باريس ـ مارينا منصف
كانت باريس تنبض بالحركة في الأسبوع الماضي؛ فقد كان عالم الموضة يحتفل فيها بموسم الـ"هوت كوتير" لخريف وشتاء 2018، وكانت الشمس مشرقة، والألوان ساطعة، فضلًا عن رائحة تفاؤل قوية تفوح في الأجواء لم تؤثر عليها الحراسة الأمنية المشددة، فصحيح أن منظر رجال الشرطة وهم يجولون بين الناس العاديين حاملين رشاشات وبنادق كان يثير بعض المخاوف، ويُذكرنا بأن العالم في حرب يومية مع التطرف، إلا أن حرارة الشمس وما تابعناه طوال الأسبوع من أناقة تحاكي الفن، كانت تُذوب كل المخاوف، فكلما ارتفعت الحرارة كنا نُقنع أنفسنا بأنها فيتامين مفيد للجسم.
وكانت المشكلة في بعض العروض التي أقيمت في الهواء الطلق، مثل عرض "ديور"؛ فهي لم تأخذ بالحسبان حالة الطقس، ولحسن الحظ أن جمال ما قدمته مصممتها ماريا غراتزيا كيوري من إبداعات شفعت لها عذاب الانتظار الطويل تحت لفح الشمس، فكانت مُفعمة بالإبداع والجمال، وأهم من هذا؛ تحترم المرأة من منظور يتعدى التصاميم الأنيقة إلى دورها ومكانتها في المجتمع.
ففي ظل الأحوال السياسية التي هزت العالم في العام الماضي ولا نزال نعيش تبعاتها، أصبح البعض يرى أن الحقوق التي اكتسبتها بعد نضال طويل، بدأت تتسرب من بين يديها، وبالتالي هي في حاجة إلى حركة نسوية جديدة، على الأقل للمحافظة على مكتسباتها، والطريف أن اليوم الأخير من الأسبوع تزامن مع مراسم دفن سيمون فيل، الناشطة الحقوقية والسياسية والأكاديمية الفرنسية التي نذرت حياتها لحقوق المرأة، فكانت هناك أعلام منكسة وأخرى باللون الأسود حدادًا عليها، كما أن "ميزون مارجيلا" اضطرت لتغيير مكان عرضها بعد أن صدر قرار رئاسي بأن تُجرى المراسم في "ليزانفاليد" Les Invalides .
وأعاد وفاة سيمون فيل للأذهان نضال المرأة الذي لا يزال مستمرًا، وما خلفته من آراء ونادت به طوال حياتها، كان يُطل علينا في كثير من العروض، لا سيما أن عددًا لا يستهان به من المصممين حاولوا حمل مشعل الحركة النسوية؛ من ماريا غراتزيا كيوري التي ترفع منذ التحاقها في دار "ديور" أعلام هذه الحركة، إلى كارل لاغرفيلد الذي قدم منذ بضعة أعوام عرضًا ضخمًا أنهاه بمسيرة في "لوغران باليه" رفعت فيها العارضات الأعلام للمطالبة بحقوقهن وما شابه ذلك من شعارات.
أما باقي المصممين في هذا الموسم، فلم يخفوا قلقهم من الأحوال السياسية التي نعيشها وتأثيراتها على كثير من مناحي الحياة؛ الاقتصادية والثقافية والفنية، معبرين عن مخاوفهم من خلال تشكيلات تحترم المرأة وتبتعد عن ترخيصها بتصاميم تكشف مفاتنها في استسهال فج لمعنى الأنوثة.
