جانب من معرض الفنان هيرونيموس بوش

تشجع المعارض الفنية الزوار الصغار على مطاردة عنصر واحد مثل ببغاء أو قبعة حمراء أو شجرة ليمون أو حتى لوحات على الجدران، وهذا ما فعله الفنان هيرونيموس بوش من خلال لوحات الزيت على خشب البلوط والرسومات بالقلم والحبر التي جمعت كاحتفال فريد بأعماله في مدينته بجنوب هولندا.

واستطاعت لوحات بوش أن تشغل المشاهدين والنقاد على مدى خمسة قرون منذ وفاته في المدينة التي عاش فيها دائما عام 1516، والتي يعتبر الكثير منهم أن لوحاته ال20 رسوماته ال19 لن تتكرر أبدا، والتي يعكس فيها خصائص الانسان الوحشية والحيوانات وخصوصًا البوم ليعكس روح التشاؤم للعالم.

وتعتبر لوحة القديس جيروم في الصلاة كمثال واضح على الحالة الفنية لبوش والتي كانت في متحف الفنون الجميلة في جنت، وهذا القديس الناسك هو نفسه بوش الذي ولد باسم يروين فان أكين ولقب بهيرونيموس بعد لك، وأصبح له مكانة مثلثه مثل بانكسي أو جليبرت وجورج.

وتعبر هذه اللوحات عن الشهوات الجنسية في مزيج من العناصر مثل الفراولة و الصليب، وشجرة في الخلف مع بومة بتلميحات صفراء من العينين والمنقار، هي بالأصل ثلاث نقرات سريعة للفرشاة على اللوحة الغامقة.

وتشير البوم في لوحاته الى الطيور الشريرة وسوء الطالع بدل من الحكمة، التي تطل من خلال عيونها الثاقبة والتي توجد أيضا في كل شخصياته سواء بشرية أو حيوانية أو ملائكية أو شيطانية أو مزيج من كل هذا، أما في لوحة ايك هومو التي وضعت في متحف فرانكفورت التي حشدت حولها الكثير من الأراء، يصور فيها بوش مجموعة من الأشخاص الذين يحملون كئوسهم باتجاه يسوع المسيح، الذي رسمه مع تاج من الشوك على رأسه.
ويمكن فهم لوحات بوش بأشكال مختلفة سواء بطريقة مثقفة أو كونها مقتصرة على فئة معينة أو عادية، إلا أن الأكيد أنه يحب الأجراس الضخمة، والخوذ والمداخل التي تزيد من العذاب، والتي يشعر المشاهد للوحاته بإحساس قوي من العذاب، مع البومة أيضا في كل اللوحات وكأنها أصبحت بمثابة التوقيع.
ويقدم في ثلاثية القديسين النساك من البندقية، القديس جيروم وهو يصلى على صليب له في أنقاض قصر للوثنية، على ذراع عرش محطم بجواره لوحة مرسوم عليها حمار ورجل يحمل عصا تجلس عليها بومة، وتنظر هذه البومة باتجاه المشاهد تماما، ويبدو أن بوش يحاول من خلالها أن يوصل للمشاهد فكرة حول حماقة الانسان ومصير البشرية الغافلة، وكأنه يسأل الجميع ماذا هم فعالون وكيف سيصلحوا أحوالهم؟

ويؤرخ المعرض لخمسة قرون منذ وفاة الفنان، ويشير مدير المعرض شارل مواجي " ربما لم يرى بوش بنفسه كل هذه الأعمال له مجموعة في مكان واحد." وشرح كيف بدأ العمل على جمعها كلها كي تعود الى مسقط رأسه منذ عام 2007، استطاع من خلالها جمع اللوحات من الكثير من المتاحف والمدن من كانساس الى البندقية ومن بوسطن الى برلين، والتي لم ترفض أي منها العرض بتقديم اللوحات في المقابل سيقدم هو كل التقنيات البحثية والخبرات لتوسيع تحليل اللوحات وزيادة فهمها، ويشير " اذا لم نتمكن من تقديم العمل الفني، فعلينا بدل من ذلك أن نقدم الكنز النادر المتمثل في توفير المعرفة عن بوش وأعماله."

وسيتسمر المعرض حتى شهر ايار/مايو، ولم تستطع لوحة واحدة من الوصول الى وطنها وهي موجودة في مدريد، ولكن المعرض عوض هذا النقص من خلال نسخة عالية الجودة من نفس اللوحة مما يظهر انتشار لوحاتها في أوروبا خلال القرن ال16.

ويؤكد عمدة البلدة تون ربموتس " هذه الفرصة الوحيدة في العمر لتجربة عظيمة لجمع كل لوحات بوش في المدينة التي رسم فيها هذه اللوحات." وسيشهد المعرض على مدى الأشهر المقبلة جولات تفاعلية وعروض خاصة في الموقع، وستستفيد المدينة من زيارة السياح، وتقدم لهم فرصة للتمتع بالمناظر الطبيعية غير الملوثة.

وألف تسع خبراء في عام 2010 بحوث حول بوش ألقوا فيها الضوء على حياته الغامضة والمنزل الذي كان يعيش فيه ورسم لوحاته فيه وهو ما زال قائما حتى اليوم، واستطاعوا أن يصمموا تطبيق على الكمبيوتر لتوثيق الاعمال الفنية التي تسمح للمستخدمين بأخذ عينات رقمية من صور بوش.

