اعمال وتصاميم زهاء حديد

مازالت أصداء رحيل المهندسة المعمارية العراقية زهاء حديد تتردد على الصعيدين العربي والعالمي حتى الآن، إذ تناولت الأقلام المختلفة الحالة الاستثنائية التي حظيت بها وحدها في عالم التصميم، وقد بدأت أعمالها المبدعة تتضح من خلال تصميم القصور الثقافية في أذربيجان وكوريا الجنوبية، وملعب نهائيات كأس العالم في قطر، ومباني سكنية في ميامي، وبرج في مرسيليا، ومجمع بيع بالتجزئة في بكين، ومتحف الفن المعاصر في روما، ودار أوبرا في قوانغتشو، وفيلا الأوليغارشي في روسيا.

وجاء في العدد الأول من مجلة "فيز" الفنية العام 1978 والتي لم يطل عدد أعوام وجودها صورة تجمع المهندسة المعمارية الراحلة زها حديد بزملائها من أعضاء مكتب متروبوليتان للهندسة المعمارية، حيث تضمنت الصورة المعماريين الزوجين ريم كولهاس وماديلون فريسندورب, إضافة إلى إيليا وزوي زينغليس، ووصف كاتب المقالة التي تضمنت تلك الصورة تلك الشخصيات "بالمؤثرة والمثيرة للجدل"، والتي تعكف على إحداث تطوير في شكل العمران ليتناسب مع التغيير والتقدم.

واختتم الكاتب مقالته حول احتمالية استيائه من العيش ضمن منظومة الشكل العمراني التي اعتاد عليها، والتي باتت تمثل له شيئًا من التقليدية والرتابة كما عبّر عن أمله بإحداث التجديد في روح العمران، واعتاد الكاتب والمهندس المعماري بيتر كوك طوال الأربعين عامًا الماضية كتابة اقتباس حول الفائزة بالميدالية الذهبية الملكية الخاصة بالهندسة المعمارية، زها حديد، حيث قال "تتفرد حديد بالطابع الخاص الذي يميزها عن الآخرين فهي المغامرة الوحيدة في هذا المجال في وقت ندر فيه من يجرؤ على الخوض مثلها منذ 3 عقود وإلى الآن, فإذا قام الرسام الألماني بول كلي برسم خط ما, فإن حديد تقوم بإضفاء لمساتها الإبداعية ليتحول إلى مبنى معماري يلامس السحاب ويخطف الألباب معًا، كما هو الحال مع مركز حيدر علييف للمؤتمرات في مدينة باكو في أذربيجان والذي يتميز بانحداره الداخلي الهائل وإنارته النافذة، ووصف في بداية مقاله أسلوب حديد كفرد من تلك المجموعة المعمارية باعتبارها عضوًا مبتدئًا بها ولكنه في تصريحين آخرين يؤكد براعتها في انتزاع إعجاب الآخرين.

وولدت زهاء حديد في 31 تشرين الأول/ أكتوبر للعام 1950 إلا أن المنية وافتها إثر سكتة قلبية الأسبوع الماضي في عمر يناهز 65 عامًا، واستطاعت أن تترك بصمة في عالم الهندسة المعمارية في سن مبكرة، وقامت العام 1982-1983 بتقديم رسومها المعمارية في مسابقة بنادي ذا بيك  الترفيهي في هونغ كونغ حيث تميزت أعمالها بالجرأة والتفرد.

وكان المشروع الذي قدمته في ذلك الوقت يعكس الحالة الاستثنائية والتفرد الذي حظيت به وحدها في عالم التصميم، بالرغم من حداثة سنها وعدم إنهائها دراستها في الهندسة المعمارية، ويعود الفضل في الهندسة المعمارية والبنيان الروسي إلى حديد حيث أن الكثيرين من المهندسين المعماريين استغلوا بصمتها تلك.