وطبعًا لم يأت هذا الاحترام على حساب الجانب التجاري؛ فالـ"هوت كوتير"، كما نعرف، تخاطب امرأة تريد الفريد والمتميز بأي ثمن، فسعر فستان في هذا الموسم قد يفوق المائة ألف دولار بكثير؛ حسب اسم المصمم ونوع الأقمشة وكمية التطريزات، وهو مبلغ يعد بالنسبة لعُضوات هذا النادي النخبوي، معقولًا ومقدورًا عليه، لا سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار أن بيوت المجوهرات الكبيرة، مثل "فان كليف آند أربلز" و"كارتييه" و"بياجيه" و"ديبيرز" وغيرها، دخلت على الخط وباتت تنافس المصممين بقطع تفوق الملايين من الدولارات.
واخترقت تلك البيوت "الأسبوع" وأصبحت تحرص على أن تعرض فيه أجمل وأغلى ما لديها، فـ"بياجيه" مثلًا تعرض في محلها خاتمًا بأكثر من 8 ملايين يورو، كما أن نصف المجموعة التي أبدعتها الفنانة فكتوار دي كاستيلان لدار "ديور" بيعت قبل عرضها أمام وسائل الإعلام بأيام.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن كثيرًا من الأحاديث لم تكن عن الأسعار بقدر ما كانت عن الآمال المعلقة على حكومة إيمانويل ماكرون، أصغر رئيس فرنسي منذ نابليون، وتحديدًا وعدها بتخفيض الضرائب، وانعكاسات ذلك على صناعة الموضة.
في الجانب الآخر، كانت صور سيمون فيل، التي تصدرت معظم أغلفة المجلات الفرنسية، تُعيدنا إلى نضال المرأة المستمر، وتجعلنا، بشكل لا شعوري، نربط كثيرًا من الخيوط بعضها ببعض، ونستخلص أن "الأسبوع" كان نسويًا بكل المقاييس، كما كانت عن معرض "ديور" في متحف "الفنون الزخرفية" الذي تحتفل فيه الدار بمرور 70 عامًا على تأسيسها وولادة ما أصبح يعرف في قاموس الموضة بـ"ذي نيو لوك" الذي يتميز بالتنورات المستديرة الطويلة والخصر الضامر المشدود.
ولا تزال مصممة الدار الحالية ماريا غراتزيا كيوري، جديدة مقارنة بالمصممين الذي سبقوها في الدار الفرنسية العريقة وتركوا بصمات واضحة، إلا أن الملاحظ أن بصماتها بدأت تتضح أكثر وأكثر في المواسم الأخيرة لخريف وشتاء 2018 مثلًا، احتفلت مع الدار بعودتها إلى التنورات الطويلة والواسعة التي أطلقها السيد كريستيان ديور في عام 1947 لكن بلغة تناسب 2017.
إيلي صعب
في الوقت الذي حاول فيه معظم المصممين الفرنسيين تحديدًا، إن لم نقل كلهم، تجنب التطريزات الغنية والتركيز على بساطة التصاميم، أخذ إيلي صعب الاتجاه المعاكس، فكانت تشكيلته صادمة بتطريزاتها، وأطلق عليها عنوان: "أسطورة ملكات غابرات"، وجاءت تقطر سخاء حتى بالنسبة له؛ هو الذي فتح أبواب هذه المدرسة للعالم
وعندما تعالت أول نغمة موسيقية وبدأ العرض، بدأت معه التخمينات والتساؤلات: هل هذه زنوبيا أم بوديكا؟ هل هي حتشبسوت أم الإمبراطورة تيودورا؟ هل هي كاثرين الثانية أم إليزابيث الأولى؟ وفجأة تشعر بأنهن كلهن انصهرن في صورة امرأة عصرية مستقوية بأسلحتها الأنثوية، وشرح المصمم أنه عاد فيها إلى القرون الوسطى؛ فـ"هناك دائمًا متسع لأسطورة تحكي قصة مملكة قديمة، وتتغنى بانتصارات في معارك ملحمية قادتها ملكة"، حسب قوله.
