القاهرة - ياسر جاد
جاء لقائي الأول مع أعمال الفنان الكبير صلاح حماد من خلال تلك الكتلة البرونزية المجردة. والتي مثل فيها طائر "الغراب" الواقف مضموم الجناحين والملتفت إلى الخلف. تلك الكتلة التي حملت درجة لون (بتينة) محاكية نوعًا ما لتلك الدرجة اللونية التي يكون عليها ذلك الطائر ذو المسحة الفلسفية الأولى في التاريخ. وقد دارت عيناي كثيرا حول تلك القطعة التي أعتبرها من أهم أعمال الفنان الكبير صلاح حماد. وإن كان الفنان صلاح حماد نفسه أو غيره قد يرون في غيرها من أعماله تلك اﻷهمية. إلا أنني وجدت نفسي أستحضر تلك اللحظة التي صدر لي فيها ذلك الطائر تلك الحكمة التي تأتاها بغريزة عالقة بسلوكه الاجتماعي.
ومارس فيها أول طقس دفن للموتى في التاريخ، معلما البشر ما يجب عليهم تجاه موتاهم، فوجدتني من خلال ذلك العمل ووضعية جسد هذا الطائر والتي صاغها الفنان الكبير صلاح حماد وأخرجها في أقل خطوط ممكنة، وبسهولة أضافت لحالة التعبير في الكتلة ما يلزمها لتأكيد ما قفز إلى ذهني، فوجدت خيالي قد اجتر تصوري القديم عن تلك الرواية، ففي جانب المشهد يتمدد هابيل مدرجا في دمائه وبجانبه مذهولا أخوه قابيل جاثيا على ركبتيه يفترسه ندم الفعل بقتل أخيه من جانب، وحيرة التصرف في جسده الهامد من جانب آخر، ويأتي طائر الغراب على الجانب اﻵخر وأمامه نظيره الميت، ليلتفت إلى قابيل في حسرة من جراء جهله.
ثم يريه كيف يواري سوءة أخيه، ووجدت طائر الفنان صلاح حماد يتداخل مع ذلك التصور العالق في ذهني، وتأتي التفاتته لتحرك ذلك الحوار المقتضب في خيالي، وكأنه يقول لقابيل في سخرية مشوبة بالحسرة، وبسؤال استنكاري. آلا تعرف كيف تواريه؟ آلا تعرف كيف تمنحه رشفة الكرم اﻷخيرة؟.
وبعيدًا عن تصوري ومشهدي المجتر، فقد تعامل المثال صلاح حماد مع تلك الكتلة باختزال سهل وبسيط، أوصله إلى صياغة كتلته من أقصر الطرق مناسبة لمفهوم العمل. فلم تطال الكتلة مبالغة ذات تفاصيل مجهدة، ولم تغلب عليها بساطة تنتقص من مغزى جملته ومفهومه. فصارت صياغته متماشية مع ذلك الحوار الفرضي المقتضب الذي دار بين الغراب المعلم وقابيل التلميذ في خيالي كمتلقي يمتلك فضول التفسير.
وبالدخول إلى ساحة أعمال صلاح حماد. نجد ذلك التنوع في الحلول والتناول. وإن غلب على معظم أعماله ذلك الجانب التجريدي، وإن سيطرت المدرسة التكعيبية على غالبية الأعمال. وأسلوب الرمز المحمل بالدلالة. وبعض الارهاصات الغامضة التي يمتلك وحده تفسير مغزاها. إلا انها تميزت بإحداث علاقة ما مع فراغ محيطها. ونلحظ غلبة ميله إلى العمل في الكتل الصرحية، وكذلك نجد بعض تلك الأساليب التي تحمل درجات متفاوتة من المحاكاة والتأثير والتشخيص في بعض الأعمال، وإن كان يفضل تلك الأساليب التي تميل إلى التجريد المحمل بدلالة ما، إلا أنني من خلال استعراضي لكامل تجربته فيما شاهدت من غالبيتها، حيث انني أجدها واحدة من تلك التجارب ذات التنوع والانتشار ، وأعماله واحدة من الأعمال التي تجذب إحساس المتلقي وتدفع فضوله إلى تلمس العمل والتواصل معه حسيا.
كما أنها تجربة حملت درجة من درجات الفضول والتحدي في التعامل مع كافة الخامات والمواد، فنجد في تجربته تلك الأعمال المصاغة من خامة البرونز ، وأخرى من تلك الأحجار الكلسية بدرجاتها وأصنافها كأحجار الجلالة والرخام بأنواعه ، والثالثة من خامات الأحجار النارية الصلبة والصعبة التناول كالجرانيت والبازلت وغيرها.