ويعتبر بوش من السرياليين الرائدين، ويعتبره اسلاف فرويد بمثابة فيلسوف أخلافي ذكي ساخر خدم الأشكال التقليدية من التقوى بذكاء وخيال البرية المظلم، واستطاع نجل الرسام وثلاثة أشقاء له مواصلة مسيرته والحفاظ على ارثه بدون أي أزمات أو خلافات يذكرها التاريخ.

واستطاع هذا الرجل الاختباء على مدى عقود في ساحة السوق في المدينة الهولندية البعيدة، ولكنه أصبح من علية القوم والنخبة من خلال انضمامه الى نادي الروتاري، وقد عكس الكثير من حياة المدينة داخل لوحاته، ويشير مدير المعرض " اذان كان العملاء المحتملين في مدن أخرى يريدون أن يجدوا أعماله فعليهم أن يأتوا الى مدينته."
ووصفه سي جي يونغ بمكتشف اللاشعور، ورسم لوحاته على أقمشة محلية الصنع واختار حياة رصينة بدلا من البرجوازية التي كانت من مخلفات القرون الوسطى، وتزوج أليد فان دير ميرفين وكان مشغولا دائما بإدارة ورشته والرسم، ولم يفقد أبدا احترام زبائنه.

ولم يرسم أحد بالطريقة التي رسم فيها بوش من قبله ففي لوحة "هيوان" التي غادرت اسبانيا لأول مرة منذ 450 سنة ينصب فيها كرنفال الغزل والفخر والجشع الشهوة وكأنه يقول " ان العالم أشبه بالعربة، يستطيع الجميع أن يأخذ منها ما يريد" واستطاع بذلك أن يقدم مفهوما ثوريا من خلال لوحاته.

ونمت وحوشه في الهوة بين الحياة الرمادية والعمل والوردي، وشهدت أولى بطولات رؤيته المبكرة نوع من سخرية الواعظ التي لا تزال تعطي الواعظين الجدد مفتاح لأعمالهم، أراد بوش من خلالها تصحيح حماقات وأخطاء علماء الدين من اسبانيا الى هولندا، وأصر الراهب خوسيه سيغوينزا في عام 1605 قائلا " لو كان هناك حماقات في أعمال بوش فهي ليست منه بل منا نحن."

ووجد أتباع يونجية وفرويد في رسوماته أعراض شخصية مضطربة، فيما اعتقدت اريكا فروم أن رسوماته تعبر عن أوهام ضارة متعددة الأشكال يعاني منها أشخاص مثلي الجنس يعرض فيها خوفه من حياته الجنسية، وقال فيلهلم فرانجر في عام 1947 أن بوش لم يحذر من حفلات السمر المثيرة بل صورها باعتبارها أعلى شكل من أشكال البراءة، ولكن في النهاية استطاعت أعماله أن تعلن عن تعاليمه التحررية والمشفرة.

وأثرت موضوعات بوش السريالية على الفنان الشاب سلفادور دالي الذي رسم صورا يطمس فيها الحدود بين الحياة واللاحياة والوجود واللاوجود والليونة والصلابة بطرق شبيهة ببوش، ولكن عندما عرض عليه الامر احتج ونفى وقال " انا مضاد لهيرونيموس بوش" وتأثر به سرياليون آخرون مثل جوان ميرو ويونورا كارنغتون، وأصبحت لوحته "حديقة المباهج الأرضية" المفضلة لنى فناني البوب، في محلات التسجيلات وكذلك في المعارض.

واستخدمها المغني ديب بيربل كغلاف لألبومه الثالث في عام 1969، بعد عدة سنوات من معرض 1967 الذي أقيم لأول مرة في مسقط رأس بوش وقدمت فيه أكبر عدد من لوحاته، والتي زاره أكثر من 300 ألف زائر، في نفس السنة التي سيطرت على عقل الشباب الاوروبيين روح التمرد الموجودة في لوحاته.

وعادت لوحاته مع عصر الحروب العالمية ثم الحرب الباردة، ليبرز بلوحاته كنبي للآلام والتعذيب، في فترة شهدت الكثير من الأهوال والإعدامات والحرق وانهيار القلاع، وفي دراسة أجراها المؤرخ الهولدي يوهان هويزنجا حول انحسار العصور الوسطى، قال أن هذا الانحسار تنبأ بمزاج القرن ال20 من العذاب.

وتأثر به في الجيل الجديد الكثير من الرسامين منه الهندي البريطاني المولد راكيد شوا و الأمريكية كالا غانيش من خلال فيلم يتحدث عن البؤس والعذاب على طريقة بوش السريالية، وغزت لوحاته عالم صناعة الملابس والأحذية حيث الكثير منها مطبوع على الاحذية والحقائب.

وستعيد أعمال هذا الرجل بعض التألق الى مسقط رأسه، وكلف المنظمون في المقابل كبار الفانين اليوم بعمل لوحات ردا على رؤاه الفنية، التي ستعرض في وقت لاحق من العام مثل بيتر غريناواي وجيك ودينوس وتشابمان هذا الى جانب العمل المسرحي الرقصي الذي قدمته المبدعة الهولندية ناني بينيج المستوحاة من أعمال بوش.

وتشير " مثل كل المعجبين ببوش سألت نفسي ماذا سيحدث لو أصبحت هذه الصور حية، أحب الاعمال التي تجمع بين الحيوانات والبشر في اطارات ضخمة ولوحات مظلمة." وبالرغم من مرور خمسة قرون على أعمال هذا الفنان الى أن لوحاته ما تزال تملك الكثير ليقال عنها.