ومن هذا التاريخ البعيد نسج تشكيلة جسد فيها صورة لامرأة تناضل من أجل أنوثتها وتقف في وجه أي تغيير يهدد عيشها الرغيد، ومن أجلها دخل إيلي صعب ميدانًا جديدًا عليه، على الأقل من ناحية الخطوط التي استقاها من العصور الوسطى، إلا أنه بقي وفيًا لتطريزاته وأقمشته المترفة، مثل المخمل والموسلين والتول التي أدخل على بعضها تخريمات عكست الضوء وخلفت إحساسًا بالخفة كلما تمايلت العارضات، سواء تعلق الأمر بتنورات من التول أو فساتين من المخمل والحرير أو الموسلين والساتان، فبعضها مطرز باللآلئ، وبعضها الآخر بالريش أو الفرو أو الذهب، فليس هناك أكثر من إيلي صعب يُتقن "طبخة" البريق، ومهما زاد من جرعاته، لا يقع مطلقا في مطب البهرجة أو المبالغة.
وكل ما أكدته هذه التشكيلة أن إيلي صعب ضعيف! ضعيف أمام أنوثة المرأة، فهو يؤمن ويكرر دائمًا أن في أنوثتها تكمن قوتها، لهذا لا يريدها أن تتنازل عنها بأي شكل من الأشكال، ولهذا أيضًا قدم لها في هذه التشكيلة أسلحة فتاكة لكي تحافظ عليها، تجسدت في "كابات" طويلة وفساتين تقطر بريقًا، كما في قطعة هجين بين فستان و"جامبسوت".
ورغم أن صعب صرح بأنه استلهمها من ملكات زمن غابر، فإن كل ما فيها يتكلم لغة عصرية تخاطب زبونته التي تعشق الترف من جهة، وتغازل شابة تعشق موجة "الماكسيميلزم" من جهة أخرى، فهذه الموجة كفيلة بأن تجذب إليها الأنظار، لا سيما عندما تكون المناسبة كبيرة والمنافسة على أشدها بين بنات جنسها، فأي قطعة من هذه التشكيلة تضمن لها أن لا تكون كومبارسًا؛ بل بطلة في دور ملكة أو أميرة متوجة.
وهذا ما يرمي إليه المصمم الذي لم يُقدم ولا قطعة واحدة للنهار أو للكوكتيل وركز على مناسبات السهرة والمساء فقط، وقد يصدمنا أو يفاجئنا بجرأته، إلا أنه يُثبت دائمًا أنه على حق، وأنه قارئ جيد لسيكولوجية المرأة، فالأعوام تُثبت لنا دائمًا أنه علينا أن نستسلم له ونثق فيه ثقة عمياء، كما تعلمنا التجارب أن نُسلم بأنه لا يتمتع بملكة الإبداع فحسب؛ بل أيضًا بحس تجاري فذ.
جيورجيو أرماني
في عرض جيورجيو أرماني، احتلت المقاعد الأمامية باقة من نجمات السينما، من مثيلات صوفيا لورين، وإيزابيل هوبير، وكايت وينسليت، وناعومي واتس، وبريانكا شوبرا، عوض مدونات أو فتيات الإنستغرام الصغيرات، وكانت الصورة جميلة ومُثلجة للصدور، وتشير إلى أن المصمم المخضرم يعرف زبوناته جيدًا، فهن ناضجات ولسن فتيات متطلعات للموضة، يتابعنها على شبكات التواصل الاجتماعي من باب الحلم فقط.
وفي "باليه دو شايو" في باريس أقام أرماني عرضه، واختار له خلفية بيضاء وأبوابًا ذهبية تستحضر ديكورات قصر أورسيني، مهد الفنون الرفيعة في مدينة ميلانو، فكانت مناسبة جدًا لتشكيلة غنية بالألوان، والعنوان الذي اختاره لها هو "ميستري" أي "الغموض"، الأمر الذي يمكن تفسيره على أنه تحد لثقافة الإنستغرام و"كشف المستور"، وتحية للزمن الجميل حين كانت الخصوصيات تُحترم وتحدث وراء أبواب موصدة من ذهب.