كما جذبه فضوله وتطلعه إلى العمل في خامة الجليد والتي تناولها بمهارة لا يستطيع معظمنا إنكارها، ولم يفوت فرصة التعامل مع خامة الحديد بعمل ميداني من خلال مشاركته في إحدى الفعاليات النوعية للنحت بتلك الخامة ، والتي يتطلب التعامل معها تقنية مختلفة وأساليب حرفية لدرجة كبيرة.
وصلاح حماد هو واحدا من المثالين المصريين الذين خاضوا تجربة الاحتكاك الخارجي بشكل موسع ، وأتاحت له إقامته لفترة ليست بالقصيرة في "بترا سانتا" الايطالية تلك الفرصة للتواجد فى عالم الكبار، مما أتاح له ذلك الاحتكاك الجيد وصقل الخبرات بصورة ممنهجة، استطاع من خلالها أن يتواجد في قلب فعاليات دولية كبرى ، من خلال أداء يتسم بكونه من صنف السهل الممتنع ، فأعماله منتشرة في كثير من الحدائق العامة والميادين في العديد من دول العالم ، من فيتنام وكوريا والصين شرقا ، إلى الولايات المتحدة غربا مرورا بالعالم العربي في الامارات العربية ، ومصر ، وتونس ، ودول أوروبا في اليونان ، وإيطاليا ، والسويد ، وتركيا ،وألمانيا ، وجمهورية التشيك.
وتعد تجربة الفنان الكبير / صلاح حماد واحدة من التجارب المرنة والتي تتقبل التطوير الذي انعكس عليها من جراء تلك الخبرات التي تراكمت بفعل كثرة المشاركات الدولية ، والاحتكاك بثقافات عديدة ومتنوعة ، اندمجت جميعها مع رغبته الشخصية ووجهة نظره في تناول قضاياه ومفرداته في أعماله على مر مشواره الفني ، فقد تدرجت تجربته وتنوعت لتناول العديد من المفاهيم والموضوعات ، بل وإيجاد حلول غير نمطية ، كما لم يكن من هؤلاء المثالين الذين يتسم آدائهم بالجمود ، فقد تعامل مع الكتلة في صورة حوار مفتوح يقبل التداول ، كما جاءت الخامات الدخيلة على أصل خامة العمل موظفة بشكل خادم لأعماله ، كاستعانته بدعائم معدنية حاملة للكتلة في تلك المناطق التي تفرض على المثال أن يضحي بعلاقة ما تحدثها الكتلة نتيجة انبثاقها من جزء ضعيف لا يتحمل وزنها ، إلا أن الفنان صلاح حماد كان من هؤلاء الرافضين للتضحية بعلاقة كتلته بفراغها نتيجة منطقية حساب الوزن ، فجائت حلول العائم الفولاذية بمثابة حلا بسيطا وسهلا وجيدا للحفاظ على دراما الكتلة حسب مفهومه ، ولعبت تلك الدعائم الرقيقة والمصقولة دورا في إضافة نوعا من الكماليات الخادمة لجماليات الكتلة . وإعطاء المتلقي إحساسا بأنه أمام كتلة معلقة.
كما تميزت العديد من أعماله الميدانية بذلك الكيان المركب والذي يأخذ من انتباه المتلقي ويجعله يدور حول كتلته المركبة والمتداخلة بدافع الفضول في اكتشاف كيفية التداخل بين أجزائها لتكوين شكلها النهائي ، ولا أدل على ذلك من منحوتته المركبة والتي أسماها "الأسرة" والتي تقع في الساحة المقابلة لشركة "فورد" للسيارات فى ولاية مينسوتا الأمريكية ، وهى بارتفاع 320سم وبعرض 280سم واستخدم فيها الفنان / صلاح حماد خامة أمريكية محلية وهي الرخام اﻷميركى اﻷصفر، وهي من اﻷعمال التي تتسم بتلك العلاقات الهندسية التي تجمع بين العديد من الاشكال الهندسية كأنصاف الدوائر والمثلثات والمستطيلات في تداخل محكم سيطر فيه الفنان على ترابط التكوين ، وعلى الرغم من جمود مفرداتها هندسياً فقد استطاع الفنان صلاح حماد بلمسته إضفاء مسحة من النعومة المستساغة بصريا ليجعل التكوين متناغماً وله صفة التميز في تلك الساحة.
