اللوحات الفنية

ما قبل الحرب في سورية، اعتاد المارة في شوارع العاصمة دمشق، على رؤية رسامين تشكيليين وهم ينتشرون في شوارع المدينة القديمة، فيما آخرون ممن يمتهنون "رسم البورتريه" أو رسم الوجوه (بالحرق على الخشب)، عادة ما كانوا يتوزعون في الأسواق المزدحمة، كسوق (الصالحية) على وجه الخصوص، وخلال سنوات الحرب، غاب هؤلاء جميعا، ليس فقط خوفا من القذائف الصاروخية التي كانت تنهال على المدينة، بل أيضا لأن الفن يتحول إلى حمولة زائدة في مثل تلك الأيام.
اليوم، لا يمكن للمرء وهو يسير في حي الشعلان العريق وسط دمشق، إلا أن يلاحق تلك الموسيقى القادمة من أحد أزقته القديمة، ليكتشف بأنها ترافق مجموعة من الفنانين الشبان الذين يحاولون استعادة أحياء مدينتهم من ذكريات الحرب الأليمة، عبر العودة بها إلى حيث كان أسلافهم يجعلون منها لوحة تضج بالحياة والشغف.
للوهلة الأولى، تراودك الأحاسيس بأن السنيين العشرة الماضية كما لو أنها لم تكن، حين ترى مجموعة من الفنانين الشباب المفعمين بالطّاقة والأمل، وهم يدفعون بخطوط الحياة الملونة في زوايا الزقاق مع إيقاع الموسيقى التي كنت قد اعتقدت بأنها لم تكن يوما.
قال بيير حماتي، أحد الرسامين المشاركين في هذا الملتقى الذي دعي بـ "فن على الطريق": "إنها تجربة جديدة لنا كفنانين شبا، وهي تُضيف لنا الكثير، موضحًا وهو يرنو إلى تفاعل جمهور المارة مع هذه المبادرة التي أطلقها "غاليري مصطفى علي" بالتعاون مع محافظة دمشق: تمكننا هذه التجربة من إيصال الرسالة التي تحملها أعمالنا الفنية، إضافة إلى نقل الأجواء الذي يعيشها الفنان خلال انجاز عمله، إلى شريحة واسعة من المجتمع، على عكس المعارض التي تكون حبيسة الجداران".
ويعبرُ بيير عن تفاجئه بإقبال الناس على الموقع الذي اتخذوه كمرسم في الهواء الطلق، قائلا: "لا يزال السوري قادر على تذوق الفن وجماليته رغم كل الصعوبات التي يعيشها، وهو أمرٌ أعطانا دافعاً كبيراً للاستمرار بالعمل وإنتاج المزيد من الفن وإيصال الرسالة".
لا تقتصر نشاطات الملتقى الذي سيستمر لسبعة أيام. على الرسم والنحت والغرافيتي، ، بل ثمة أنواع أخرى كالعزف الموسيقي والغناء والتمثيل والرقص والحكواتي، ليشكلَ حالةً تفاعليةً بين الفنانين بمختلف اختصاصاتهم، وبين الناس في الشارع.
بمهارة واتقانٍ، تُمسك النحاتة سكينة عاجي الأسلاك الحديدية وتقوم بثنيها وترتيبها بطريقة ترتسم معها ملامح إنسانية تحملُ في تفاصيلها قصة آلم أو فرح تنقلها لكل زوار الملتقى.
وتشرح سكينة مراحل عملها الفني: "بداية أستخدمُ أسلاك الحديد وأقوم بتشكيل المجسم المطلوب، ثم أبدأ بلف ألياف القنب عليها، كما أستعين بمادة الجبصين لصناعة بعض التفاصيل التي تنقل قصة العمل".
وتؤكد سكينة أن الملتقى ساعد الكثير من الزوار على الخروج من الجو العام الكئيب الذي يهيمن على البلاد بفعل الحرب والحصار الاقتصادي على سوريا، بعد معاينة الأعمال الفنية مع الموسيقى الجميلة، وتتابع بالقول: "ضحكات الأطفال الذين مروا على الملتقى وأسئلتهم البسيطة عن الفن والموسيقى، تعبر عن مستقبل واعد، وكانت كافية لنا لنستمر".
لا يزال الفن يسحرُ السّوريين ويجذبهم، ويتسللُ مثل الضوء إلى قلوبهم التي أعتمتها نيران ودخان الحرب وعقوبات قسريّة ضيّقت عليهم سبل عيشهم وأبعدت عنهم خلاصهم من كل ما حُضّر لهم على مدى عشر سنوات، ويقفُ السوري اليوم حاملاً في جعبته آلاف السنين من الحضارة والفن والجمال والأبجديات، متذوقاً فناً جميلاً وبسيطاً يلون حياته.

قد يهمك أيضًا:

مراره الحرب السورية معاناة بأيدى هبة اللاجئة الصغيرة

فيسك يؤكد أن معركة إدلب الأخير هي الصفقة الأكبر ويكشف السيناريوهات المتوقعة