مدينة زيل إم سي

«أرض الجبال والأنهار... وطن الجمال... التي يحافظون عليها»، مقتطف من النشيد الوطني النمساوي، الذي يتغنى بطبيعة بلادهم وما حباهم الله من نعم طبيعية. وبالفعل فإنّ النمساويين يعتبرون طبيعتهم الخلابة «هبة إلهية» غاية في الجمال، لا بدّ من المحافظة عليها للاستمتاع بخيراتها ومناظرها الساحرة.

فالسياحة وحدها تُمثل قطاعًا هامًا في الاقتصاد النمساوي، وتدرّ نحو 16 في المئة أرباحًا على خزينة الدولة، بفضل جهود النمساويين الذين يعملون جاهدين على إنجاح هذا القطاع عالميًا، بمختلف مقوماته التاريخية والثقافية والفنية. ولا يخفى ما لثروات النمسا الطبيعية من جبال وأنهار وبحيرات ووديان وسهول بطبيعتها شديدة الخضرة في فصلي الربيع والصيف، وثلوجها شتاء، من أهمية تجذب السائح للاستمتاع بمناظرها المريحة للروح والبصر.

تنقسم النمسا إلى أقاليم تسع، ولكل منها مقوماته الجمالية وسياحته الخاصة به، كما لكل فصل سيّاحه بل عشّاقه من الذين يزورونه عامًا بعد عام متنقّلين من منطقة إلى أخرى، وقد يعود بعضهم ملهوفًا للإقليم ذاته، ومنهم عدد كبير من الخليجيين الذين يعشقون مناطق بعينها وأضحوا من روادها الدائمين وعلى رأسها «زيل إم سي».

 

 

- «زيل إم سي»
على الرّغم من أنّ العاصمة فيينا تحتل المرتبة السياحية الأولى في البلد عالميًا، فإن مدينة صغيرة جدًا، أمست الوجهة المفضلة لأعداد كبيرة من الخليجيين، ممن يقصدونها للإقامة فيها طيلة العطلة الصيفية. فما هو السر وراء جاذبيتها واستقطابها للسياح العرب تحديدًا؟

في رحلة استغرقت نحو 4 ساعات بالقطار من فيينا، زار مصدر صحافي مدينة «زيل إم سي» القابعة في منطقة كابرون في إقليم سالزبورغ التي لا يتعدى عدد سكانها الـ10 آلاف مواطن، ويمكن الوصول إليها برًا من العاصمة عبر مطاري سالزبورغ وميونيخ، ويعود تاريخها إلى العصر البرونزي، وقد نمت واشتهرت قديمًا كمعبر تجاري لمقايضة ثروة الإقليم من الملح ببضائع عينية تفتقدها مدن وقرى وسط سلسلة جبال الألب النمساوية.

تبعد «زيل إم سي» 60 كيلومترًا عن مدينة سالزبورغ عاصمة إقليم سالزبورغ مسقط رأس المؤلف الموسيقي الشهير موزارت، و100 كيلومتر عن مدينة انسبورك عاصمة إقليم تيرول الملقبة بجوهرة الألب وموطن الكريستال، كما تبعد 165 كيلومترًا عن مدينة ميونيخ الألمانية عاصمة إقليم بافاريا. وكما هو ملاحظ، فالمدينة الصغيرة تتميز بكونها قريبة لثلاث مدن كبيرة تزخر بمعالم سياحية ساحرة، وأسواق عامرة لمن يرغب في التسوق من أفخم المجمعات التجارية. أمّا للباحثين عن الصخب فلا مكان لهم في هذه المدينة الهادئة والوديعة.

- جمال «زيل إم سي»
يكمن في أنها قريبة من المنتجعات الطبيعية كسال باخ وباد غاشتاين التي يسهل الانتقال منها وإليها عبر المواصلات العامة، وهناك أيضًا سيارات خاصة للإيجار. تقع على ضفاف بحيرة يصعب وصف رونقها ولون مياهها وعذوبتها. بحيرة تتمدّد منبسطة بطول 4 كيلومترات وعرض كيلومتر وعمق 68 مترًا، يزيدها بهاء وجاذبية تلك الجبال شاهقة الارتفاع التي تؤطر منظرها من أعلى وكأنّها براويز لوحة بديعة تناسب تماما التقاط «سلفي» لا تضاهى.

