القاهرة ـ سعيد فرماوي
يبذل مثقفون مصريون جهدًا ملحوظًا لتوصيف وتعريف حقيقة ما حدث في كانون الثاني/يناير 2011، بعد تجدّد الجدل بقراءات مختلفة على محاكمات رموز النظام، الذي أسقطه المصريون.أكدت "ورقة العمل المقترحة للسياسة الثقافية لمصر" أن ما حدث في كانون الثاني/يناير 2011، ثورة غيرت المجتمع المصري، وتوافقت أراء المثقفين المصريين مع هذه الرؤية المُشكلة للسياسة الثقافية المصرية.
ووصف الباحث المصري السيد ياسين، ما يحدث في مصر الآن على الساحة الثقافية، بالعواصف السياسية والاجتماعية والسلوكية، التي أحدثتها ثورة 25 كانون الثاني/يناير، محددًا الملامح الأساسية للخريطة المعرفية للمجتمع الثوري المصري في عدة نقاط، أولها أنّ دور المثقف التقليدي المُعتمد على تبني رؤى نقدية لأحوال المجتمع، والاهتمام بالشأن العام، عبر إيمانه بإيديولوجيات متعددة، سقط لحساب دور جديد ناشئ لمن يطلق عليه "الناشط السياسي".
وأوضح ياسين الملمح الثاني، وهو ظهور فئة الحشود الجماهيرية الهائلة، والملمح الثالث يسير إلى ظهور التناقض بين الشرعية الثورية والديمقراطية"، لافتًا إلى أن الملمح الرابع يتمثل في إصرار الجماهير على المشاركة الفعالة في اتخاذ القرار.
واستهل ياسين ورقة العمل المقترحة للسياسة الثقافية لمصر، بقراءة تحليلية لخريطة المجتمع المصري بعد الثورة، قائلاً "ليس هناك شك أن الثورة غيرت بشكل جذري المجتمع السياسي السلطوي، وحولته إلى مجتمع ثوري، والمجتمع السلطوي هو القائم على أساس احتكار السلطة، عن طريق انفراد الحزب الحاكم بالهيمنة على مجمل الفضاء السياسي، عبر شبكات الفساد، وممارسة التزوير المنهجي لكل الانتخابات، برلمانية أو رئاسية".
وأكد ياسين أنّ الثورة لم تمح كل ملامح المجتمع السلطوي، لأن السلطوية ليست مجرد نظام سياسي استبدادي، ولكنها ثقافة تغلغلت في نسيج المجتمع، وتسببت في الخوف الشديد من السلطة، وأسست للوعي الزائف الذي مؤداه أن الجماهير تعجز عن مقاومة الاستبداد، وعدم اتخاذ المبادرة في المعارضة الجذرية، لتغيير سياسات النظام المُنحرفة أو في الانتفاضة الثورية لقلب النظام.
وكشف ياسين أنّ الثورة غيرت عديدًا من الملامح السلطوية، مشددًا على أننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة، وسماته تتلخص في سقوط السرديات الكبرى، أو الانسياق الفكري المغلق، الذي يأخذ شكل الايديولوجيات المصمتة، كالماركسية المتطرفة، أو الرأسمالية الجامحة.
وأعلن ياسين أنّ الكاتب المنهجي يخوض في غمار هذه العواصف التي أثارتها الثورة، مستخدمًا استراتيجية الكتابة المُعتمدة على تكتيكات مختلفة، منها التقدم والتراجع.
وبيّن ياسين أنّ هذه الأزمة لها مؤشرات متعددة، أهمها الخلط بين الثورة والفوضى ويكمن الموضوع في الخلط بين الشرعية الثورية والديمقراطية، مُتضمنة مظاهر أزمة القيم "نسف التربية الاجتماعية، ومحاولة نفي الأجيال القديمة".
ووسط جدل ثقافي حول اشكاليات وظواهر ثورات الربيع العربي، قال ياسين "ظننا أنّ هذه الثورات هي سياسية في المقام الأول، غير أننا لو تأملنا الموضوع مليًا، لأدركنا أن التعريف التقليدي يعاني قصورًا شديدًا، لتركيزه على البعد السياسي المُتعلق بالقضاء على النظام القديم، ولم يتطرق إلى جوهر ثورة حقيقية، وهو أن يكون لها توجهات فكرية وثقافية جذرية، مع الممارسات السابقة، وتُشكل بنية جديدة للمجتمعات الواقعة فيها هذه الانتفاضات الجماهيرية".
وطرح ياسين تساؤلاً "هل نجحت الانتفاضات الجماهيرية في كل من تونس ومصر وليبيا في الشروع لتأسيس مجتمعات جديدة قادرة على تحقيق أهداف الثورة، أمّ أنّ هناك عقبات تقف عثرة في تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي؟".
واعتبر ياسين أنّ أكبر أسباب التعثر هو غياب قيادة هذه الثورات، إضافة إلى افتقدها الايديولوجية بمعنى نظرية متكاملة تحدد أهداف مجتمع ما بعد الثورة، وطرق تحقيقها بوسائل محددة، مضيفًا "ولو تجاوزنا مؤقتًا عن هذه العقبات، وهي أحد الأسباب الحقيقية للتعثر، فإن الأخطر هو تراكم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بصورة غير مسبوقة في هذه المجتمعات، وهذا التراكم يُمكن أن يجعلها من مجتمعات المخاطر، فالمؤشرات الاقتصادية تؤكد أن ما لا يقل عن 26 مليون مصري يعيشون تخت خط الفقر بكل ما يعنيه ذلك من دلالات خطيرة، مع معدل أمية يصل إلى 40%من السكان".