وعكست تصاميم أرماني هذه الفلسفة، حيث غلبت عليها تايورات قوية موجهة لامرأة واثقة، كذلك الفساتين التي تميزت بخطوط مفصلة وألوان متنوعة وتطريزات بجرعات خفيفة، ولم يُغير المصمم جلده أو أسلوبه بل اعتمد على وصفته الناجحة حتى الآن، وكل ما في الأمر أنه اكتفى بإضافة لمسات خفيفة يفرضها العصر، مثلًا لم يغب التايور المكون من البنطلون والجاكيت، الذي يُعتبر ماركته المسجلة، الفرق هنا أن البنطلون جاء ضيقًا أكثر من السابق، ليتسع من أسفل في بعض الإطلالات.
نفس الشيء بالنسبة للجاكيت الذي جاء ضيقًا عند الأكتاف ومحددًا عند الصدر ليأخذ شكل "بيبلوم" عند الخصر، وفي المقابل اكتسبت فساتين السهرة بُعدًا دراميًا أكبر، بألوانها وتطريزاتها، فكان كل فستان تقريبًا يُخفي تحته سرًا، معتمدًا على طبقات شفافة من التول أو الأورغنزا لكي تحرس خصوصيته، وليس أدل على هذا من مجموعة من التنورات المستديرة التي غطتها طبقات من التول أو الأورغنزا تظهر من تحتها ورود مُطرزة وأخرى كتب عليها بخط رفيع "أرماني بريفيه"، فضلًا عن أخرى مصنوعة من الحرير، تكتشف أنها مرصعة بالأحجار عندما تُصدر صوتًا خفيفًا مع كل خطوة أو حركة تقوم بها العارضة.
وتخرج من عرض أرماني وأنت متأكد من أن الأعوام "88 عامًا" لم تأخذ منه قدرته على الجمع بين التجاري والفني، فالتجاري بمعنى أنه يعرف سوقه جيدًا ويُتحفها دائمًا بتصاميم تروق لها، والفني بمعنى أنه لا يتوقف عن إدخال تفاصيل جديدة ومبتكرة، أما إذا كان هناك مأخذ على التشكيلة فهو بعض التنورات الطويلة والضيقة التي كانت مقيدة للحركة، ويُمكن أن يجد صعوبة في تسويقها لامرأة يفرض عليها إيقاع حياتها المتسارع حركة دائمة.
جون بول غوتييه
قصة الحب التي بدأت منذ أ‘وام بين شقي الموضة الفرنسية جون بول غوتييه والهند لم تنته بعد، فالمصمم يعود إليها كلما احتاج إلى جرعة إلهام ودفء، فمرة يغرف من ألوان الكاريه الحارة، ومرة من تطريزات الساريه البراقة، وفي كل مرة يضيف إليها رشة باريسية تجعلها مُشهية لكل الأسواق العالمية.
وقبل بدء العرض وقبل أن تزيد سخونته، ارتأى المصمم أن يأخذنا إلى بعض المنتجعات الشتوية المشهورة، فقد أطلق على كل ركن في القاعة اسم أحد المنتجعات الشتوية، مثل فال ديزير أو كلوسترز أو غاشتاد، ومع بدء العرض تساقطت أوراق صغيرة من السقف وكأنها حبات ثلج لترافق كل عارضة وترسخ في الذهن أن المجموعة موجهة لفصلي الخريف والشتاء.
وكانت الغلبة لأقمشة دافئة مثل الصوف والكشمير والفرو، نسقها مع قبعات وشالات وأحذية عالية الساق، وبما أن المصمم يعشق المداعبة واللعب على المعاني، فإنه كما اختار لأماكن جلوسنا أسماء المنتجعات، اختار أيضًا لكل قطعة اسمًا طريفًا، فهناك إطلالة تتكون من كنزة صوفية منقوشة بعدة ألوان تحمل اسم "سانتا كلوذز Santa Clothes، عوض كلوس، وأخرى تحمل اسم "أنا وينترز" Anna Winters عوض وينتور، وما شابه من تسميات طريفة.
