القاهرة ـ مصطفى ياسين
صدر مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية، كتاب جديد للكاتب والروائي القدير إبراهيم عبد المجيد بعنوان «ما وراء الكتابة.. تجربتي مع الإبداع» فهو عبارة عن "بوح متدفق" و"اعتراف سيّال" بما كان من الممكن أن يظل سرًا إلى الأبد.. ويجيب عن السؤال: لماذا يكتب المبدع؟ وكيف؟ وما السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي أحاط بدائرة إنتاجها وتشكلها؟
متى يمكن تحديد اللحظة الفارقة التي تتحول فيها تجارب الحياة ومساراتها ومساربها ومعاناة أبنائها وعذاباتهم إلى "كتابة إبداعية"، تتجسد عبر روايات وقصص وقصائد شعر؟ وهل دائما ما يعي المضروبون بجنون الكتابة وهوس الإبداع أن للكتابة "ما وراء"، تاريخ غير منظور، وعالم مواز مكتنز بالتفاصيل والوقائع والأسباب والمسببات، علاقات متشابكة ومتداخلة، وزمن تلتبس فيه السياسة بالثقافة بالاجتماع بلقمة العيش.
وفي لغةٍ لا تكاد تبتعد كثيراً عن لغته السردية الناعمة السلسة، يصحبنا الروائي الكبير في رحلة طويلة وممتدة عبر أكثر من أربعة عقود زاخرة بالكتابة، أنتجت روايات وقصص وكتب ودراسات ومقالات، احتلت مكانها اللائق في المكتبة العربية، وأصبحت ضمن أهم الأعمال الروائية والقصصية في القرن الأخير، ليكشف لنا ببساطة ويسر الإجابة عن السؤال: كيف خرجت هذه الأعمال إلى الوجود؟ ما التفاصيل والظروف التي أحاطت بها وبكتابتها؟ كيف كتبها ولماذا؟ وما السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي الذي أحاط بدائرة إنتاجها وتشكلها وغير ذلك من الأسئلة المتعلقة بطبيعة العملية الإبداعية وتفاصيل الكتابة التي لخصها المؤلف في عنوانه الدال: «ما وراء الكتابة».
الكتاب، وكما يحيل على ذلك عنوانه، ليس تنظيرا للسرد أو تفصيلا للقول في مكونات النص الإبداعي وآلياته في التوليد والتأويل؛ فهو لا يحدثنا عن حقائق المفاهيم، ولا يقول أي شيء عن "نظريات" أدبية أو نقدية مسبقة، فالإبداع هو الأصل، أما النظرية فتأمل لاحق، "الفن" تفجير للطاقات الانفعالية وإمساك بالروح التي تسكن الأشياء والكائنات وتتحكم في مصائرها، أو هو محاولة للبحث عن الانسجام والوحدة في المختلف والمتناقض والمتعدد والمتشظي.
للموضوع قيمته وأهميته الكبرى، وهو موجود في الأدب العالمي بكثافة، فكثير من الكتـّاب العالميين والأدباء المعروفين كتبوا عن أعمالهم ورواياتهم، "سيرتها وتشكلها"، وعن الظروف التي أحاطت بكتابتها، عدا تناولاتهم لأعمال نظرائهم من الكتاب، نقدا وتذوقا وكشفا عن جمالياتها وبراعتها الفنية والأدبية.
القسم الأول من الكتاب ضم الحديث عن الروايات الأربع الأولى في مسيرة عبد المجيد السردية، وهي: «المسافات»، «الصياد واليمام»، «ليلة العشق والدم»، «بيت الياسمين»..
أما القسم الثاني، فخصصه عبد المجيد للحديث عن ثلاثيته الاسكندرية الشهيرة: «لا أحد ينام في الإسكندرية»، و«طيور العنبر»، و«الإسكندرية في غيمة»، وهي الثلاثية التي دشنت اسم إبراهيم عبد المجيد كأحد أهم وأشهر الروائيين المصريين والعرب في نصف القرن الأخير. استهل عبد المجيد هذا القسم بمقدمة معنونة بـ"الكتابة عن الإسكندرية" - احتلت الصفحات من 85 حتى 101- فعبارة عن قصيدة عشق من السرد الرفيع في محبة الإسكندرية وتاريخها وكينونتها الخالدة.. من أمتع ما كتب فنان عن المدينة التي فتنت العشاق وأذابت الكتـّاب والشعراء والروائيين من كافة بقاع الأرض؛ عشاقها الذين تماهوا في تاريخها وهوائها ومعالمها..
القسم الثالث تناول فيه عبد المجيد رواياته «ما وراء برج العذراء»، «عتبات البهجة»، «في كل أسبوع يوم جمعة»، أما القسم الرابع والأخير فخصصه الروائي الكبير للحديث عن «القصص القصيرة» و«الطريق إلى العشاء».. وبما يمكن أن نسميه رد العجز على الصدر، بلغة القدماء، يفيض عبد المجيد في الحديث عن كتابته للقصة القصيرة وبداياته معها، "كانت القصة القصيرة هي الطريق إلى الوجود الأدبي؛ ومن ثمّ إلى المسابقات".
يقول عبد المجيد: "كانت القصة ولا زالت رغم الإقلال من كتابة القصة القصيرة تأتي دفعة واحدة بقضها وقضيضها كما يقال. كان يشغلني الإيحاء أكثر من الوضوح والإيجاز فيما أريد"،
ويحكي عبد المجيد عن تلك الفترة الباكرة من حياته الأدبية قائلا: "أستطيع أن أقول إن كل القصص كان لها أصل في الحياة.. لم تكن القصة القصيرة ترهقني كثيرا في البحث عن لغة أو بناء لها، كانت تعجبني قصص كتـّاب الستينيات المجيدين فيها مثل: بهاء طاهر والبساطي ويحيى الطاهر عبد الله، لخصتها كلها في كلمتي "التجريب والإيجاز"..
«ما وراء الكتابة.. تجربتي مع الإبداع»، كتاب لا غنى عنه لكل كاتب ناشئ أو مقبل على الكتابة أو متصل بها بسبب من الأسباب، لعله يضيء له بعض العتمة ويأخذ بيده لإتمام الرحلة وخوض الطريق غير هياب ولا وَجِل.