وجاءت فعاليات نادي ذا بيك الترفيهي في وقت عصيب كان قد عصف بتاريخ الهندسة المعمارية، والتي كانت نتيجة للإخفاقات الفعلية للحركة الحديثة، ففي الجمعية المعمارية في لندن وهو المكان الذي درست فيه حديد ومن ثم عملت محاضرة هناك، كان من المألوف أن يتم التخلي عن البنيان لصالح الفلاحة في ويلز, وأكدت " ذا بيك" حينها على القوة المحررة لخلق أشكال ومساحات جديدة إضافة إلى أنها أعربت عن حب حياة المدينة والكثافة الديناميكية والازدحام، الذي عكس ميول المحدثين الأوائل أمثال لو كوربوزييه الذي كان يدعو إلى أن تعج الطرق بمساحات كبيرة من الأشجار.

وكان مقترح " ذا بيك" الجديد في عالم الهندسة المعمارية أمرًا غريبًا لم تعتده حتى حديد التي تضمن مشوارها التعليمي خليطاً غريبًا مر على مدرسة كاثوليكية في بغداد ومدرسة داخلية في سويسرا ومدرسة بركهامستد للبنات والجامعة الأميركية في بيروت والجمعية المعمارية في لندن, واستقر عملها في لندن بالرغم من عدم شغفها هناك, وكانت تحب ميامي التي تحمل طابع المتعة والحداثة , وهي المدينة التي توفيت فيها، إلا أن مشروع البيك قوبل بالرفض وظلت حديد لعقدين من الزمان صاحبة لقب المهندسة الشهيرة التي لم تترك بصمة معمارية بعد, باستثناء محطة وقود خاصة بمصنع شركة الأثاث الألمانية فيترا وعمارة سكنية في برلين وبعض الأعمال الصغيرة, كل تلك الأعمال لم تتلاقى مع طموحات وأحلام حديد.

وفشلت تصاميمها في إرضاء دار أوبرا كارديف باي بالرغم من فوزها بمسابقتين، حيث يعزى السبب في ذلك إلى رفض قادة المدينة المدنيين، إلا أن القدر ضحك لحديد وتحديدًا في العقد الأول من هذا القرن عندما أخذت فكرة المباني " المميزة " تلقى رواجًا، حينها برعت حديد في تلك المهمة كونها شخصًا غير عادي فقامت بتوسيع مكتبها في المدرسة القديمة في كليركينويل في لندن كما ازداد عدد موظفيها إلى المئات.

وبدأت زهاء في أعمالها من خلال تصميم القصور الثقافية في أذربيجان وكوريا الجنوبية، وملعب نهائيات كأس العالم في قطر، ومباني سكنية في ميامي، وبرج في مرسيليا، ومجمع بيع بالتجزئة في بكين، ومتحف الفن المعاصر في روما، ودار أوبرا في قوانغتشو، وفيلا الأوليغارشي في روسيا، أما في بريطانيا التي كانت تعيش فيها فقد صممت مركز السرطان في كيركالدي ومتحف النقل في غلاسكو ومكتبة في أوكسفورد ومدرسة أكاديمية في لندن ومعرض سيربنتي ساكلر الفني ومركز الألعاب المائية الذي اعتبر أكثر المنشآت الرياضية إثارة والتي تم إنشاؤها لدورة الألعاب الأولمبية للعام 2012 في لندن.

وتغير أسلوب زها في تصاميمها المعمارية من اعتماد الزوايا الحادة إلى الرسوم المنحنية المعقدة مع المحافظة على التركيز على المساحات الحيوية والتمييز حيث ساهم التقدم في مجال التكنولوجيا الحديثة على ذلك, وبالعودة إلى فترة التسعينات كان هناك افتراض على نطاق واسع بأن تصميمات زها الهندسية المعقدة كانت لا يمكن أن تتم من دون استخدام الحاسوب لإنجازها, الأمر الذي وصفت على أساسه زها بالجمود والميكانيكية، إلا أن السر وراء أعمالها الهندسية البارعة لا يقف وراءه سوى مكتب بسيط يحتوي على جهاز كومبيوتر أكثر بساطة، وفي الأعوما الأخيرة استغلت زها ومساعدها الأول باتريك شوماخر قدرة البرامج المتقدمة في تصور ووصف أشكال أبعد ما تكون عن توقعات العقل البشري وتخيلاته.

