لندن ـ مصر اليوم
في العاشرة من عمري عندما كنت أتصفح كتاباً في منزل جدي، صادفت صورة للمسجد الكبير بمدينة «جيني» في مالي بغرب أفريقيا، وظننته أغرب وأروع مبنى على الإطلاق. كان بني اللون وأشبه بقلعة رملية يشعر المارة إلى جوارها وكأنهم أقزام، ولذا أردت الذهاب لمشاهدتها عن كثب.
نجحت في تحقيق ذلك في نهاية المطاف ووقفت أمعن النظر إلى جدران المسجد الكبير تحت أشعة الشمس وفي ضوء القمر. وخلال زيارتي الأسبوع الماضي لمعرض أقيم في متحف «متروبوليتان» للفنون تحت عنوان «الساحل: فن وإمبراطوريات على شواطئ الصحراء» شعرت كما لو أنني قد عدت إلى هناك مرة أخرى لكن مع إضافة مشاهد أخرى من خارج كوكب الأرض بما في ذلك بعض المنحوتات الراقية التي لا تقل سمواً عن المسجد ذاته.
كلمة «الساحل» مشتقة من الكلمة العربية التي تحمل الحروف ذاتها والتي تعني الشاطئ، وهي الاسم الذي أطلقه التجار الذين يعبرون الصحراء الفسيحة المطلة على المحيط منذ قرون إلى الأراضي العشبية التي ميزت الحافة الجنوبية للصحراء، وهي التضاريس التي تضم الآن مالي الحديثة وموريتانيا والنيجر والسنغال. وبحسب الأدلة التي عرضتها فنون منطقة الساحل، فقد بدت الثقافة التي شهدها المسافرون وكأنها هجين غني ومحير في الوقت نفسه. لا تزال تلك الشواهد الهجينة موجودة في الغرب، وهو ما يفسر سبب بقائها خارج البوتقة الأفريقية المعهودة.
أقرأ أيضًا:
مبيعات قصور الثقافة تتجاوز 20 ألف كتاب خلال أولى أيام معرض الكتاب
لطالما نظر الغرب إلى أفريقيا بمنظور ضيق كوسيلة لممارسة الهيمنة. فالفن الأفريقي يعني بالنسبة للغرب منحوتة خشبية أو معدنية في أنماط «قبلية ثابتة لا تتغير مطلقاً. ويعني ذلك وجود خلاف على أشكال مستعارة من مكان آخر - مثل عصر النهضة في أوروبا، أو العالم الإسلامي الكبير. بكلمات أخرى، الفن الأفريقي شيء يمكنك التعرف عليه على الفور وتسميته.
لكن معروضات متحف «متروبوليتان» تظهر خلاف ذلك، إذ إن نظرة واحدة حولك ستظهر أن الأمر مختلف تمام الاختلاف وأن التنوع هناك بالغ الثراء. فهناك أفكار جديدة نبعت من التربة المحلية وجاءت من بعيد، فالأعراق والآيديولوجيات تتلاقى وتتقابل، لأن التأثيرات الثقافية تتلاقي في مرحلة ما، وتتباعد في أخرى، وتسير في مسارات متعددة، وهو التعريف الأساسي للتاريخ.
إن الهدف الأساسي من هذا المعرض هو إثبات أن الفن الأفريقي له تاريخ، أو تواريخ عديدة. وإذا كان من الصعب تحديد تاريخ فنون الساحل، فإن السبب هو اختفاء كثير من أدلته. فقد أحدثت الطبيعة تدميراً للآيديولوجيا، ناهيك عما فعلته أعمال الحفر والنهب، ورغم ذلك لا تزال هناك كميات لا حصر لها من الآثار مخبأة في باطن الأرض.