وقد جاءت مشاركة الفنان / صلاح حماد في بينالى " فينيسيا" في دورته الخمسين واحدة من المحطات الهامة في مشواره الفني، والتي تعامل معها من خلال عمل من الخشب يمثل أحد المراكب والمعلق عكسيا بارتكازه على عشرة من المجاديف ويتدلى منه أحد الحبال السميكة والتي تمثل المرساة . وقد أخذت المركب شكلا بسيطا ينم عن تلك الرشاقة التي كانت عليها مراكب الشمس في مصر القديم. كما لعبت تلك الاضاءة المحسوبة بعناية دورا في إضفاء جو من الغموض والمهابة على العمل، وجاء ذلك المنسوب الخاص بارتفاع العمل واحدا من نقاط القوة في العمل ، وأدى اختيار الخامة إلى تأكيد المعني بشكل كبير ، وأجمل ما في العمل من وجهة نظري هو ذلك المفهوم الشديد المصرية الذي تعامل به الفنان / صلاح حماد مع تلك المشاركة الهامة والتي تعد من أهداف العديد من الفنانين في مصر والعالم بشكل عام.
ولا يمكن إغفال تلك التجربة المميزة والتي تناولها الفنان صلاح حماد في "أستونيا" والتي أجزم بأنها من التجارب العالقة في ذهنه، والتي تعامل فيها مع خامة مغايرة تماما وقد لا تداعب خيال العديد من النحاتين نظراً لعدم توافرها ، وكذلك توافر الظروف المناخية المرهونة بها ، تلك التجربة التي تناول فيها تنفيذ عملين تجريديين من الجليد ، ومساحة ليست بالصغيرة وجاء متوسط أبعادهما 280سم ، 80سم ، 40سم . وهي واحدة من التجارب التي تمنح الفنان نوعا من البهجة والاحساس بشمولية تداوله للخامة.
إلا أن هذا الزوج من البورتريهات التي نفذهما صلاح حماد في "بترا سانتا"، هما عملين من اهم أعمال تجربته، لما يحملانه من تناول حداثي. ومارس خلالهما ذلك التجريد الهندسي، وأحدث فيهما تلك اﻹزاحات الجريئة في خطوط بسيطة وسهلة وأوجد من خلالهما تلك التعبيرية التي قد لا يستطيع العديد من المثالين إحداثها في الوجوه مع مثل ذلك الاسلوب المتبع ، ومارس فيهما هوايته في إحداث أقل الخطوط والزوايا سواء بالحذف الغائر أو الاضافة البارزة ، كما جاء حل ارتكاز كلاهما على تلك الاسطوانة " البار" الفولاذية والتي منحت كلاهما حلا حداثيا غير مفتعل ، كما أجبرت المتلقي على آلا تغادر عينيه تفاصيل الوجه ، وجعلته يستغنى عن ذلك الفضول في مشاهدة الربط بين الوجه والجسد من خلال منطقة الرقبة التي حذفها كلياً الفنان الرائع صلاح حماد . وقد جاءت البتائن الكلاسيكية للبرونز بدرجاتها المائلة للاخضرار المجنزر في كلا العملين غاية في التوفيق وخادمة لمفهوم التجريد غير المبالغ فيه.
والقراءة في أعمال الفنان الكبير صلاح حماد قد يقصر عنها مثل ذلك المقال، إلا أن أسلوبه من السلاسة والبساطة المغلفين بنوع من العمق بما يمنح للمتلقي سهولة قراءة أعماله، ففن صلاح حماد من صنف الفنون التي يصدرها المبدع للمتلقي في غير تعقيد وإن كانت هناك بعض تلك الأعمال التي تحمل نوعا من الغموض في تناول كتلتها ربما لجملة حوار خاصة به هو شخصياً.
لا أنها تمنح المتلقي نوعا من الحرية في التناول وإطلاق العنان لجمح الخيال والتصور والخروج من عملية المشاهدة والاستمتاع بإشكالياته الخاصة، مما يمنحه هذا الحوار البيني في داخله، كما يمنحه مساحة تفسير قد تنعكس عليه بالإيجاب، وأعلل السبب في ذلك إلى حالة التجريد التي يحرص عليها، ولا استطيع أن أجد وصفا لتجربة الفنان صلاح حماد غير أنها تجربة جادة ومتنوعة يطوف بنا من خلالها لنرى تجريدا على خلفيات متنوعة.