وتؤهل هذه الطبيعة الثرية «زيل إم سي» لاستقبال السياح بمختلف أهوائهم ورغباتهم من جميع أنحاء العالم وفي كل المواسم. فللقادمين صيفًا تستقبلهم بخضرتها الشديدة ومروجها وورودها ومناخها اللطيف المنعش وقممها الجبلية وأوديتها وشلالاتها. ولقاصديها شتاء هناك فرص لا تُضاهى للاستمتاع بثلوج تكسوها بالكامل بوشاح أبيض ناصع، في أجواء شتوية تتجمد معها حتى مياه بحيراتها.

وتشتهر «زيل إم سي»، ببرامجها الرياضية الشعبية التي تختلف باختلاف المواسم. كما لا تخلو من احتفالات ترفيهية ومواقع ومبان أثرية تستحق الزيارة والتأمل، كقلب المدينة القديم الذي يضفي عليها حميمية لصغره وضيق أزقته ولكونه جسرًا يقود إلى مختلف الأنشطة والمحال، بما في ذلك المجلس البلدي والمتاجر والمطاعم والمقاهي ومرافق الخدمات وسبل المواصلات ومحطة القطارات.

ويرتبط اسم المدينة ببحيرة تُعتبر الأوكسجين الذي تتنفس منه، إذ إنّها توفر مياه شرب عذبة لسكانها ومناظر بديعة تسرّ البال وتفرح القلب، وهي مصدر رزق وفير، وليس أجمل من الجلوس على ضفافها أو المشي ومراقبة البط والإوز الذي يعيش فيها ويغوص في أعماقها ليتغذى من خيراتها. إلى ذلك تعتبر مسبحًا عامًا ومجانيًا يحلو فيه العوم والسباحة، رغم أن العابرات المائية تشقه لرحلات ترفيهية. وحين تتجمد مياهها شتاء تتحوّل جليدًا صلبًا بسُمك 22 مترًا تسمح السلطات بعبورها مشيًا على الأقدام والتزلج عليها، مما يضاعف من جمالية المنظر ويزيد من اعتزاز الأهالي ومتعة السياح.

وجدير ذكره، أنّ هذه المدينة استقبلت الصيف الماضي، أكثر من 70 ألف سائح خليجي، أي ما يفوق 80 في المئة من سياحها في ذاك الموسم.

- جبل كيتسشتاينهورن
كيتسشتاينهورن جبل شهير يرتفع شامخًا في قرية كابرون التي تبعد مسافة كيلومترين اثنين عن «زيل إم سي». من هنا تتوفر حافلات لنقل الزوار إلى محطة الانطلاق بواسطة 5 تيليفريك في رحلة لمشاهدة مناظر خلابة على طول الرحلة الغنية بلوحات طبيعية من الصخور. هذه الرحلة الهوائية، تغمر المرء بإحساس مثير وتجربة ممتعة وسريعة بفضل تطور سبل التقنية الآلية الآمنة للوصول لأكبر متنزه في منطقة جبال الألب.

وكما أوضح نوربرت كاريسبوك مدير كيتسشتاينهورن ردًا على مصدر صحافي، فإنّ الصعود إلى القمة قد شهد تطورات تقنية مذهلة، حيث اقتصرت الرحلة على 40 دقيقة فقط، مقارنة بالتجربة الشاقة التي قطعها يوهان انتاشر أول من تسلق قمته عام 1828.