وأشار الكاتب عبد الله السناوي إلى أنّ ثورة كانون الثاني/يناير لم تكن مؤامرة، ولكن ثغراتها سمحت بالانقضاض عليها وذهاب نتائجها إلى غير أصحابها.
وتساءل الكاتب والمحلل أسامة الغزالي حرب، "بعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام ونصف العام على الثورة، هل يوجد اليوم تأريخ لها وفقًا للمعايير العلمية لكتابة التاريخ؟ موضحًا أنه من بين المادة الخام اللازمة لكتابة تاريخ الثورة، المذكرات الشخصية لصانعي تلك الوقائع والمشاركين فيها، ويوميات الأحداث التي تم رصدها في الصحف ووسائل الاعلام، مضيفًا "من حسن الحظ أنّ الثورة قامت في وقت الاتصالات والمعلومات التي أتاحت إمكانية التسجيل الدقيق والمُفصل لكل الأحداث".
وطالب حرب بعض المثقفين بسن قانون يُعاقب من يشوه أو ينكر الثورة، لوقف العبث بالذاكرة المصرية والتعدي على قصة كفاح الشعب المصري.
وأبرّز نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد، قدرة الثورة على إزالة نظام استنزف نفسه ووصل إلى نهايته، لأنه لم يستطع تلبية مطالب التغيير الملحة.
وقدم الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، اسهامات عميقة بشأن الجدل المستمر بين المثقفين للتمييز بين "الثورة" و"حالة الثورة"، موضحًا أنّ "الثورة" دورة كاملة لها بداية وذروة، و"حالة الثورة" نفس النوع، ولكنها فصيلة مستجدة جاءت بها تطورات العصور، فهي رفض وتمرد على وضع قائم، وغير قابل للاستمرار، وحركة متدافعة وسلطة قديمة تسقط، مشيرًا إلى أنه برغم الحركة الجارفة للجماهير إلا أنه ليست هناك فكرة جامعة تحشد للمستقبل ولا قيادة معترف بها تقود الحشد وتوجهه، وإنما هناك فراغ يمنع الدائرة من أن تكتمل.
وشرح هيكل تصوره لحالة الثورة، والفارق بينها وبين "الثورة" من منظور ثقافي، قائلاً "المسألة ذاتها جرت بمستجدات العصور نفسها في الأدب والفن، كما في قضايا السياسة وضمنها قضية الثورة، فالنهايات تظل عالقة لبعض الوقت، بينما الأعمال الأدبية والفنية ليس لها نهايات تقليدية، بل تترك الدوائر مفتوحة".
وشدد هيكل على أن حالة الثورة تواصل حركتها بالقلق والعصبية، وتكاد تقارب الفوضى، أو تتحول بالفعل إلى فوضى، لأنها تدفق تلقائي ليس لديه مسار معلوم وليس في أخره مصب معين، مضيفًا "هناك معضلة تتصل بعلم الثورة في حد ذاته، وأصبح بالفعل علمًا مستقلاً ضمن منظومة العلوم السياسية، وهناك متغيرات كبرى لحقت بقضية الثورة".
وأوضح هيكل أنّ قضية الثورة لم تعدّ التصورات المعروفة والمحددة في الأدبيات الشائعة، وإنما هناك مستجدات أتت فيها أحوال جديدة مازالت تفور وتتفاعل في العالم، منوهًا بأن "حالة الثورة" لها إيجابيات، منها أنها أظهرت في مصر قوى الجماهير بأنها عنصر أساسي في المعادلة الوطنية، وفعلها مؤثر وتجاهله خطر.
ولفت هيكل إلى أنّ الأوضاع بعد الثورة كشفت غياب الفكرة، وغياب القيادة، وغياب الجسر، ألى المستقبل، مظهرة أعراض "حالة الثورة" دون تشخيص لطبيعتها، معتبرًا أنّ المهم الآن هو تفهم حالة الثورة، وساحتها الواسعة، وطبيعتها المختلفة، وتحديد مجالات ومسارات وملفات على رقعتها، وتتبع كل مجال، ومسار، وملف، والتصرف حياله.
ورأى الأستاذ المتخصص في العلاقات الاقتصادية الدولية في معهد التخطيط القومي محمد عبد الشفيع عيسى، إنّ حادث 25 كانون الثاني/ يناير أمكن التعبير عنه بلاغيًا بمصطلح ثورة، لذا أطلقنا عليها مسمى "ثورة 25 يناير"، مضيفًا "وعلى سبيل الدقة العلمية فإنه من الأفضل أن تسمى انتفاضة ثورية عظمى، لكونها أسقطت نظامًا سلطويًا جبارًا، ولم تتمكن من إقامة نظام جديد، لافتقادها المقومات القيادية والعقائدية والتنظيمية اللازمة، فالذي قام في البلاد هي نصف ثورة".
وفي ضوء الجدل المستمر حول ما حدث في مصر منذ ثورة كانون الثاني/يناير، وجه الباحث المرموق نبيل عبد الفتاح تساؤلاً، "هل سيتم تجديد الدولة وسلطاتها وخلاياها وشبكاتها وقواعد عملها عبر المقاربة الثورية تخطيطًا وسياسات واستراتيجيات عمل، أمّ أن المتوقع هو سيادة ذهنية الإصلاح السياسي والإداري والمؤسسي؟ وهل يمكن الدمج بين النزعة الثورية والمنهج الاصلاحي؟".
واختتم المثقف المصري جلال أمين الجدل المستمر بسؤاله "إلى أين تسير مصر؟ فاللحظة المصرية الراهنة تحتاج إلى جهد توثيقي لرصد أهم التطورات التي شهدتها مصر منذ اندلاع الثورة".