وقد تم استبعاد زها من مهمة تصميم الملعب الأولمبي في طوكيو على خلفية تكاليفه المادية الباهظة وهذا ما نفته زها بنفسها فيما بعد, كما أن مركز الألعاب المائية كان على وشك أن يلغى بناؤه لنفس السبب، كما واجهت زها اتهامات عدة بالتواطؤ وتشجيع منظومة الاستبداد خاصة بعدما أوكل إليها تصميم المركز الثقافي في أذربيجان، والذي أطلق عليه اسم حيدر علييف أحد أشهر الزعماء الدكتاتوريين والأكثر وحشية في تاريخ أذربيجان.

كما ذكرت زها أنها تعرضت لانتقادات عدة لتواطؤها في العبث بالنسيج التاريخي لبكين، وفي أيلول/سبتمبر الماضي انسحبت من مقابلة تلفزيونية ضمن برنامج "توداي" عندما كررت مقدمة البرنامج "سارة مونتاغو" اتهاماتها المغلوطة لزها بتحملها مسؤولية عدد الوفيات في ستاد قطر على خلفية تصميمه، وذكرت خلال حوارها في البرنامج الإذاعي الحواري على إذاعة بي بي سي 4 أن جميع تلك الاتهامات تعود إلى جنسها حيث قالت "كوني امرأة, قد يكون ذلك مشكلة لدى البعض كما أنني أحلق في عملي بحرية تفوق توقعات الآخرين، وهذا ما يؤكده النائب المحلي والوزير المتوقع لويلز رودري مورغان عن خوفه من إصدار حكم بحقها لتمردها في تصاميمها.

ويصف مورغان أعمال زها بتكلفتها العالية وصعوبة تنفيذها لاسيما وأن تصاميمها تتطلب عملاء وشركات بناء ومهندسين وموظفين يعملون لديها بشكل مبالغ فيه, كما أضاف أنها اعترفت بذلك عندما كانت ترفض التقليل من موازنة العمل المتزايدة وكانت حجتها أن بناء معمار غير عادي يتطلب إنفاقًا باهظًا، وعن شخصيتها, تميّزت حديد بثباتها وإصرارها على آرائها ومبادئها كما أنها كانت ترفض التنازل أو التهاون في أمر يعنيها، فسلوكها كان لا هوادة فيه، وأعربت مرات عدة عن استيائها من الأموال الزهيدة التي تتقاضاها في الجمعية المعمارية.

وفي موقف آخر عندما كانت تجتاز امتحان القيادة في لندن، وبالرغم من حصولها على الرخصة في بلدها العراق فقد اختلفت مع مدربها في الدرس الأول وامتنعت عن بقية الدروس واستعانت لأعوام بسائق يعمل لديها، وتميزت بعلاقاتها الطيبة مع الموظفين والزملاء كما أنها تمتعت بروح الدعابة معهم فقد عمدت إلى إطلاق الألقاب اللطيفة على موظفيها، وعن مظهرها, لطالما خطفت الأنظار نحوها بحدة وجهها وملامحها الكبيرة وشعرها الكثيف ما أبرز شخصيتها المتمردة, واعتمدت في أزيائها على اللون الأسود.

وبالرغم من حدة وجدية مظهر حديد إلا أنها كانت تخفي وراءهما شخصية خجولة للغاية ويقول الفنان فريزندورب إن زها كانت تشعر بالحرج الشديد عند عرض تصاميمها أمام الآخرين بالرغم من تشجيع زملائها لها وثنائهم على براعتها، وأضاف أنها تملك قلبًا عطوفًا ورحيمًا بالآخرين بالرغم من أنها لم تنجب, وكان تعلقها كبيرًا ببطل أي فيلم يعجبها حيث كانت تعكف على مشاهدة أفلامه بالكامل، وأكد فريزندورب أن تحول تصاميم زها من الزوايا إلى الانحدار يتناسب مع تغيير مزاجها من الحدة والتمركز إلى التموج والانحناء والأقل حدة, وقد ساهم نجاحها في منحها الثقة بالرغم من أنها عانت تجارب المشاهير التقليدية كالعزلة والتعرض للاستغلال من الآخرين.

وفي تقييم أستاذ حديد في الجمعية المعمارية، قال كولهاس "كان أداء زها خلال السنة الرابعة والخامسة كالصاروخ الذي أقلع في البداية ببطء لرسم طريق مسار متسارع باستمرار، هي الآن تمثل حالة كوكب ذا مسار بمفرده يتضمن صعوبات وإنجازات خاصة به".