وفي حديث صحافي، أكد كرستيان هورل، مدير المبيعات في الموقع، الذي حاول جاهدًا أن يجول بي إلى جميع الأماكن التي أستطيع زيارتها على الرّغم من رداءة الطقس، «حقيقة، تتحكّم الطبيعة وأحوالها الجوّية إلى حد كبير بالسياحة في منطقتنا»، مضيفًا: «هذه الطبيعة التي نصوّر تغيراتها الجميلة في فيلم سينمائي رائع نعرضه لزيادة إلمام الزائر بتلك التغيرات الملموسة التي يعيشها في رحلته وهو يتنقل ما بين القمم والأرض».

للأسف بسبب كثافة الثلوج وشدّة الرياح لم أتمكن من زيارة الكهوف الثلجية، ومن بينها كهف تتخذه شركة سيارات معرضا لأحدث منتجاتها، لكن هورل أسهب في وصفها حتى ارتسمت صورتها في خيالي من دون أن أراها. ظل يتحدث بفخر عن روعة السياحة الشتائية وبرامجها المتنوعة، خصوصًا بالنسبة لعشاق رياضة التزلج من الشباب والشابات، إضافة إلى عشاق تناول الطعام في المطاعم المتوفرة على تلك القمة التي تمتد على طول 120 كيلومترًا وارتفاع 3,798 متر في سلسلة جبال الألب الوسطى، حيث يتربّع «Hohe Tauern» أكبر متنزه وطني بمساحة 1,836 كيلومتر، وترتفع قمم أكثر من 300 جبل تفوق 3000 متر، بما في ذلك قمة غروس غلوكنر أعلى الجبال النمساوية، كما تعتبر المنطقة مدهشة بشلالاتها عندما تذوب ثلوجها صيفًا، وهي موطن سكن طبيعي لأكثر 10 ألف فصيل حيواني. ومعلوم أنّ كيتسشتاينهورن واحدة من أهم المواقع العالمية لرياضة التزلج شتاء و«الهايكينغ» والسير في الجبال ومنحدراتها وسهولها صيفًا.

- فندق غراند أوتيل
تتنافس فنادق ومتنزهات المدينة بمواقعها وإطلالاتها على البحيرة وما يحيطها من جبال على استقطاب الاهتمام. وتبقى تلك التي تنتصب قبالة البحيرة الأكثر طلبًا، مثل فندق الـ«غراند أوتيل» الذي يواجهها على بعد بضعة أمتار، كما أنّه لا يبعد عن محطة القطارات وقلب المدينة الأثري.

مبنى الفندق أثري بامتياز، شيّد ما بين الأعوام 1894 إلى 1896 على نمط المعمار الذي ساد إبان الفترة المعروفة بـ«Belle Epoque» التي يشير إليها التاريخ الأوروبي، بالحقبة الجميلة، ويؤرخ لها ما بين الأعوام 1871 إلى 1914 عام نشوب الحرب العالمية الأولى.

يعتبر مبنى الفندق مقرًا محميًا، ولا يحقّ لملّاكه إجراء أي تغييرات في بنيته الأساسية، على الرّغم من تمتّعهم بحرية العمل وإدارته لتطوير سبل الضيافة وتحديثها لخدمة النزلاء. ومع كثافة السياح العرب في المدينة، عمل الفندق على تعيين موظفين يتحدثون العربية كما يوفر منصة إلكترونية عربية لتسهيل إجراءات الحجز والوقوف عند رغبات العملاء.
- «زيل إم سي» وقانون حظر النقاب

 

 

في سياق آخر، لم نغفل  عن السؤال بشأن قانون حظر النقاب الذي جرى العمل به في جميع أنحاء البلاد، بدءً من أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وآثاره السلبية التي قد تنعكس على السياحة في موسم الصيف المقبل، خصوصًا أن نسبة السياح الخليجيين إلى هذا العام مرتفعة جدًا؟