بالنظر إلى كل ذلك، فقد جرى جمع 200 قطعة فنية في معرض «متروبوليتان» لتبدو للناظرين كأعاجيب. وعمل منظمو المعرض، أليسا لاجاما، أمينة المعرض المسؤولة عن قسم الفنون في أفريقيا وأوقيانوسيا والأميركتين، والمنسق المساعد يائيل بيرو، والباحثة حكيمة عبد الفتاح، على صياغة قصص وخلفيات تلك المعروضات بمهارة كبيرة.
من أهم المعروضات تمثالان قديمان: أحدهما تمثال عملاق يبلغ طوله سبعة أقدام ويرجع تاريخه إلى القرن الثامن حتى التاسع الميلادي، ويعد أكبر أعمال المعرض. التمثال الثاني أقدم بكثير، حيث يعود تاريخه إلى 2000 عام قبل الميلاد. لكن حجم التمثال صغير للغاية، إذ لا يتجاوز حجم حصاة صغيرة لكنه يرمز إلى المرأة وقوتها الإنجابية.
رغم أن المقصود من هذه التماثيل لا يزال غير معلوم، فإنها رسمت للقائمين على المعرض خطاً بيانياً حددته تواريخ وسمات كل قطعة بعد أن وضعت في صفين في صالات العرض الصغيرة مع مسار واسع بينهما. وتراصت القطع كأنها حرس شرف ضم عشرات المنحوتات المعدنية والخشبية وكأنها فرسان.
جاء موكب الفرسان فكرة جميلة، فقد تنوعت الصور التي غطت فترة زمنية واسعة من القرن الثالث حتى القرن الثالث عشر وشملت ثقافات مالي والنيجر حتى وقتنا الحاضر، لتغطي ولو بشكل رمزي بقعة لطالما اتسمت بالتعقيد، سواء في الماضي والحاضر، أطلق عليها الساحل.
كان من بين الأحداث الكبرى خلال تلك الفترة الزمنية ظهور الإسلام الذي وصل شواطئ الساحل في القرن السابع، وبقي لينتشر. ولأن الإسلام قدم معرفة القراءة والكتابة، فقد كان له تأثير واسع النطاق. لكن ربما بغرض تغيير وجهة نظر قديمة مفادها أن الإسلام كان مسؤولاً عن حيوية ثقافة الساحل، فلم تمنح أي قطعة فنية فرصة لداعم ذلك الرأي سواء من داخل منطقة الصحراء الكبرى، ولم نرَ أياً منها في موقع عرض مميز.
انصب التركيز بدلاً من ذلك على الفنون الأصلية التي سبقت الانتشار الواسع للإسلام في الساحل، أو في الأماكن التي ظلت بعيدة عنه نسبياً.
في الحقيقة، تتوافق مع هذا الوصف قطع النسيج من منطقة «باندياجارا» بوسط مالي، والتي تعد من أقدم ما تبقى في أفريقيا، وكذلك الأمر بالنسبة للمشغولات الذهبية المعروفة باسم Rao Pectoral، وهو كنز وطني سنغالي يعكس عبقرية صياغة الذهب الأفريقية. لكن المنحوتات، تحديداً 20 تمثالاً من الطين والخشب من النيجر، هي التي شكلت القلب المرئي والعاطفي للعرض. واحدة على الأقل من هذه القطع تحظى بشهرة عالمية، وهو تمثال من التراكوتا نصف مستطيل الشكل مقطوع الرأس عثر عليه علماء الآثار في موقع بمنطقة «ديني ديغينو»، القديمة التي باتت مهجورة منذ عام 1400 ميلادية.
أياً كانت الأسباب التي أدت إلى زوال هذه المنطقة بأكملها، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو بيئية، فقد سبق الزوال طفرة إبداعية فنية تركت وراءها بعض المنحوتات، بما في ذلك تلك التي نشاهدها في هذا المعرض.
وقد يهمك أيضًا:
"العائدون من الموت" و"عقول للبيع" لصلاح البيلي بمعرض الكتاب
انطلاق ملتقى مصر الدولي للفنون التشكيلية بساقية عبدالمنعم الصاوي