًا على الإطلاق. إن المشهد التاريخي في مصر يُؤْثر التصورات الذهنية التي غالبت الأيام، بعد أن ظلت أرضها المركز الأول لكل حياة، حياة الآلهة وحياة البشر، فكل شئ ينطلق انطلاقًا من هذا المكان.