كل ما في هذه المجموعة يضج بالأناقة، وليس هناك أدنى شك في أنه سيجد طريقه لخزانة امرأة عصرية بسهولة، فالمصمم رصع كثيرًا منها بأحجار الكريستال واللؤلؤ، كما بطن بعضها بفرو المنك، احترامًا لثقافة أسبوع لا تعترف بالأسعار أو الحلول الوسطى، لكن الأجمل والتي ظلت مرسومة في الخيال، كانت التصاميم المستوحاة من الهند، وكانت تعبق برائحة التوابل الحارة التي ترجمها في فساتين طويلة من المخمل والحرير والموسلين، من خلال تصاميم التفت حول الجسم عوض أن تحدده بأشكال هندسية، باستثناء بعض الأكتاف التي أخذت شكل دروع واقية، وعندما سُئل عن علاقة الثلج بالهند، وكيف انتقل من قارة إلى أخرى بهذه البساطة، كان رده أن "الهند أيضًا تشهد تساقطات ثلجية".
سكاباريلّي
كانت الأجواء في صالون "ميزون سكاباريلّي" الواقعة في "بلاس فاندوم" تعبق بالفنية كعادتها، فكل الجدران مغطاة بصور فوتوغرافية تسجل لحقب زمنية مختلفة، أغلبها لنساء متمردات على المتعارف عليه، أو تُذكر بعلاقة المؤسسة إلسا سكاباريلّي بفنانين من عصرها، مثل سلفادور دالي، والأهم من هذا تُذكر بأن مؤسسة الدار امرأة شهدت بداية الحركة النسوية وعايشت انعكاساتها على الموضة، وهذا ما احترمه المصمم الشاب برتراند غايون، الذي التحق بالدار منذ ثلاثة أعوام تقريبًا.
ولم يُخف أنه يتقيد بإرثها الفني وأسلوبها، من الفنان روثكو مثلًا استلهم الكتل اللونية التي طبعت كثيرًا من القطع الموجهة للنهار، ومن بابلو بيكاسو الخطوط المتوازية التي ظهرت في فساتين السهرة والمساء. من جهتها نجحت التطريزات الخفيفة والرسمات الفنية في الارتقاء بكل قطعة لمصاف اللوحات، علمًا بأنه استعمل الأقمشة الناعمة مثل الموسلين والحرير والتول والأورغنزا كوسيلة ثانية لتحقيق النتيجة المطلوبة، ونعومتها كانت ضرورية لكي تنسدل بخفة على الجسم وتمنح صاحبتها حرية حركة.
وتعد تلك نقطة أساسية كانت تركز عليها إلسا سكاباريلّي وتُصر عليها الدار، حيث يُذكر أنها قدمت في عام 1938 عرضًا استعانت فيه برياضيات قدمن تصاميمها وهن يؤدين حركات بهلوانية من على نوافذ وشرفات صالونها المطل على ساحة "فاندوم"، فتجسيد هذه المرونة والقدرة على الحركة في فساتين سهرة كان تحديًا خاضه المصمم الحالي بحماس، فزبوناته يسافرن كثيرًا ولا يتوقفن بدورهن عن الحركة، وهو ما يحتاج إلى تصاميم مرنة مثل تلك التي قدمتها المصمم منذ نحو 90 عامًا.