ولم يخف البعض تخوفهم ومبدين قلقهم من هذا القانون، ومنهم روبرت غروبلاخر مدير المكتب النمساوي السياحي النشط في منطقة الخليج العربي، ومقره في مدينة دبي. فالسائح العربي عمومًا والخليجي خصوصًا مهم جدًا ودورهم في إنعاش الاقتصاد المحلي لا يمكن إنكاره، حيث شهدت المنطقة زيادة بلغت 18 في المئة في عدد السياح القادمين من دولة الإمارات العربية المتحدة هذا العام، وزيادة بنسبة 7 في المئة بعدد السياح من المملكة العربية السعودية، فيما وصل العدد الكلي 400 ألف خلال العام. وأشار روبرت غروبلاخر إلى أنّ الإعلام المحلي في دول الخليج أفاد بأنّ الحكومة السعودية عممت نصحًا لمواطنيها باتباع القانون ضمانًا لسلامتهم.

وكانت أندريا اشتفيتر الخبيرة السياحية في مدينة «زيل إم سي» التي تعدّ العدة لزيارة تسويقية ترويجية في أكثر من بلد خليجي خلال شهر فبراير/ شباط المقبل، قد أشارت إلى أنّ تطبيق القانون يجري لأغراض أمنية تتطلب الكشف عن ملامح الوجه، مضيفة أنّ هذه المدينة الهادئة، ترحب بالسياح العرب تمامًا كما ترحب بسياحها من مختلف بقاع العالم، موضحة أنّ ما يطلبونه من كل الزّوار هو احترام القليل مما يفرضونه كقواعد يُستلزم تطبيقها لراحتهم وراحة السّكان المحليين تمامًا كما هو الحال بشأن الحفاظ على قوانين المرور وربط حزام الأمان، والالتزام بالسرعة المحددة، ووضع الأطفال في المقاعد المخصصة لهم، والالتزام بقواعد نظافة المدينة والحفاظ على البيئة، والحرص على الإلمام بمواعيد إغلاق المحال التجارية والمواقع السياحية. بيد أنها شددت على أهمية أن يطّلع السائح عموما قبل سفره على قوانين أي بلد ينوي زيارته، وما هو مقبول وما هو مرفوض فيه، وهذا ما ستفعله هي بدورها قبل الانطلاق في رحلتها إلى الخليج، حسب قولها.

من جانبها شدّدت مارتينا ماركو من قسم التسويق في فندق "غراند أوتيل"، على حقيقة أنّ عدم مجيء العرب إلى «زيل إم سي» صيفًا، يعني خسارة فادحة ليس للمدينة فقط بل للمنطقة بأسرها، مؤكدة أنّ المنطقة بانتظارهم وبانتظار الترحيب بهم. فمتوسط إنفاق السائح الخليجي يفوق ما ينفقه السائح الألماني والروسي والهولندي، بل وحتى النمساوي إذا أخذنا بعين الاعتبار أن النمساويين يفضلون السياحة الداخلية.

- أهم المطاعم في المنطقة
تتوفر المنطقة على مطاعم متعددة تقدم أطباقًا عالمية ونمساوية على حد سواء. المشكلة أنها في أيام الإجازات تكون محجوزة بالكامل، وبالتالي تحتاج أن تكون مستعدًا للوقوف في طوابير طويلة إذا لم تحجز طاولتك قبل الوقت بأسابيع. ومن أهم المطاعم التي يعشقها السياح تلك التي توجد على قمم الجبال لما تتمتع به من أطباق شهية وفي الوقت ذاته ما تتيحه من مناظر طبيعية خلابة مثل «برايتيكالم» Breiteckalm و«غلوكنهاوس» Glocknerhaus و«بينزاور هات». Pinzgauer Hütte.

وتتوفر في المنطقة أيضًا مجموعة من المقاهي. يوجد أكثرها شعبية في فندق «بيرغ» Berghotel الذي يتمتع بموسيقى حية وأجواء احتفالية طوال الوقت. أما وسط المدينة فهناك عدة نواد ومقاه نذكر منها «بينزاور ديل كلاب روكس» Pinzgauer Diele club rocks و«أو فلانيغان» رغم أنه ضيق جدًا، و«فيلا كرايزي دايزي» التي تتمتع بأجواء حيوية وموسيقى حية في غالب الأحيان.