ومن هذا المنطلق استغنى عن أقمشة مثل البروكار واستعاض عنها بالحرير والموسلين، كما استبدل بالتطريزات الغنية رسمات فنية هنا وهناك، ويشير برتراند غايون إلى أنه كان يُدرك أنه مطالب بتصاميم فنية وديناميكية في الوقت ذاته، لا سيما أن الأوضاع التي تعيشها المرأة حاليًا لا تختلف كثيرًا عن تلك التي عاشتها إلسا سكاباريلّي في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، لهذا استلهم من نساء قويات ومناضلات ألهمنها، فهؤلاء النساء هن اللواتي تغطي صورهن صالونها، مثل نانسي غونار، ولي ميلر، وجولييت مان راي، وهن أيضًا من تدين لهن بنات اليوم إلى حد ما بما اكتسبنه من حقوق، فالنتيجة لم تكن تشكيلة ثورية لكنها كانت شاعرية.
في فترة أصبح فيها كل شيء مكشوفًا ومُعلنًا أمام العالم، لهذا أصبح المخفي وعدم المرئي هو المميز والخاص"، وهذا ما قاله مصمم "فالنتينو" بيير باولو بيكيولي قبل عرضه، فجيل الإنستغرام عرى كل شيء، من ديكورات غرف النوم وتصوير صحون الأكل وفناجين القهوة، مع التغزل برغوتها البيضاء إلى أسرار الحياة الشخصية مرورًا بخبايا الموضة وغيرها، المطلوب مضاد في وجه هذه الثقافة، وهذا ما جسدته التشكيلة التي قدمها بيكيولي، فقد استوحاها، حسب قوله، من لوحات القديسين التي رسمها الفنان الإسباني فرانسيسكو دو زورباران، وربما هذا ما يفسر رائحة الحشمة الأقرب إلى "الرهبنة" التي فاحت من بين طياتها.
وبيكيولي، ومنذ أن تركت نصفها الآخر في العمل ماريا غراتزيا كيوري دار "فالنتينو" منتقلة إلى "ديور"، يشق لنفسه خطًا خاصًا يمكن التعرف عليه عن بُعد؛ لأنه يبتعد عن الفذلكة والزخرفات الكثيرة، وفي المقابل يُركز على الخطوط المنسدلة على الجسم من الأكتاف إلى الكاحل في انسيابية محسوبة.
من فساتين السهرة إلى المعاطف الطويلة ذات التفاصيل المبتكرة عند الأكتاف أو عند الصدر، مرورًا بفساتين النهار التي اصطبغت بألوان قوس قزح، كان عرضه بمثابة لوحة فنية متحركة، وصحيح أن هذه اللوحة تخلق بهدوئها إحساسًا بالرهبة وكأننا في دير، إلا أن غموضها الرومانسي يشفع لها ويمنح المرأة التميز الذي تطمح إليه، بل تجعل كل من يعاينها عن قرب مستعدًا لمعانقتها بالأحضان.
وإلى جانب القمصان والفساتين الطويلة تبقى المعاطف والكابات من أجمل ما قدم لهذا الموسم، إلى جانب التنورات ذات البليسيهات التي لعب فيها على المكشوف والمستور، فقد زين وغطى جانبًا منها مثلًا بالعشرات من قطع الريش بأحجام دقيقة، لكي يُعزز انسيابيتها وحركتها، بينما ترك الجانب الآخر خفيفًا وشفافًا، الأمر الذي خلق تناقضًا لذيذًا.
وبرهن بيكيولي أنه يعرف كيف يستقي من التاريخ، ويعرف أيضًا أن زبونة اليوم شابة في مقتبل العمر، وهذا يعني أنها لا تريد أن تبدو بمظهر راهبة، لهذا قدم لها خزانة تتكون من قطع منفصلة متنوعة للنهار والمساء، فاتحًا لها المجال لكي تلعب بها وتوظفها بشكل يناسب حياتها اليومية.
ورغم أن الخطوط الغالبة تبدو بسيطة للغاية، فإن بعضها استغرق أكثر من 640 ساعة من العمل، حتى تأتي بالشكل المطلوب في موسم يطالب بالحرفية العالية، كما هو الحالي بالنسبة لفستان من الحرير من دون أكمام، شغله بقطع من فرو المنك بألوان مختلفة.